في قلب الصحراء العربية، وتحديداً أوائل القرن السابع، دارت معركة ما زالت محفورة في الذاكرة التاريخية كونها أول مواجهة عربية كبرى ضد الإمبراطورية الساسانية، وهي معركة ذي قار، التي تعود إلى الحياة من جديد من خلال فيلم «محارب الصحراء» (Desert Warrior)، الذي جاء عرضه العالمي الأول هذا الأسبوع؛ ضمن مهرجان زيوريخ السينمائي، وسط اهتمام نقدي بقصة الملحمة وضخامة المشاهد البصرية.
يروي الفيلم حكاية الأميرة «هند» (عايشة هارت)، ابنة الملك النعمان (غسان مسعود)، التي ترفض أن تكون جارية للإمبراطور الساساني كسرى (السير بن كينغسلي) وأثناء هروبها مع والدها إلى الصحراء، ومطاردة القائد جلبزين (شارلتو كوبلي) لهما، يفتح الطريق أمام تحالف غير متوقع مع لص غامض (أنتوني ماكي)، ومع تصاعد الأحداث، توحد الأميرة «هند» القبائل العربية لخوض معركة ذي قار التي تنقش اسمها بوصفها منعطفاً حاسماً في تاريخ الجزيرة العربية.
يُعد الفيلم ثمرة التعاون الإنتاجي بين «استوديوهات MBC» وشركة «JB Pictures»، وصُوّرت مشاهده الرئيسية في نيوم وتبوك (شمال السعودية)، بوصفه أول فيلم عالمي بهذه الضخامة يُصوّر في مدينة نيوم بدعم من قطاع الصناعات الإعلامية في نيوم، التي أصبحت مركزاً لتحفيز الصناعة الإعلامية الإقليمية في المنطقة جرّاء احتضانها ودعمها لإنتاجات كبرى عالمية وإقليمية ومحلية.
كما يأتي الفيلم بدعم من هيئة الأفلام السعودية، عبر برنامج حوافز الاسترداد المالي لدعم الإنتاج السينمائي المحلي والعالمي وبرنامج جودة الحياة؛ بهدف تشكيل وتعزيز مستقبل الصناعة السينمائية في المملكة العربية السعودية.

بين هوليوود والسعودية
مخرج الفيلم البريطاني روبرت وايت، والمعروف بفيلمه «نهوض كوكب القردة»، تحدّث هذا الأسبوع لمجلة «فاريتي» عن رحلته مع «محارب الصحراء»، قائلاً «لقد كانت تجربة ملهمة، فأن تصنع فيلماً من الصفر في السعودية يعد أشبه بصناعة فيلمك الأول، لكن على نطاق استثنائي».
وأضاف: «كان لدينا أكثر من 600 شخص من 40 جنسية يعملون معاً لأشهر في قلب الصحراء... لم يكن الأمر أشبه بهوليوود جاءت إلى المنطقة، بل تجربة دولية متفردة. لقد ألهمني العمل في بيئة جديدة كلياً علينا، وسط الصحراء التي تحمل جمالاً وقسوة في آنٍ واحد».
وأوضح وايت أن اختياره المشروع لم يكن مجرد صدفة إنتاجية، بل استجابة لفضول قديم تجاه المنطقة، وعن ذلك يقول: «لطالما فُتنت بالثقافة البدوية... أحببت الصحراء بوصفها فضاءً بصرياً وإنسانياً، وشعرت بأن القرن السابع فترة مخفية من التاريخ تستحق أن تُروى، ومع شخصية الأميرة (هند) وجدت القصة الإنسانية التي تبرر هذه الملحمة».

تحديات التأخير
لم يكن العمل على هذا الفيلم سهلاً، خصوصاً أن جائحة «كورونا» أخّرت التصوير الذي كان مقرراً في 2020، لكن وايت يرى أن تلك الفترة كانت بمثابة فرصة للتعمق في فهم البيئة، وأضاف: «(كورونا) أخّرتنا، لكن في الوقت نفسه منحتنا وقتاً للتأقلم مع المنطقة ومعرفة كيف نصنع فيلماً من الصفر هنا».
وأشار إلى أن إدارة فريق بهذا الحجم في وسط الصحراء مثّل تحدياً هائلاً، وأردف: «كنا وحدنا، نتخذ القرارات بأنفسنا، لكننا أنهينا التصوير قبل 4 أيام فقط من الجدول الزمني المحدد، وهذا إنجاز حقيقي لفيلم بهذا الحجم».
ومرّ «محارب الصحراء» بمرحلة معقدة بعد التصوير، إذ شهد تغييرات في إدارة الاستوديو، وأُعيد تركيب بعض مشاهده دون مشاركة المخرج لفترة، لكنه عاد لاحقاً ليشرف على النسخة النهائية. ويُضيف وايت: «نسختي الأصلية كانت ساعتين و20 دقيقة، وكنت راضياً عنها، لكن في النهاية قُدِّمت نسخة مدتها ساعة و54 دقيقة، وكان شرطي الوحيد أن أمتلك السيطرة الإبداعية الكاملة عليها، وقد حصلت على ذلك».
ويصف المخرج العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان زيوريخ السينمائي الذي يقام حالياً بدورته الحادية والعشرين، بأنه أزاح عن الفيلم صورة «المشروع المتعثر» التي لاحقته في الإعلام، وأكّد أن السعودية قادرة على تقديم إنتاج عالمي بمعايير رفيعة، قائلاً: «كان هناك مَن يُشكك في المشروع، لأننا لم نكن هوليوود، لكن النتيجة أثبتت أننا قدمنا عملاً بمستوى عالمي، ما زلت أدفع به نحو النجاح».
ملحمة سينمائية
ولا تتوقف أهمية «محارب الصحراء» عند عرضه العالمي الأول، بل تمتد إلى كونه تجربة مختلفة لصناعة السينما السعودية، فهو أول فيلم يضع نيوم على خريطة الإنتاج الضخم، وأول اختبار عملي لبرامج الحوافز والدعم التي تقدمها المملكة، كما أن مشاركة ممثلين عرب كبار مثل غسان مسعود، إلى جانب نجوم عالميين مثل أنتوني ماكي وبن كينغسلي، جعلت الفيلم مزيجاً ثقافياً فريداً يعكس التقاء المحلي بالعالمي.
يُضاف لذلك، أن إعادة تقديم معركة ذي قار ليست مجرد سرد تاريخي، بل رسالة بأن القصص العربية قادرة على أن تحمل جاذبية عالمية إذا ما قُدمت برؤية فنية وبإنتاج ضخم. وفي الوقت نفسه، يُشير الفيلم إلى بداية جديدة للسينما السعودية، التي تسعى لأن تكون لاعباً أساسياً في سوق تتجاوز المهرجانات إلى شباك التذاكر العالمي.



