مؤسسة «المورد الثقافي» التي احتفلت بعيدها العشرين بـ«ميتروبوليس» في بيروت، يومي 24 و25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي: «هي أشبه بوزارة ثقافة عربية». هكذا وصفتها إحدى المشاركات في الملتقى الذي جمع شبكة واسعة من المبدعين في المنطقة العربية، وهم في غالبيتهم من الذين تعاونوا مع «المورد»، ومنهم من أصبحوا نجوماً بفضل تمويلاتها، ومشاريعها المختلفة.
كان من الممتع متابعة النقاشات الصريحة، التي دارت حول مواضيع في الصميم مثل العمل الثقافي في اللحظة السياسية الراهنة، والتحولات الرقمية، والمشاع كممارسة، واللغة وحدودها، ودارت حلقة نقاش كبرى حول «التمويل والإقصاء والبدائل»، شارك فيها أكثر من عشرين شخصاً.
موضوع التمويل الغربي، الذي اعتمدت عليه بشكل أساسي مؤسسة «المورد»، والعديد من المؤسسات الثقافية العربية، كان موضع أخذ وردّ.
وعادت بشكل متكرر فكرة أن حرب الإبادة هي محطة فاصلة، بعدها ليس كما قبلها. وجاء في كتيب «المورد» للملتقى الذي حمل عنوان «النسيج حي» أن «الإبادة الجماعية في غزة والحروب المتواصلة على المنطقة تعيد تذكيرنا بضرورة اللقاء والتفكير المشترك وإعادة ترتيب الأولويات، كما تؤكد أهمية ما نقوم به في مواجهة استراتيجيات المحو الممنهجة التي يمارسها المشروع الصهيوني وحلفاؤه، التي لا تستهدف الأرواح فحسب، بل تطال العمران والتراث والهوية واللغة والأرشيف...».
وتأمل «المورد» من خلال هذا اللقاء أن «نعيد النظر معاً في الممارسات والقيم والنماذج والعادات التي نود التخلي عنها، أو استعادتها واستكشاف أدوات ومقاربات جديدة، كفيلة ببناء مستقبل يكون فيه الإنسان أولوية».
انقسمت الآراء، بين من قال إنه بات يرفض كلياً التمويل الغربي الذي يأتي من مصادر أميركية والاتحاد الأوروبي، وهؤلاء قلة، وقسم آخر رأى أن التخلي عن التمويل مشكلة لأنه يصعب جداً على أي مؤسسة ثقافية أن تعتمد على مداخيلها الخاصة.
ومالت الأغلبية إلى الاعتماد على الذات بشكل جزئي. تحدثت هانية مروة، مديرة «ميتروبولوس»، وهو مركز ثقافي تعددي فيه صالات سينما عن تجربتها الطويلة والمشجعة. وقالت إن «ميتروبوليس» يحاول أن يتخلى عن التمويل بالمداخيل الذاتية. «بيع (البوب كورن) مثلاً ندفع منه معاشات الموظفين، وبعض التذكارات الصغيرة، وتأجير الصالة لمناسبات صباحية يسد جزءاً آخر. باتت مداخيلنا الخاصة تؤمن 35 في المائة من حاجاتنا، والهدف القريب تأمين نصف المصروف. ولو توقفت المساعدات، بمقدورنا أن نقتصد ونستمر».
إيمان حموري مديرة مركز «الفن الشعبي» في فلسطين، اعتبرت أن «الثقافة كانت مشروعاً تحررياً، لكن بعد (أوسلو) وجدت مؤسسات تجسد النيوليبرالية، يوجه من خلالها الممولون المشاريع الثقافية لتكون غير سياسية. وهكذا دخلنا معهم في التسويات». وعلقت على التجربة: «لقد وقعنا في الفخ، وأقنعنا أنفسنا بأن الأمر عادي، ووافقنا على تنازلات».
حموري من الذين يرون أنه كان ثمة إحساس بأننا نقاوم الموجة، ونحاول أن نفرض رأينا من الداخل «ولم ندرك أنهم يسيرون بشكل ممنهج للوصول إلى غاياتهم، إلى أن جاء التمويل المشروط عام 2019 من الاتحاد الأوروبي، وكنا مجبرين على توقيع العقود المشروطة».
من هنا، كان شبه توافق على أهمية بناء شراكات مع المحيط المحلي، للتحرر من التمويل الأجنبي، قدر الممكن.
بكلام آخر، العودة إلى الأساليب القديمة التي اعتمدت عليها الحياة الثقافية في القرن الماضي. المسرحي روجيه عساف كان قد تحدث عن ضرورة بناء علاقات مع مؤسسات، وشركاء، وتبادل دائم بين المبدعين من مختلف المجالات. أعطى مثلاً مقهى «الهورس شو» في بيروت الستينات؛ حيث كان يلتقي الكاتب بالرسام بالمسرحي بالصحافي والموسيقى، نعمل معاً، نتبادل الخبرات، وهناك العلاقة الوثيقة مع الجمهور أيضاً.
هذه الشبكة هي التي تعطي الدفع المالي والمعنوي للعمل الثقافي. حموري من باب الاستغناء عن التمويل افتتحت في مركزها مدرسة للدبكة تسهم في ثلث المصروف، بالإضافة إلى الشراكات التي تعمل على تقويتها و«بالتضامن تكبر الحلقة».
من تونس أحمد أمين العزوزي طرح شكلاً آخر من أشكال الرجوع إلى الممارسات القديمة، وهي أن نتخلص من فكرة المهنة الفنية التي نتفرع لها، ويمارس الفنان إبداعه إلى جانب مهنة أخرى تؤمن له مدخوله، كما كان الحال في السابق.
قال مشاركون إن الفاعلين الثقافيين ليسوا وحدهم من أُفسدوا، ولكن الجمهور أيضاً اعتاد العروض المجانية، وبات لا يريد أن يشتري تذكرة الدخول، أو أن يسهم في تمويل الأنشطة الثقافية ولو بمبالغ رمزية، بحسب سيرين قنون، مديرة مسرح الحمرا، في تونس.
شرحت إحدى المشاركات بأن قبول تمويلات الأوروبيين والأميركيين في التسعينات «كان بسبب تقاطع أجنداتنا مع الجهات الممولة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. هم كانوا يريدون الترويج لقيم حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان، ونحن بحاجة لهذه المبالغ. الآن اكتشفوا حدود إمكاناتهم، وتغيروا، ولسنا نحن من تغيرنا».
بطبيعة الحال التمويلات الغربية السخية للثقافة العربية تشحّ، ولربما ثمة إحساس بأن الصنابير قد تغلق كلياً في أي لحظة، فأولويات الممولين قد تتغير، وما يريدونه من المنطقة العربية قد يصلون إليه بطرق أخرى غير الثقافة.
وهذا ما يفهمه الفنانون العرب، إضافة إلى صدمة غزة التي تركت ندوبها على الأرواح وفي الضمائر. وبالتالي ما العمل؟ سارة كحيل من فلسطين، مستشارة في تطوير الموارد، رأت أننا «أصبحنا أمام سؤال صعب. هل نبقى نعمل معهم، على اعتبار أننا نغير من الداخل، أم أن وقت الحوار انتهى؟».
شرحت كحيل أن «ثلاثين سنة مضت، ونحن يُطلَب منّا أن نخفف من قول: من نحن؟ فعلاً صار لزام علينا أن نفكر من هو الممول؟ وكيف يجب أن نتعامل معه؟ وما البدائل؟».
حيدر حلو مخرج وممثل، هو المدير الفني لـ«مؤسسة بغداد للأفلام»، قال إن الفنانين المستقلين أهم ما يعنيهم هي الحرية. نحن من خلال التجربة العراقية نعتبر أنفسنا كما كل المنطقة العربية ركاباً في طائرة مخطوفة، وبحاجة لأن نتفاوض مع الخاطفين، وعندما يطلقون سراحنا، نستطيع أن نتحدث ونقرر». واقترح حلو التفكير والمراجعة المستمرين؛ حيث إنه لا حل سحرياً لهذا الموضوع. حالياً للتغلب على المشكلة «نعمل بشراكة مع مؤسسات صديقة، ونود أن نقلب المثلث؛ أن نتعاون في زملائنا العرب. نحن الآن نتعاون مع زملائنا اللبنانيين، هم يصورون في العراق ونحن نصور في لبنان، ونكبّر هوامشنا باطراد. كانت طفرة غربية في رأس المال»، اعتبرتها ليلى حوراني التي سبق وعملت مع مؤسسات مختلفة. ورأت أننا «كلنا مذنبون، وكلنا متواطئون»، مؤكدة ما قالته فاتن فرحات، عضو الجمعية العمومية لـ«المورد». وأكملت حوراني: «أنا قاطعتُ أصدقاء، لم أعد ألتقي معهم بعد الإبادة؛ فهل سيصعب علي مقاطعة المال؟»، مشددة على أن المقاطعة تحتاج إلى أن يجد الإنسان وراءه من يسانده. «يجب أن نتعاون و(نشيل) بعضنا بعضاً». وأوضحت حوراني أن مؤسسة «فورد» كان لها 10 مكاتب في العالم، 40 في المائة من تمويلها يذهب لخارج أميركا. «اليوم يريدون أن يغلقوا على أنفسهم، هل أقاطع أم أصارحهم؟ نحن بحاجة لأن نوزع الأدوار بكل دهاء فيما بيننا. الجميع في وضع صعب مالياً. لذا يجب أن نجلس ونتشاور كقطاع لنرى ما علينا أن نفعل».
إحدى الحاضرات للجلسة قالت إنها اشتغلت مع مؤسسة «فورد» سابقاً وعاشت التجربة، لهذا تعتبر أن «الجلسة كانت مخزية»، قائلة: «نحن نمارس الرقابة على أنفسنا. هل نسيتم أننا نحن دول الجنوب تم تفقيرنا وسرقة مواردنا. الأموال التي تصلنا هي (سوفت بور) أو (احتلال ناعم)». وأكملت: «نحن نبيع سردية غربية ملطفة، نحتاج إلى شجاعة وعمق أكبر. البرغماتية هي التي أوصلتنا إلى هنا».
حسام الثني، باحث ليبي في السياسات الثقافية، رأى أن دور الدول هو تهيئة البنية التحتية الثقافية، لا تمويل المشاريع التي يجب أن تبقى حرّة، إن أردنا استقلالية. فالممول بطبيعة الحال، سيتحكم بالاتجاهات الثقافية. والمخرجات تذهب هدراً بدلاً من أن يعاد تدويرها.
المراجعات بدأت من الجلسات الأولى. شبهت كريستين طعمة مؤسسة «أشكال ألوان» في لبنان، الوضع اليوم بما كان عليه في تسعينات القرن الماضي. «لا فرق بين المشكلات التي يواجهها الفنانون الشباب اليوم، وتلك التي عشناها في ذلك الوقت، أي علينا أن نعمل بالموجود والمتوفر. عدنا لنفس المكان الذي بدأنا منه قبل 35 عاماً». كثيرون تحدثوا عن الحائط المسدود الذي وصل إليه الجميع. الإيجابية الوحيدة هي أننا نجابه مشكلات نتشارك فيها مع العالم أجمع، ولسنا وحدنا هذه المرة.
إدريس كسيسكس روائي ومسرحي مغربي، وصفها بأنها «أزمة وسائط سياسية فقدت مصداقيتها في كل العالم. سقف الحلم الذي كان موجوداً في القرن الماضي لم يعد قائماً. اضمحلت فكرة التعددية وحلت الفاشية. صرنا أمام خيارين: إما المشروع الوطني أو العنصري الإبادي». في المقابل فإن العالم الحقيقي الوحيد هو الثقافة والفن، ومن خلال كتابة الذاكرة هناك نوافذ تُفتَح.
تداول المجتمعون في انهيار القيم، والموجة الكولونيالية الجديدة، وبروز دول الجنوب، وأين على الفنان والمثقف العربي أن يقف؟
اللقاء هو اجتماع عربي ثقافي، ودّعت خلاله مديرة المورد، إيلينا ناصيف، المجتمعين بكلمات مؤثرة، شارحة الصعوبات التي واجهتها عند تسلمها «المورد»، بعد أن انتقل المقر من مصر إلى لبنان، معتبرة أن السنوات العشر المقبلة مهمة جداً، وأنها تترك المؤسسة بين أيادٍ أمينة؛ حيث تتسلم مكانها ألما سالم، التي تحدثت عن «امتداد المنطقة العربية من المشرق إلى المغرب، وتحويل الجغرافيا إلى فكرة ولوحة مفتوحة، فيما المنطقة يعاد تشكيلها. وعملنا لا على أن نرث المنطقة بل أن نبتكرها».
تأسست «المورد» كمؤسسة غير ربحية في مصر عام 2003 بمبادرة من بسمة الحسيني، وكان لها أنشطة مهمة، مثل «مسرح الجنينة» و«مدرسة الدرب الأحمر»، وتم تمويل العديد من البرامج الثقافية. وفي عام 2017 انتقلت «المورد» إلى بيروت، واستمرت في دعم فنانين ومؤسسات ثقافية بمجموعة برامج. تشمل إنتاج أعمال جديدة والسفر والترويج لهذه الأعمال، وبرامج تدريب ومنشورات باللغة العربية تهدف لتطوير مهارات المديرين الثقافيين والمؤسسات الثقافية، وبحوث في السياسات الثقافية، ودعم الفنانين المعرضين للخطر.
ببلوغها عامها العشرين، فإن «المورد» تواجه تحديات بسبب الأزمات المالية لدى الجهات الممولة، وأزمة أخلاقية بسبب الإبادة، وهو ما استحق مراجعات الفنانين واقتراحاتهم واجتهاداتهم.
