تنشأ منحوتات الفنان اللبناني نبيل ريشاني من قوس حارّ يلتفّ حول ذاته ثم ينفلت. حوارٌ طويل مع الخشب حين يُعاند سكّين النحّات ويُطاوعها في آن. بعنوان «انحناءات»، يجمع ريشاني، في «ريبيرث بيروت» بمنطقة الجمّيزة، أعمالاً تضع الجسد في صميم الإيقاع. فالكتلة تصير هبَّة خفيفة، والخطّ يخرج من عقدته ليعثُر على مساحته.
الخشب هو البطل الذي يشيخ ويُصقل. لمعانه طبقة ذاكرة تُظهر مسارب العروق وتُثبّت تاريخ الشجرة في هيئة جديدة. الانحناء هنا حركة شكلية وأيضاً فكرة أخلاقية وجمالية. فالأعمال تُمسك الغريزة وتُروّضها، وتُحيل الفورة إلى رقصة، وتُصغي للثقل كي يتوازن ولا يقع.

تبدو بعض القطع كأنها تُدرّب الذات على الكبح. الأذرع الخشبية تتشابك ثم تفكّ قبضتها ببطء، مثل نَفَس طويل يمرّ عبر الجسد ليُهدّئ اندفاعه. لا صراخ في هذه المنحوتات. فقط تربية على التمهُّل. فكلّ طرف يريد أن يسبق الآخر، ثم يدرك أنّ الخلاص يتحقّق في التناغم. الغلبة لا تفيد في حالته. هنا تتبدَّل «القوة» من مقياس عضلي إلى انضباط داخلي. وتلتقي الحافّة الحادّة بالزاوية المُدوَّرة، فيحصل السلام المؤقّت بين الرغبة وحدودها.

قطعٌ أخرى تحمل مزاج النجاة. أشكال بشرية مُختزَلة ورؤوس بيضوية وأجساد رشيقة تتسلَّق كتلة عمودية، تصنع سلَّماً من أجسادها وتترك فراغاً لإنسان يتأمّل من بعيد. الحركة عند ريشاني جماعية بقدر ما أنها فردية، والنجاة لا تُنجزها ذراع واحدة. اليد تمتدّ إلى يد والخطّ يصير مساراً. حكاية طبقات تتآزر كي لا تسقط.
تطلّ «ثنائية» مُغايرة حين يتحوَّل الجسد إلى رقص. المنحنيات تُنشئ خطوة تُقابلها خطوة، والتفاف يعترف بوجود شريك، وممرّ هوائي يُشبه النور حين يشقّ طريقه بين جسدين. ليس المقصود إثارة العين بقدر ما أنه استدعاء الإيقاع. فكلّ قوس جوابٌ لقوس سابق، وكلّ فتحة هادئة هي محطّة لإيقاف الزمن لحظةً قبل استئناف الدوران. اختلاف المسارات يمنح الحركة معناها.

في مجموعة ثالثة، يقترب الفنان من صورة الأمومة من دون وصف مباشر. كتلة واحدة تنبثق منها ثلاث قمم مستديرة، كأنّ الجذع القديم أنجب ملاذه. القُرب جسدي، لكنّ الإيحاء روحي. تحدُث الحماية في العمل بغير تكلُّف، والسكون فيه لا يُعطّل الفيض. تتولّى العروق الطبيعية للشجرة سرد ما لا تقوله التفاصيل، فتظهر الأم على هيئة حرارة تتوزّع في الخشب، وليست شكلاً كاملاً.
ثمة عمل يلتفُّ مثل عقدة جميلة، كأنه يُلمِح إلى أنّ الأمتعة النفسية الثقيلة لا تُرمَى دفعة واحدة. منحوتات ريشاني تُقدّم اقتراحاً آخر هو التخفُّف عبر التنعيم. الحواف التي كانت مُدبَّبة تُصقَل حتى تغدو قابلة للمسّ، والعقدة تتَّسع ليمرّ الهواء من خلالها. حين يصبح الفراغ جزءاً من التكوين، تتنفَّس الكتلة. وحين تُفتح نافذة صغيرة، يتبدَّل المزاج كلّه.

واحدة من أكثر اللحظات شاعرية تظهر في ثنائي يقترب أحدهما من الآخر حتى يكاد تلمس جبهته جبهة شريكه. لا ملامح محدَّدة، ومع ذلك تتسرّب الحميمية. فالمسافة محسوبة كي لا يتحوَّل الحبّ إلى ابتلاع. الفراغ بين القمّتين جزء من العناق، والظلال فوق السطح المصقول تمنح المشهد دفئه. هكذا يصنع الخشب رائحته بالمعنى غير الحسّي، أي بالذاكرة التي تُشتمّ حين يلتقي الخطّان في نقطة أمان.

ويتقدّم عملٌ آخر على هيئة طاقة تندفع ثم تُقصّ أجنحتها في اللحظة المناسبة. هناك إحساس بانطفاء مُفاجئ، أو بنقطة قصوى يتوقَّف عندها الامتداد اللامتناهي لرؤية ما بُنيَ. كلّ حلبة تحتاج إلى استراحة قصيرة تسبق الجولة التالية، وهذه الاستراحة هي الفتحة البيضاوية التي تتكرَّر في أعمال ريشاني، حيث العين تطلّ على الداخل قبل أن تُكمل الدوران.

المواد الثلاث التي يتعامل معها الفنان هي الخشب والحجر والبرونز. التقنية مُتقشّفة في التفاصيل وغنيّة في المسّ، فنرى تلميعاً متأنياً واحتراماً لخطوط الطبيعة واقتصاداً في الإيحاء يترك للمُشاهد مساحة التأويل.
يُقدّم هذا المعرض قراءة ناضجة للجسد بوصفه فضاء أخلاقياً وجمالياً. فالانحناء لا يُقرأ على هيئة خضوع... إنه معرفة بالوزن والمسافة وبالطريقة التي يمكن لخطّ واحد أن يحمل بها ذاكرة الشجرة والإنسان معاً. وما يخرج من هذه الأعمال لا ينتهي عند حدود القاعة، فيمضي مع الزائر مثل تمرين على النظرة. ومع كلّ وقفة أمام منحوتة، عبرةٌ تدعو إلى ضبط الاندفاع، والتعاوُن للنجاة، وتخفيف الحِمْل، والسماح للإيقاع بأن يقود الخطوة التالية. هكذا تتعلّم الكتلة أن تصير حياة.

