سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (الأخيرة): محمد قطب.. جمعته علاقة دافئة مع قطر.. والقرضاوي عرض عليه اللجوء

من جامعة الملك سعود قال بأن «الديمقراطية صنيعة يهودية»!

من مجلس محمد قطب بمنزله في حي العوالي بمكه المكرمة 2013 وفي الإطار غلاف كتاب {علم التوحيد} الذي كان مقررا على الطلبة السعوديين
من مجلس محمد قطب بمنزله في حي العوالي بمكه المكرمة 2013 وفي الإطار غلاف كتاب {علم التوحيد} الذي كان مقررا على الطلبة السعوديين
TT

سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (الأخيرة): محمد قطب.. جمعته علاقة دافئة مع قطر.. والقرضاوي عرض عليه اللجوء

من مجلس محمد قطب بمنزله في حي العوالي بمكه المكرمة 2013 وفي الإطار غلاف كتاب {علم التوحيد} الذي كان مقررا على الطلبة السعوديين
من مجلس محمد قطب بمنزله في حي العوالي بمكه المكرمة 2013 وفي الإطار غلاف كتاب {علم التوحيد} الذي كان مقررا على الطلبة السعوديين

في مسرح جامعة الملك سعود، وبدعوة عامة من عمادة شؤون الطلاب، عام 1983، قدم الراحل مانع الجهني، الأمين العام السابق للندوة العالمية للشباب الإسلامي، محمد قطب إلى الحضور الغفير الذي ملأ مدرجات القاعة بأدوارها الثلاثة. كانت المحاضرة بعنوان «مذاهب فكرية معاصرة»، وهي بالأصل كتاب كبير صدر عن قطب في طبعته الأولى في السنة ذاتها عن «دار الشروق» المصرية، وفيه يناقش بالتفصيل مذاهب ونظريات فكرية «غربية»، من أبرزها: «الديمقراطية، والإنسانية، والعلمانية، والوطنية!». حيث قرن قطب في كتابه فكرة الوطنية بمذاهب أوروبية المنشأ «كالمادية، والشيوعية، والرأسمالية..»، وغيرها.

الوطنية في رأي قطب ما هي «إلا عدوى أوروبية، ووسيلة من وسائل الغزو الفكري التي استخدمها الصليبيون في الحرب على الإسلام.. فهي اتجاه شرير، ذو نزعة غير إنسانية، لا يتوقع أن ينشأ منه غير الشر».
ختم مانع الجهني الندوة على الطريقة التقليدية للمحاضرات الدينية في المساجد، جامعا أسئلة الحضور لعرضها على «فضيلة الشيخ». كان أول سؤال وجهه الجهني إلى قطب: «ما هي أخطر التيارات الفكرية اليوم على الأمة؟ ومن يغذيها ويدعمها؟».
أجاب قطب بأن جميعها خطير، لكن «العلمانية بوصفها تفصل الدين عن الدولة هي أخطر التيارات ولا شك، ويدخل فيها كل التيارات الفكرية المعادية».
يؤكد قطب أن جميع هذه «المذاهب الهدامة هي من صنع اليهود لأجل محاربة الإسلام». وفي الوقت الذي تتنافس فيه أغلب الحركات الإسلامية اليوم على المشاركة في الانتخابات الحديثة، قرر قطب، منذ ذلك الحين، أن «الديمقراطية هي صنيعة يهودية»، مؤكدا: «والذي لا يصدقني في هذا فليذكر أن الديمقراطية هي الرأسمالية، والعنصر المسيطر في الدول الرأسمالية هم اليهود.. فالديمقراطية هي لعبة جميلة صنعها اليهود ليخدعوا الناس بأنهم هم من يحكمون أنفسهم، لكن في الواقع الذي يحكمهم فعلا اليهودية العالمية».
يمكن القول بأن فترة الازدهار والنشاط التي عاشها محمد قطب في السعودية، مقيما المحاضرات والندوات، ومتجولا بين دول الخليج لحضور الفعاليات والأنشطة، كانت منذ قدومه للسعودية بعد عام 1971، وحتى حرب الخليج عام 1990، حين وقفت جماعة الإخوان المسلمين بمصر موقفا مؤيدا لغزو صدام الكويت، وهاجمت دول الخليج لأنها استعانت بقوات أجنبية لصد العدوان العراقي على أراضيها، فأثر هذا الموقف على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المقيمين في الخليج، وتسبب في انحسار نشاطهم.
اعتزل محمد قطب في بيته... لكن بيته بمكة المكرمة، الواقع على شارع صدقي بحي العزيزية، أصبح ملتقى تجتمع فيه قيادات إسلامية وحركية شتى في كل وقت، نظرا لقربه من الحرم المكي الذي يؤمه المسلمون في حجهم وعمرتهم.
أصبح بيته يضج دائما بالزوار و«المحبين» والمتتبعين لآثار سيد قطب أيضا، من آخر الزيارات منتصف 2013، وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي من لبنان، حيث نشرت الجمعية تقريرا مفصلا عن زيارة محمد قطب إلى السعودية التي «تناولت أوضاع أهل السنة في لبنان وملف الثورة السورية المباركة، وخصوصا أوضاع النازحين، مع عرض من رئيس الجمعية عن هموم الدعوة في لبنان».
كما نشر الناشط الكويتي حاكم المطيري، مؤسس حزب الأمة المحظور، عبر موقعه الشخصي، صورة جمعته بقطب في مكة المكرمة، وكتب عليها معلقا: «حدثني محمد قطب حين زرته فقال أنا لست كأخي سيد، هو يحلق في السماء وأنا أمشي على الأرض!».
في منتصف 2011 انتقل إلى منزل جديد، في حي العوالي بأطراف مكة المكرمة، وهي من الأحياء الحديثة الراقية.. عانى في آخر حياته من ضعف البصر، كما أصيب بجلطة دماغية في سبتمبر (أيلول) 2009 شفي منها لكن بقي من آثارها مع كبر سنه أن عجز عن المشي إلا باستخدام القوائم الحديدية.

* إردوغان يزوره ويعرض عليه الإقامة بتركيا
* بحسب ما يرويه عبد الوهاب الحميقاني في صحيفة «يوم برس» الإلكترونية اليمنية، فإن أحد طلابه كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، يقول: «كان محمد قطب يزور تركيا ويحاضر فيها العامة والطلاب، وكان من بين هؤلاء الذين يحضرون له رجب إردوغان». وصل إردوغان للسلطة، واستقر قطب بمكة: «وفي إحدى زياراته الرسمية للسعودية، وبعد أداء العمرة توجه إردوغان بموكبه الخاص إلى منزل قطب، فقبل رأسه ويده وجلس بين يديه يطلب منه الدعاء وزيارة تركيا والإقامة فيها. اعتذر قطب لرغبته في مجاورة البيت الحرام»، وفقا لما كتبه الحميقاني في الخامس من أبريل (نيسان) 2014.
لكن الخبر الأكثر إثارة في هذا السياق، ما أوردته صحيفة «اليوم السابع» المصرية، في تقرير نشرته مطلع مارس (آذار) 2014 حول فضيحة الفساد التي طالت إردوغان ونجله في تركيا، وتسببت في اندلاع مظاهرات كبيرة في البلاد، حيث ذكرت نقلا عن صحيفة «توداي زمان» التركية أن هناك علاقة قوية تربط بلال (نجل إردوغان) برجل الأعمال المصري أسامة (نجل محمد قطب) حيث نشرت الصحيفة خبرا عن «تسريب صوتي يؤكد تورط بلال في أعمال فساد واستغلال نفوذ مع رجل الأعمال أسامة محمد قطب، لتسهيل الحصول على أراض مملوكة للدولة بأقل من نصف ثمنها».
ووفقا لموقع «فيتو» الإخباري الذي عرف بأسامة قطب قائلا: «هو رجل أعمال مصري نجل شقيق سيد قطب، حاصل على الجنسية التركية ولديه استثمارات هائلة في أنحاء تركيا وله علاقات قوية برجال أعمال في دول الخليج، يسعى بشكل كبير إلى جذب الاستثمارات إلى أنقرة».

* علاقة حميمة مع قطر
* لم تكن تركيا فقط هي من عرضت اللجوء والإقامة على محمد قطب، بل قدمت دولة قطر أيضا عرضا له بالانتقال إليها والإقامة فيها، والعمل في إحدى جامعاتها. جاء ذلك على لسان يوسف القرضاوي - الشخصية الأبرز في التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين - الذي قال: «قد دعوت محمد قطب لينتقل إلى قطر، ليعمل فيها، ويستقر بها، وكل أهل قطر يرحب به، وكم حاول معه صديقنا وصديقه الدكتور عبد الرحمن بن عمير النعيمي، ولكنه رفض أن يترك جوار المسجد الحرام الذي جعله الله قياما للناس وأمنا».
وفي مقال نشره القرضاوي في موقعه الشخصي بعنوان «الأمة الإسلامية تودع علامة الفكر والدعوة والتربية» نشره في الثامن من أبريل 2014، مستذكرا عددا من المواقف والذكريات معه، وبالأخص المحاضرات والفعاليات التي كان يحضرها قطب في قطر، قال القرضاوي: «دعوته أكثر من مرة إلى جامعة قطر، وإلى كلية الشريعة فيها، فاستجاب لدعوتنا عدة مرات، وألقى محاضرات جامعية، ومحاضرات عامة، واستفاد الطلبة، واستفاد الجمهور، وسعد العلماء والدعاة والمهتمون بالشأن الإسلامي بالجلوس والمحادثة والمناقشة معه. وكم شعرت بالسعادة حين دعوته في بيتي مع الإخوة، فاستجاب، وملأ بيتنا سرورا وبهجة».
يؤكد القرضاوي تتلمذه على أفكار محمد قطب، قائلا: «كنت، وكثيرون مثلي، ننتظر ظهور كتبه الجديدة، فنتلقفها لنقرأها وندرسها، ومنها: (واقعنا المعاصر)، و(مذاهب فكرية معاصرة)، و(كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟)، و(دراسات قرآنية)، و(حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية)، و(مفاهيم ينبغي أن تصحح) وغيرها... وكنت لقيته عدة مرات في زياراتي إلى مكة المكرمة وجدة، وكم دعاني أن أزوره في بيته في مكة، ووعدته بذلك، وكم تمنيته والله، ولكن كل زياراتي في مكة كانت سريعة، ولم يتحقق لي ما رجاه مني».
لم يكن القرضاوي وحده من أشار إلى هذه العلاقة الخاصة بين محمد قطب وقطر، فقد كتب التونسي أحمد القديدي - مستشار أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة - مقالا في صحيفة «الشرق» القطرية، في التاسع من أبريل 2014، بعنوان «ذكريات مع فقيد الإسلام المفكر محمد قطب»، قال فيه: «لي مع الشيخ محمد قطب بعض الذكريات التي لا تمحى من الوجدان، فقد زارنا في الدوحة عدة المرات، وتشرفت بتناول الغداء معه سنة 1998، وبتبادل الرأي في بيت جاري وصديقي وصديقه الأستاذ في الجامعة القطرية جمال عطية برفقة طيب الذكر المرحوم الأستاذ عبد العظيم الديب أحد أقطاب الإخوان (...) وكذلك صحبة المفكر المصري والعالم القانوني الدستوري أحمد كمال أبو المجد».
يضيف القديدي: «كان الشيخ محمد قطب يتجاوز في أحاديثه تفاصيل المحنة التي عاناها هو وشقيقه وأخواته، كان أغلب حديثه متجها للمستقبل، منشغلا بمحنة المسلمين جميعا لا بمحنته ولا بمحنة أسرته، ويذكرنا بما كان كتبه في كتابه (جاهلية القرن العشرين) من توصيف لحالة الأمة بعد انهيار سدها المنيع المتمثل في خلافتها الموحدة الجامعة وتقسيمها دويلات ضعيفة عاجزة بين ليبرالية واشتراكية، تلك المذاهب التي تبناها الحكام العرب حين تخلوا عن الشريعة (السمحة)، فتحولت دولهم اليوم إلى أذيال منهوبة وبيادق مسلوبة تابعة للقوى الغربية المسيحية الطاغية».

* آثار في التعليم السعودي
* رغم أهميته الفكرية والحركية في مسيرة الصحوة الإسلامية، فإن الدراسات والكتابات حوله قليلة ونادرة جدا، سواء كانت تأريخا أو نقدا من داخل الحركة أو خارجها؛ فقد طغت شخصية أخيه، ولم يكتب حوله إلا القليل. ولعل من الترجمات النادرة لمحمد قطب، أو ربما تكون هي الترجمة اليتيمة له، ما كتبه الداعية السوري محمد المجذوب في كتابه «علماء ومفكرون عرفتهم» في جزئه الثاني، حيث أصبحت أشبه بالترجمة المعتمدة لقطب، فانتشرت في كل المصادر والمؤلفات، بنقل وإحالة أو من دون، رغم أن المجذوب معروف بإخوانيته ودفاعه الشديد عن آل قطب، وذلك ما بات جليا في كتابته حول محمد، حيث دافع بشدة عن مواقفه، منتقدا ما سماها «توهمات الألباني حول أفكار الشهيد»، ورادا على علي الطنطاوي الذي انتقد إطلاق محمد قطب وصف «الجاهلية» على المجتمعات الإسلامية.
يروي المجذوب - وهو الذي أقام في السعودية فترة السبعينات والثمانيات مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - اللحظة التي سمع فيها بمحمد قطب بعد انقطاع أخباره في السجن الحربي بمصر، حيث يقول: «انقطعت أخبار الثلة المعذبة، حتى كدنا نيأس ببقائهم على قيد الحياة، وكان محمد قطب ممن شاع نبأ مصرعهم تحت التعذيب... ولكن كانت أسعد مفاجأة حين أعلنت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن أول محاضرة يلقيها محمد قطب في دار الحديث التابعة لها».
يضيف المجذوب: «ومنذ ذلك الحين تتابع لقائي مع المفكر الإسلامي الكبير الذي أصبح أستاذا بجامعة أم القرى على مقربة من البيت العتيق».
ورغم تخصص قطب في اللغة الإنجليزية، فإنه أصبح عضوا في هيئة التدريس بكلية الشريعة بمكة التابعة لجامعة الملك عبد العزيز، التي استقلت لاحقا ضمن جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
تنقل قطب بين الكثير من الجامعات السعودية يلقي المحاضرات والندوات التي تؤكد أفكاره ذاتها. ولعل إشرافه على مجموعة من الرسائل العلمية - رغم أنه لا يحمل درجة الدكتوراه - ساهم في تعميق انتشار أفكاره في أوساط الصحوة، حيث كان من أبرز تلاميذه وأشهرهم سفر الحوالي - الذي أصبح رمزا من رموز الصحوة في السعودية؛ ففي تخصص «العقيدة والمذاهب المعاصرة»، أشرف قطب على الحوالي في أطروحته للماجستير التي كانت بعنوان: «العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة»، وأشرف أيضا على رسالته للدكتوراه «ظاهرة الإرجاء في العالم الإسلامي»، وفيها أكد الحوالي المفاهيم القطبية في قضية «توحيد الحاكمية»، وتفسير «مقتضى لا إله إلا الله» التي يكون مرتكزها الأساس تطبيق الشريعة والمطالبة بها: «ومتى ما سقط هذا الأصل عد ذلك ناقضا في أصل الشهادة، ومبطلا لها حتى وإن صلى وحج وصام»، وهذا ما افترقت به السلفية العلمية في السعودية التي وصفت إضافة «توحيد الحاكمية» كقسم رابع إلى أقسام التوحيد الثلاثة، بأنه «قول محدث، مبتدع، منكر، ينكر على صاحبه» (ابن عثيمين، لقاء الباب المفتوح رقم 150).
كما أشرف قطب على عدد من الرسائل العلمية الأخرى في السياق الفكري ذاته، منها رسالة «الولاء والبراء» لمحمد بن سعيد القحطاني، ورسالة «أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة فيه» لعلي العلياني، كما أشرف على رسالة علمية ليوسف الأحمد بعنوان «الوثنية الحديثة وموقف الإسلام منها»، ورسالة «منهج الدعوة النبوية في المرحلة المكية»، لعلي الحربي، ورسالة «فكرة القومية العربية في ضوء القرآن»، لصالح العبود، وآخرين.
امتدادا لعنايته بالتعليم، أسند إليه وزير المعارف السابق حسن بن عبد الله آل الشيخ كتابة «مقرر التوحيد» لطلاب المرحلة الثانوية، صدرت الطبعة الأولى للمنهج عام 1977، وبعد إيقاف تدريسه في المدارس السعودية أعاد محمد قطب إصداره في كتاب بعنوان «ركائز الإيمان» عن دار «أشبيليا» بالرياض عام 1997.
في مطلع الثمانينات، أصدر كتابه «منهج التربية الإسلامية» في جزأين، ولاقى انتشارا واسعا، فكان أن كرمته جائزة الملك فيصل العالمية، ففاز بالجائزة (بالاشتراك) عن كتابه هذا، عام 1988، ضمن فرع «الدراسات الإسلامية التي تناولت التربية الإسلامية»، واشترك معه في الجائزة الباحث التركي مقداد يالجن نظير جهوده في التربية الإسلامية.

* سجال في الصحافة السعودية
* حين استيقظ السعوديون على صدمة الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان من الفاجعة أن 15 سعوديا من بين المتورطين في تنفيذ اختطاف الطائرات للاصطدام بها في برجي التجارة العالمية... منذ تلك اللحظة ظهرت كتابات وأبحاث تتبع الخلل الثقافي والفكري الذي يدفع بمثل هؤلاء الشباب لخيار العنف والعمليات الانتحارية باسم الدين.
نشط عدد من كتاب الصحف السعودية في نقد الخطاب الصحوي، وتجلية مدى ارتباطه بأفكار العنف والتطرف، وطبيعة مواقفه من العمليات الجهادية التي تحدث في كل مكان، وطال السعودية أذاها بعد ذلك فيما عرف بأحداث الرياض في مايو (أيار) 2003.
من الكتابات القليلة التي فطنت إلى امتداد تأثير طروحات محمد قطب في فكر الصحوة السعودية، ودورها في ترسيخ أفكار أصولية متطرفة في قلب الثقافة الإسلامية، ما طرحه الكاتب السعودي سعود القحطاني، في مقال له بجريدة «الرياض» في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2004. جاء المقال بعنوان «هل نحن مسلمون؟»، مستعرضا أبرز أفكار محمد قطب، وأدواره في التعليم بالسعودية، وارتباطه بسفر الحوالي أبرز وجوه الصحوة بالسعودية. أثار المقال جدلا وسجالا، وجاءت الردود ما بين مؤيد ومعارض.
يقول القحطاني: «.. (هل نحن مسلمون؟) كان هذا عنوانا لأحد كتب محمد قطب، الأستاذ السابق في إحدى الجامعات السعودية، والأخ الأصغر لسيد قطب.. مفهوم الحاكمية كان الفكرة الرئيسية التي يدور عليها هذا الكتاب، والحاكمية، كما يعرف الجميع، هي المصطلح الذي رفعته جماعات الإسلام السياسي في وجه مجتمعاتها، وجعلت منها حجة لتكفيرها والثورة عليها بحجة أنها مجتمعات جاهلية».
أورد القحطاني في ثنايا مقاله مجموعة من الشواهد التي تؤكد تكفير قطب للمجتمعات الإسلامية، ودعوته للثورة عليها. ثم أضاف معلقا: «هل يستغرب أحدنا الآن حين يعلم ما هو سبب اختيار أحد طلاب محمد قطب (وهو سفر الحوالي) لموضوع العلمانية والإرجاء محلا لرسالتيه الجامعيتين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه؟ مع ملاحظة أن رسالة الدكتوراه المذكورة قال عنها يوسف العييري - القائد لتنظيم القاعدة في السعودية - في أحد مؤلفاته: إن (الجهاديين) يستقون الكثير من آرائهم في التكفير منها!».
ختم القحطاني مقاله متسائلا: «كم من رسالة أشرف عليها هذا الرجل؟ وكم من مفهوم خاطئ زرع في عقل تلاميذه؟ وكم من متطرف خرج من عباءة هذا الفكر؟ هذا سؤال ما زال يحيرني، وإن كان الجواب يقلقني بشكل كبير».
لم يمر المقال مرور الكرام، فقد أثار مكامن المعتنقين للأفكار ذاتها، فكتب يحيى حسن حسني في 18 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، ردا نشر في الجريدة نفسها بعنوان «الخطأ ليس في فكر سيد ومحمد قطب ولكن في القراءة المتعسفة لهما»، دافع فيه حسني عن أفكار سيد ومحمد، مستخدما الطريقة الصحوية الكلاسيكية في الدفاع عن الآخرين، عبر اتهام المنتقدين بـ«التعسف وعدم الفهم والقراءة الخاطئة للأفكار». ورغم النصوص الصريحة المنسوبة إلى محمد وسيد، فإن حسني يقول: «مقالة القحطاني في مجملها اتهامات مكررة نتاج قراءات خاطئة ومتعجلة، وقبل أن أفند تلك القراءة فلا بد أن نقول إن الإنصاف يدعونا أن نعرف أقدار الرجال، لقد كان سيد قطب وأخوه لواءين من ألوية الحق مرفوعة».
استطرد بعد ذلك حسني في حديث «رومانسي» عن نضال سيد قطب وعبقريته، و«عظمة» كتاباته وأخيه ووضوحها في أخذ الأمة نحو «طريق الخلافة الإسلامية».
لكن السجال أخذ منحى آخر، وبعدا شرعيا، حين عقب سعد الحصين - باحث شرعي وتربوي - على مقال حسني، رادا عليه بوضوح بمقال مطول نشر في جريدة «الرياض» أيضا، في الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) 2004، بعنوان «لا ينكر التكفير في فكر سيد قطب إلا جاهل أو معاند وكتبه وردود العلماء عليه تؤكد ذلك»، وفيه أورد الحصين شواهد كثيرة تؤكد تكفير سيد قطب للمجتمعات الإسلامية، مقررا أنه قد «ترأس تنظيما إخوانيا أعد لاغتيال رئيس الجمهورية، وتفجير القناطر الخيرية والتجهيز لانقلاب مسلح».



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.