قال المخرج البريطاني روان أثالي إن اختيار المشهد الافتتاحي لفيلم «العملاق» لم يكن قراراً مفاجئاً، بل كان محدداً منذ المراحل الأولى للكتابة، موضحاً أن الفيلم يبدأ بلحظة فوز نسيم حامد الساحق ببطولة الملاكمة، لأنها تمثل الذروة الأهم في حياته، حين تحوّل إلى ظاهرة داخل الولايات المتحدة، لكنها في الوقت نفسه اللحظة التي بدأ فيها يفقد علاقته بمدربه بريندون إيجل.
وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا التناقض هو جوهر الفيلم، حيث يتجاور الانتصار المطلق مع بداية الخسارة الإنسانية، وهو ما دفعني لتصوير المشهد بالأبيض والأسود، باعتباره انتصاراً لا يقبل التأويل أو الالتباس، تماماً كضربة قاضية في حلبة الملاكمة، قبل أن يبدأ السرد لاحقاً في كشف الألوان المتعددة والمعقدة التي تحكم القصة والشخصيات».

وأوضح أثالي أن الانتقال البصري من الأبيض والأسود إلى الألوان لم يكن مجرد خيار جمالي، بل تعبير عن طبيعة الحكاية نفسها، مشيراً إلى أن ما يبدو في ظاهره لحظة حاسمة وواضحة يخفي وراءه طبقات متشابكة من المشاعر والدوافع والتناقضات، وهو ما أراد أن يتكشف تدريجياً أمام المشاهد، وفق قوله.
وأكد أن «الفيلم لا يسعى لتقديم سرد مبسط أو أحادي، بل يفتح المجال لرؤية متعددة الزوايا، حيث لا توجد حقيقة واحدة مطلقة، بل شبكة من العلاقات الإنسانية التي تتلون مع الزمن والنجاح والخذلان».
وعن دقة الفيلم تاريخياً، قال المخرج إن «العمل لا يدّعي تقديم توثيق حرفي لكل تفصيلة، لأن الفيلم يضغط ما يقرب من عشرين عاماً من حياة شخصياته في أقل من ساعتين، وهو ما يفرض بالضرورة تكثيفاً زمنياً ودرامياً»، مشيراً إلى أن بعض الأحداث التي استغرقت سنوات في الواقع جرى التعبير عنها من خلال نزالات محددة أو محطات مفصلية، لكنه شدد في المقابل على أن الخط الزمني العام دقيق، وأن الأهم بالنسبة له كان صدق المشاعر التي عاشتها الشخصيات في تلك اللحظات، كما كشفتها أبحاثه وشهادات من عاصروا تلك الفترة.
يتتبع فيلم «العملاق» الذي عرض في افتتاح النسخة الماضية من «مهرجان البحر الأحمر» جانباً مفصلياً من رحلة الملاكم البريطاني من أصل عربي، نسيم حامد، لكن من خلال منظور مدربه بريندون إيجل، الرجل الذي اكتشف موهبته في صالة ملاكمة متواضعة بمدينة شيفيلد مطلع الثمانينات.
يبدأ السرد من ذروة المجد، مع فوز نسيم بلقب عالمي جعله ظاهرة رياضية وإعلامية، قبل أن يعود الفيلم بالزمن إلى طفولته، حين يلتقطه بريندون بعينه الخبيرة ويبدأ في تشكيله بدنياً ونفسياً، ليس فقط كملاكم، بل شخص قادر على مواجهة عنصرية المجتمع المحيط وتحويل الكراهية إلى وقود للنجاح داخل الحلبة.
ومع تصاعد شهرة نسيم وانتصاراته المتتالية، تتوتر العلاقة بين التلميذ ومدربه، إذ تتداخل الطموحات المادية والغرور والضغوط العائلية مع فلسفة التدريب الصارمة التي يتبناها بريندون، ويصل الصراع إلى ذروته بانفصال الطرفين بعد سنوات طويلة من الشراكة، لتنعكس آثار هذا الانفصال على مسيرة نسيم داخل الحلبة وخارجها.

يؤكد المخرج روان أتال أن من أكثر ما يعتز به في «العملاق» هو الأداء الذي قدمه الممثل أمير المصري معتبراً أن ما أنجزه يتجاوز حدود التمثيل التقليدي رغم ثقته في موهبته قبل ترشيحه، لكن التحدي الحقيقي تمثل في الجانب الجسدي للدور، فالفيلم يتطلب حضور ملاكم محترف داخل الحلبة، وهو ما يحتاج عادة إلى شهور طويلة من التدريب، في حين لم يستغرق أمير سوى أربعة أسابيع فقط للاستعداد، ومع ذلك قبل التحدي من دون تردد، مؤكداً استعداده لبذل أي جهد من أجل إنجاح الفيلم.
وأشار إلى أن «أمير خاض خلال تلك الفترة القصيرة برنامجاً تدريبياً قاسياً، عمل فيه يومياً ولساعات طويلة مع منسقي المعارك ومدربي القتال، إلى درجة أنه كان ينتقل مباشرة من موقع التصوير إلى صالة التدريب ليقضي ما يصل إلى خمس ساعات يومياً في التحضير البدني والحركي».
وأوضح أن «مشاهد النزالات جرى تصويرها في المراحل الأخيرة من التصوير لمنحه أكبر وقت ممكن للتطور»، لافتاً إلى أن التحول الذي حققه، من تدريبات أولية بسيطة إلى الأداء القتالي المعقد الذي يظهر في الفيلم، يُعد أمراً نادر الحدوث في سينما أفلام القتال، معتبراً ما حققه أمير أمام الكاميرا يفوق ما ينجزه كثير من الممثلين الذين تتاح لهم فترات إعداد أطول بكثير.
بالانتقال للحديث عن تفاصيل العمل، يقول أثالي إنه أجرى بحثاً موسعاً شمل قراءة مكثفة ومقابلات مع أكثر من عشرين شخصاً كانوا قريبين من التجربة، سواء داخل الصالة أو في محيطها، مؤكداً أن هدفه لم يكن الانحياز لطرف على حساب آخر، وأن الانقسام الذي حدث بين نسيم ومدربه يشبه في جوهره حالات الانفصال الإنساني المؤلمة، حيث يميل كل طرف إلى تبني روايته الخاصة، لكن الحقيقة غالباً ما تكون موزعة بين الجميع.
وأكد أنه تعمّد «عدم شيطنة أي شخصية أو تبرئة أخرى»، وفق قوله، ساعياً إلى تقديم صورة إنسانية عادلة، تعترف بالخطأ والفضل معاً، وتترك الحكم النهائي للمشاهد.
واختتم المخرج حديثه بالتأكيد على أن «العملاق» ليس فيلماً عن بطل واحد بقدر ما هو فيلم عن الكيفية التي يمكن بها للموهبة، حين تلتقي بالتدريب والحب والسيطرة والخوف، أن تصنع مجداً هائلاً، لكنها في الوقت نفسه قد تزرع بذور الانكسار. وأضاف أن صدق هذه الرحلة الإنسانية كان هاجسه الأول، وأنه فضّل الصراحة والإنصاف على الإثارة أو التجميل، إيماناً منه بأن قوة الفيلم الحقيقية تكمن في إنسانيته لا في أسطورته.




