في صباح ضبابي في أحد أيام عام 1953، كان هناك شاب أميركي نحيف طويل القامة، يبلغ من العمر 24 عاماً، يعبث بيديه بأشكال من الورق المقوى. كانت تُمثل أجزاءً من جزيء الحمض النووي، وكان هذا الشاب يحاول فهم كيفية تناسقها معاً بطريقة تُمكّن هذا الجزيء السحري من أداء وظيفته بوصفه عنصراً أساسياً في الجينات.
فجأة، أدرك أنها تتحد معاً لتُشكل «درجات» سلم طويل ملتوٍ، وهو الشكل المعروف اليوم باسم الحلزون المزدوج. فكان اكتشاف بنية الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، أو ما عرف على أنه الحمض النووي، إنجازاً كبيراً أسهم في فتح الطريق أمام ثورة في الطب وعلم الأحياء ومجالات أخرى متنوعة.
وتوفي واتسون صاحب هذا الاكتشاف بعد مسيرة علمية طويلة عن عمر يناهز 97 عاماً، الخميس، قبل أن يُعلن عن وفاته، السبت، ورغم إنجازاته المهمة، فإن إرثه معقد بسبب تصريحاته المثيرة للجدل حول العِرق، والتي أدت إلى إدانته وخسارته للألقاب الفخرية.
وفاز واتسون بجائزة نوبل عام 1962 بالمشاركة مع فرانسيس كريك وموريس ويلكنز لاكتشافهم أن الحمض النووي DNA)) عبارة عن حلزون مزدوج، يتكون من خيطين ملتفّين حول بعضهما البعض لتكوين ما يشبه سلماً طويلاً ملتوياً برفق.
كان هذا الاكتشاف إنجازاً كبيراً. فقد أظهر للعلماء على الفور كيفية تخزين المعلومات الوراثية، وكيف تُضاعف الخلايا حمضها النووي عند انقسامها.
حتى بين غير العلماء، أصبح الحلزون المزدوج رمزاً معروفاً للعلم. ولقد ساعد هذا الاكتشاف على فتح الباب أمام تطورات أحدث، مثل تعديل التركيب الجيني للكائنات الحية، وعلاج الأمراض عن طريق إدخال الجينات في المرضى، وتحديد هوية الرفات البشري والمشتبه بهم جنائياً من عينات الحمض النووي، وتتبع شجرة العائلة وأسلاف البشر القدماء. لكنه أثار أيضاً مجموعة من التساؤلات الأخلاقية، مثل ما إذا كان ينبغي علينا تعديل مخطط الجسم البشري لأسباب تجميلية أم بطريقة تؤدي لانتقال ذلك التغيير إلى نسل الشخص.
إرث هائل
ويقول الدكتور هيثم شعبان، أستاذ مشارك الفيزياء الحيوية وعالم متخصص في علوم الجينوم، إن «واتسون ذو إرث علمي هائل فهو أحد رواد علم الأحياء الجزيئي وأحد مكتشفي البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (دي إن إيه)، وهو ما غيّر فهمنا لكيفية تخزين المعلومات الوراثية وكيفية انتقالها من خلية إلى أخرى».
وأضاف شعبان الذي يعمل أيضاً قائداً لمجموعة بحثية لدى معهد أجورا لأبحاث السرطان بلوزان، وكلية الطب بجامعة جنيف بسويسرا، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «دعم واتسون العديد من المشاريع البحثية الكبيرة، كان أبرزها مشروع الجينوم البشري العالمي الذي يعد الأساس الآن لما يعرف بالطب الدقيق أو الطب الشخصي».
«تصريحات عنصرية»
كان واتسون شخصية مرموقة في عالم البيولوجيا والطب. ولكن مع اقتراب نهاية حياته، واجه إدانةً واستنكاراً مهنياً لتصريحاته العنصرية المسيئة، بما في ذلك قوله إن «السود أقل ذكاءً من البيض».
وكما أفاد بيان نشر، السبت، على منصة «ساينس إكس»، فإن واتسون قال ذات مرة: «لقد حققت أنا وفرانسيس كريك اكتشاف القرن». وكتب لاحقاً: «لم يكن من الممكن أن نتوقع التأثير الهائل للحلزون المزدوج على العلم والمجتمع».
لم يحقق واتسون أي اكتشاف مختبري آخر بحجم (دي إن إيه)، ولكن في العقود السابقة ألّف كتباً دراسية مؤثرة ومذكرات من أكثر الكتب مبيعاً، وأسهم في توجيه مشروع رسم خريطة الجينوم البشري، واختار علماء شباباً لامعين وساعدهم. واستغل مكانته ومعارفه للتأثير على السياسات العلمية، وفق تقارير.
وكان ابنه قد أعلن، الجمعة، عن وفاة واتسون في دار رعاية المسنين بعد مرض قصير. قال دنكان واتسون عن والده: «لم يكفّ عن النضال من أجل من يعانون من الأمراض».
وحظي واتسون باهتمام استثنائي مثير للقلق عام 2007، عندما نقلت عنه مجلة «صنداي تايمز» البريطانية قوله إنه «متشائم بشأن مستقبل أفريقيا؛ لأن جميع سياساتنا الاجتماعية مبنية على حقيقة أن ذكاءهم مماثل لذكائنا، بينما تشير جميع الاختبارات الطبية إلى عكس ذلك تماماً». وقال إنه بينما يأمل أن يكون الجميع متساوين، يجد الأشخاص الذين يتعاملون مع الموظفين السود أن هذا غير صحيح.
لكن بعد ضجة دولية اعتذر عن تصريحاته، وأُوقف عن العمل مستشاراً لمختبر «كولد سبرينغ هاربور» المرموق في نيويورك. وتقاعد بعد أسبوع من هذه الضجة الكبيرة، بعد أن شغل مناصب قيادية مختلفة هناك لما يقرب من 40 عاماً.
آراء لم تتغير
وفي فيلم وثائقي تلفزيوني عُرض أوائل عام 2019، سُئل واتسون عما إذا كانت آراؤه قد تغيرت، فأجاب: «لا، إطلاقاً». ورداً على ذلك، ألغى «مختبر كولد سبرينغ هاربور» العديد من الألقاب الفخرية التي منحها لواتسون، قائلاً إن تصريحاته «مستهجنة»، و«لا تستند إلى أساس علمي».
ويقول شعبان: «من الناحية العلمية، فإن ادعاءات واتسون مرفوضة تماماً؛ لأن دراسات الجينوم البشري أثبتت أن الاختلافات الجينية داخل المجموعات البشرية أكبر من الاختلافات داخل المجموعات التي تصف على أنها تمثل أعراقاً بشرية معينة».
وأوضح أن الجينات بصفة عامة لا تحدد عنصر الذكاء البشري على مستوى جماعي، فالذكاء صفة بشرية معقدة جداً متعددة العوامل، وتتشكل من تفاعل دقيق ما بين الوراثة والتعليم والبيئة والصحة والنشأة الاجتماعية، وليس الجينات فقط».
ويرفض العلماء، وفق شعبان، أي محاولة لتفسير التفاوت البشري والاجتماعي على أساس جيني، أياً كان مصدرها، حتى ولو كان مصدرها عالماً في وزن وثقل واتسون العلمي، ومهما كانت مكانته العلمية المرموقة، فلا يشترط أبداً أن تكون آراؤه صحيحة على المستوى الإنساني».
ويؤكد شعبان أن «رحيل واتسون يذكرنا بأن العبقرية العلمية لا تعصم صاحبها من الخطأ، فالعلم مهما بلغ من دقة وأهمية له حدود وأطر ينبغي عدم تجاوزها، فهو يحتاج دائماً إلى ضمير أخلاقي والشعور بالمسؤولية المجتمعية».

