في كلّ مرّة تفتح فيها «متروبوليس» أبوابها لعرض سلسلة من الأفلام الكلاسيكية، يبدو الأمر أشبه بعودة إلى أرشيف العالم، وتلك اللحظات التي صُنعت فيها السينما بقلق وفكر وشجاعة. هذه المرّة، تعود بيروت إلى إسبانيا عبر 7 أفلام مُرمَّمة تُشكّل خريطة لذاكرة وطنية كُتبت بالصورة، بين القمع والحرّية والطاعة والتمرُّد.
منذ بدايات القرن العشرين، كانت السينما الإسبانية ساحة مواجهة لا تقلّ عن ميادين السياسة. تحت ظلّ حُكم فرانكو، ووسط رقابة خانقة، استطاع مخرجون كبار تحويل المشهد إلى مساحة نقد ومُساءلة. أرادوا أفلامهم وثائق ضمير لأمّة حاولت من داخل الإسكات استعادة صوتها.
من لويس بونويل إلى كارلوس ساورا، ومن لويس غارسيا بيرلانغا إلى خوان أنطونيو بارديم، مروراً بخوان أنطونيو نييبس كوندي ومونتشو أرمينداريز، تتنوَّع هذه الأفلام بين السوريالية الحارقة، والواقعية النقدية، والدراما الاجتماعية، والدفء الإنساني، لتُشكّل فسيفساء مُتكاملة عن التاريخ الإسباني الحديث، حيث الجرح والذاكرة والعنف والبحث عن معنى الحرية.
يُفتتح البرنامج في 16 أكتوبر (تشرين الأول) بفيلم «كارمن» (1983) للمخرج كارلوس ساورا، الذي نقل الرقص إلى مرتبة اللغة السياسية. عبر لوحات الفلامنكو المُشبَّعة بالعاطفة، يصوغ ساورا تأمُّلاً في الجمال والغيرة والسلطة، واضعاً الفنّ في مواجهة القهر. في هذه المقاربة الدرامية المتوهّجة من أوبرا «كارمن»، تذوب الحدود بين الواقع والخيال، ويغدو الجسد مساحة تَحرّر تُعبّر عمّا تعجز السياسة عن قوله. إنه أحد أكثر الأفلام الإسبانية تأثيراً في تعريف العلاقة بين الفنّ والهوية.

وفي اليوم التالي، 17 منه، يُعرض فيلم «أخاديد» (1951) للمخرج خوان أنطونيو نييبس كوندي، وهو من أوائل المحاولات الواقعية التي واجهت النظام من داخله. يُصوّر العمل هجرة الفلاحين إلى المدينة بحثاً عن «المعجزة الاقتصادية» الموعودة، ليكتشفوا وجهاً آخر لإسبانيا: البؤس، والفساد، واللامساواة. رغم انتماء كوندي في شبابه إلى الكتائب الفالانخية، فإنه استخدم تجربته ليكشف عن تناقضات النظام ذاته، مُقدّماً فيلماً إنسانياً جريئاً وصفته الكنيسة يوماً بأنه «خطر على الأخلاق العامة». الواقعية عنده كانت فعلاً أخلاقياً قبل أن تكون أسلوباً فنياً.
التاسعة من الليلة نفسها، يُعرَض فيلم «وفاة راكب دراجة» (1955) لخوان أنطونيو بارديم، أحد أبرز الأصوات اليسارية في تاريخ السينما الإسبانية. تبدأ القصة بحادث دهس عابر، وتتحوّل إلى محاكاة للنفاق الاجتماعي الذي يُغلّف الطبقات الثريّة. كان بارديم شيوعياً في زمن الرقابة، وكتب بفيلمه بياناً ضدّ الامتيازات والجبن الأخلاقي. من خلال إيقاع متوتّر ومونتاج ذكي، رسم صورة لمجتمع يُخفي عوراته خلف واجهة أنيقة، مؤكّداً أنّ العدالة لا يمكن أن تُستعاد إلا بكسر الخوف.

وفي 18 أكتوبر (7 مساء)، يستعيد الجمهور فيلم «بلاسيدو» (1961) للمخرج لويس غارسيا بيرلانغا، أحد أعمدة الكوميديا السوداء في أوروبا. مسرح الأحداث بلدة صغيرة يُطلب من أثريائها أن «يستضيفوا فقيراً على مائدتهم في عيد الميلاد». ومن هذه الفكرة البسيطة، يُفجّر بيرلانغا هجاءً عميقاً للرياء الطبقي والتديُّن المظهري. بخفّة وسرعة كاميرا، يضحك المتفرّج، ثم يُدرك أنّ الضحك نفسه شهادة على الخوف.
في الليلة نفسها (9 مساء)، يُعرَض «فيريديانا» (1961)، التحفة التي أعادت لويس بونويل إلى إسبانيا بعد منفاه المكسيكي. أراده النظام فيلماً «يُجمّل صورة الوطن»، فجاء عكس ذلك تماماً. قدَّم بونويل عملاً يهزّ أُسس العقيدة الكاثوليكية ويُدين التحالف بين الكنيسة والسلطة. من خلال الراهبة التي تُحاول إنقاذ المتسوّلين فتغرق في عبثهم، بنى المخرج أكثر مَشاهده رمزيةً واستفزازاً، وجعل من «فيريديانا» فيلماً عن استحالة الخلاص في مجتمع يُعيد إنتاج خطاياه كلّ يوم.
وبعد عام، أكمل بونويل تأمّلاته بفيلم «الملاك المبيد» (1962) الذي يُعرض في 19 أكتوبر، حيث تُحتجز مجموعة من الأرستقراطيين داخل قصرهم من دون سبب واضح. تتعرَّى البورجوازية أمام غرائزها، ويكشف بونويل عن تصدُّع الحضارة عندما تُسلب منها القواعد. في هذه العزلة الجماعية، تتحوَّل الوليمة إلى جحيم، وتصبح السوريالية تكثيفاً للواقع أكثر من الخيال.

من الجيل اللاحق يأتي مونتشو أرمينداريز بفيلمه «تاسيو» (1981)، الذي يُختتم به البرنامج (19 أكتوبر، 9 مساء). يستعيد المخرج من خلاله سيرة عامل ريفيّ يعيش بين الغابات والفقر، لكنه يحتفظ بحرّيته الداخلية مثل مَن يملك العالم. الفيلم، القائم على بحث ميداني طويل، يُقدّم صورة نادرة للفقراء الإسبان بكرامة وذكاء، مُظهراً أنّ التمرّد ليس دائماً ثورياً، فيمكن أن يكون في البقاء نفسه، ورفض الانكسار أمام التهميش.
ضمير جماعي بين الفنّ والسياسة
ليس الانتماء الجغرافي وحده ما يجمع هذه الأفلام، وإنما أيضاً الرغبة المُشتركة في تحويل السينما إلى ذاكرة جماعية. كلّ مخرج في السلسلة كتب فصلاً من التاريخ الإسباني: بونويل عبَّر عن العصيان، وساورا عن الحرّية، وبارديم عن الذنب، وبيرلانغا عن السخرية، وكوندي عن الخيبة، وأرمينداريز عن التواضع الإنساني في وجه العنف. بهذه الأفلام السبعة، تُعيد «متروبوليس» طرح سؤال الفنّ والسياسة، لتؤكد بأنّ الصورة، مهما مرَّ عليها الزمن، قادرة على إعادة فتح الجرح كي لا يُنسى، وتحويله إلى ضوء.

وبسؤال مُنسّقة البرمجة في «متروبوليس» نسرين وهبة عن الدافع لاختيار هذه الأفلام لإعادة عرضها في بيروت، وما إذا كانت الفكرة قد وُلدت من رغبة في استعادة الذاكرة الإسبانية ذاتها أم من شعور بأنّ تجارب القمع والمُساءلة في تلك السينما تشبه ما نعيشه هنا، تقول: «أولاً، أردنا إحياء الشراكة بين جمعية (متروبوليس) والسفارة الإسبانية لدى بيروت، وثانياً التركيز على الأفلام الكلاسيكية المُرمَّمة التي أصبحت مُتاحة بجودة عالية. وأيضاً، لاحظنا حماسة الجمهور وإصراره على مُشاهدتها في صالة سينما حقيقية».
وتُضيف نسرين وهبة أنّ التعمُّق في تاريخ الأفلام المُختارة وظروف إنتاجها يُظهر تقاطعاً لافتاً بين التجربتَيْن الإسبانية واللبنانية، خصوصاً فيما يتعلّق بالعدالة والمساواة والبحث عن الحقيقة. وتوضح لـ«الشرق الأوسط» أنّ الصالات التجارية نادراً ما تُبرمج أفلاماً جمالية ذات قيمة فنّية خالصة، «وهذا ما يجعل من (متروبوليس) مساحة بديلة تُقدّم سينما مختلفة. نحن نسعد برؤية وجوه جديدة تجد لدينا ما تفتقده في الصالات الأخرى. صحيح أنّ الصورة الجميلة والمؤثرات والصوت عوامل مهمّة، لكنّ الأهم هو الغوص في التاريخ والاحتفاء بأفلام أُعيد ترميمها».
وترى نسرين وهبة أنّ مرور العقود على إنتاج هذه الأفلام لم يُفقدها راهنيّتها، وإنما أعاد طرح أسئلتها من منظور جديد: «المتفرّج اليوم يتعامل مع العمل السينمائي بوعي مختلف بفضل التكنولوجيا ووسائل المعرفة، لكنّ الأسئلة الكبرى تبقى هي نفسها؛ تلك المتعلّقة بالحرّية والعدالة والإنسان في مواجهة السلطة. ما يتغيَّر هو الطريقة التي تُطرح بها. هذه الأفلام الإسبانية تُحاور زمننا، وإن وُلدت قبل عقود. عرضها اليوم يبدو كأنه ابن اللحظة».





