على مدى عقود، ارتبطت أرباح السينما المصرية بسوقها المحلي، بيد أن السنوات الأخيرة شهدت انقلاباً واضحاً في المعادلة؛ إذ أظهرت بيانات حديثة أن السعودية تحوّلت إلى السوق رقم واحد للفيلم المصري، وذلك حسب ما أظهر تقرير حول اتجاهات صناعة السينما المصرية؛ جاء عرضه ضمن فعاليات «ملتقى القاهرة السينمائي»، التي أقيمت الأسبوع الماضي.
وتؤكد البيانات أن السعودية لم تعد مجرد سوق لعرض الأفلام المصرية، بل تحوّلت إلى المحرك التجاري الأقوى لهذه الصناعة، فنجاح الفيلم المصري اليوم يُقاس بما يحققه في الرياض وجدة والدمام، أكثر مما يُقاس بما يحققه في القاهرة والإسكندرية.
وتشير بيانات التقرير الذي عرضته «فرايتي» الأميركية إلى أن الفيلم المصري يعيش اليوم مرحلتين متباينتين من النجاح: نجاح محدود داخل مصر، ونجاح كبير في الأسواق الخليجية، وفي مقدمتها شباك التذاكر السعودي، فالأفلام التي تحقق إيرادات متوسطة (داخل مصر)، تقفز في الخارج إلى أرقام ضخمة تتجاوز أحياناً 10 أضعاف ما تحققه في موطنها الأصلي.
قفزة الإيرادات الخارجية
ومن أبرز الأمثلة على هذا التحول؛ فيلم «بحبك» الذي جمع أقل من 3 ملايين دولار داخل مصر، لكنه حصد أكثر من 22 مليون دولار في الخارج، والأمر نفسه تكرر مع فيلم «ولاد رزق 3»، الذي بلغت إيراداته المحلية نحو 6 ملايين دولار فقط، بينما تجاوزت أرباحه الخارجية 22 مليون دولار، أما فيلم «وقفة رجالة»، فقد أصبح من بين أعلى الأفلام المصرية تحقيقاً للإيرادات خارج مصر، على الرغم من محدودية إيراداته الداخلية.
وتُظهر هذه الأرقام، وفق التقرير، أنها جزء من نمط متكرر يؤكد أن السوق الخارجية هي التي تحدد اليوم مصير الفيلم المصري، وليس السوق المحلي الذي يعاني أصلاً من تحديات ضعف القوة الشرائية وارتفاع تكلفة الإنتاج وتقلّبات الاقتصاد.

السعودية... السوق رقم واحد
كما أن البيانات التي استعرضها التقرير تكشف بوضوح عن أن السعودية أصبحت السوق الأكبر والأكثر ربحية للأفلام المصرية، فعام 2024 شهد عرض 33 فيلماً مصرياً في دور العرض السعودية، محققة أكثر من 53 مليون دولار، وهو رقم يفوق ضعف إيرادات جميع الأفلام المصرية داخل مصر خلال الفترة ذاتها، التي لم تتجاوز 23.5 مليون دولار.
وهذا التفوق اللافت جعل كثيراً من المنتجين المصريين يعيدون توجيه بوصلتهم نحو السوق السعودية، باعتبارها السوق الحقيقية التي يمكن أن يسترد فيها الفيلم تكلفته وينجح تجارياً، يُضاف لذلك أن الإنتاجات المشتركة -المصرية السعودية- تستفيد من حوافز مالية وضريبية تزيد من جاذبيتها، ومن أمثلتها فيلم «رحلة 404» الذي مثل مصر في سباق الأوسكار للأفلام الدولية.
تعافٍ مصري بطيء
ورغم هذا الازدهار الخارجي، لا يزال السوق المصري يتحرك ببطء نحو التعافي بعد تبعات جائحة كورونا، حيث ارتفع عدد التذاكر المباعة من 12 مليوناً في 2024 إلى نحو 13.8مليون تذكرة متوقع بيعها في 2025، وهي أرقام قريبة من مستويات ما قبل الجائحة، لكنها لا تعكس ازدهاراً حقيقياً، كما أن ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الجنيه المصري أضعفا من القيمة الفعلية للإيرادات داخل السوق المحلي عند تحويلها إلى الدولار... وهذه الظروف مجتمعة تجعل السوق المصرية بيئة أقل استقراراً للمنتجين، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف الإنتاج واحتدام المنافسة مع المنصات الرقمية.
نجاحات في الخارج
واللافت أيضاً أن مفهوم النجاح للسينما المصرية لم يعد حكراً على الأفلام ذات الميزانيات الكبيرة، حيث حقق فيلم «سيكو سيكو» متوسط الميزانية أكثر من 4 ملايين دولار في مصر، لكنه جمع مبلغاً مماثلاً في السعودية وحدها، ليصبح ثاني أنجح فيلم في تاريخ السينما المصرية. كما برزت مؤشرات أخرى تعكس ارتفاع الاهتمام بالأفلام الفنية؛ إذ حقق فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» أعلى إيراد لفيلم فني في تاريخ السوق المصري. ومع هذا التحوّل، تبدو صناعة السينما المصرية أمام مرحلة جديدة ستؤثر فيها الأسواق الإقليمية، خصوصاً السعودية، في خيارات الإنتاج والتسويق، وربما في طبيعة القصص التي تُروى على الشاشة.

