كيف ألهمت باريس الفنان العربي؟ وإلى أي مدى تداخلت مساراته واهتماماته ولحظاته مع المجتمع الغربي الذي انتقل للعيش فيه؟ وكيف أصبحت رؤيته للهوية بعد خوض تجربة الغربة؟ هذه بعض الأسئلة التي يستكشفها معرض جديد للتشكيلي والروائي المصري عبد الرازق عكاشة.
طوال عقود طويلة، كانت باريس موطناً لفنانين من جميع أنحاء العالم العربي، انتقل بعضهم للدراسة، وأقام بعضهم الآخر بشكل دائم هناك، وتعاونوا مع صالات العرض والفنانين والشعراء الفرنسيين؛ فكانت باريس ملاذاً ومكاناً للاستقرار بالنسبة لهم؛ وجاءت أعمالهم انعكاساً لسنوات الفن والغربة والبحث عن الهوية.

يروي معرض «حكايات من باريس» للفنان عبد الرازق عكاشة في غاليري «بيكاسو» بالزمالك قصصاً لم تُروَ بهذه الطريقة من قبل؛ ويطرح عبر أعماله قضية الهوية، محاولاً تقديم مفهوم جديد لها، ربما ينأى بها عن الرؤية المحدودة إلى عوالم أكثر اتساعاً تربط بين الهوية والإنسانية بشكل عام.
يقول عكاشة لـ«الشرق الأوسط»: «أستطيع أن أرجع الهوية إلى الإنسانية؛ فهي الكيان الذي تُبنى داخله وتكسبها كل ملامحها وعناصرها ومقوماتها من شكل ولون وجوهر، لتصبح فيما بعد ما يمكن أن نطلق عليه (الهوية البصرية)، ويأتي بعد ذلك دور الشعوب في منحها طابعها الخاص والاختلاف وفقاً لتاريخه ومعتقداته وإرثه الحضاري».

وعلى الرغم من طول ترحاله وأسفاره ومعايشته لعواصم العالم، خصوصاً باريس؛ حيث يقيم، يعدّ الفنان ذكرياته في قريته بقلب الريف المصري بذوراً إنسانية تنبت من جديد في لوحاته، يقول: «تجسد ذاكرتي صوراً طفولية حية تزدان بحكايات جدتي (آمنة أم السباع)، وألوان قريتي البسيطة؛ حيث الملابس المزركشة وألوان المحاصيل الزراعية، وقطارها الذي كان يحمل العمال والفلاحين والطلبة من القرية إلى القاهرة».

وهنا يقودنا مرة أخرى إلى قضية العلاقة ما بين الهوية والإنسانية؛ حيث يزيل المسافة في بعض لوحاته ما بين الثقافتين المصرية والفرنسية لتتداخلا معاً، حتى إننا نكاد نرى للفنان شخصية منقسمة إلى نصفين؛ الأول مصري، والآخر فرنسي، عبر ما تتضمنه أعمال من رموز وعناصر تتأثر بذاكرته البصرية في وطنه الأم.
أما النصف الثاني فيتأثر بثقافته الأوروبية ويومياته في باريس، يقول: «تنبثق الهوية من رحم الإنسانية، ولا يمكن فصلهما، وإلا سينعزل الفنان عن جوهره الحقيقي».

ولذلك، فإن عكاشة في صوغه المشاهد الحياتية اليومية في باريس، وفي فكره وتقنيته المتأثرتين بفلسفة الأكاديميات الأوروبية نجده كذلك متأثراً ومستلهماً دفء الشرق في لوحاته؛ فهو يبني مشاهد جديدة وخيالية، مستوحاة من العالم الحديث، وفي الوقت نفسه يستدعي حركات الناس والمناظر المألوفة في وطنه.
ونراه في هذا المعرض المستمر حتى 1 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل لا يُصور لنا المدينة الفرنسية من منظور خارجي جمالي بحت، أو يسعى لإبراز الأناقة الباريسية في الشوارع والبنايات والتفاصيل الكلاسيكية المميزة لها وحدها، لكنه يُقدم كذلك لنا حكايات مفعمة بالدفء الإنساني والضجيج والتواصل بين البشر الذين يأتي بعضهم بسمات وإطلالات شرقية.

ويستوقف المتأمل في اللوحات حشدُ الشخوص واتجاهها في مسار واحد، بما يبعث إحساساً بوجود حوارات جماعية بينها، وكأنها مشاهد من مدينة مصرية خالصة، وكأنه في الوقت نفسه يُقيم جسوراً بين الثقافتين، يقول: «أتمنى أن يكون هذا المعرض نتاجاً لامتزاج الألوان والثقافات الإنسانية المتنوعة، وأن يكون بمثابة صرخة ضد العزلة والصب في قوالب جاهزة».
ومن خلال جرأة الفنان في التقنية الفنية المستخدمة في لوحاته، وعددها نحو 40، يظهر المعرض أن باريس لم تكن من نواحٍ عديدة ملاذاً فحسب، بل كانت أيضاً أرضاً خصبة للاكتشاف الفني والتجريب والحرية الفنية.
وما بين الألوان الساخنة والباردة يعيش المتلقي الصراع الداخلي الخفي لعكاشة؛ ففي حين جاء اللون الأحمر على سبيل المثال تعبيراً عن المشاعر الفياضة والعاطفة القوية، وانعكاساً لدفء الحكايات التي تنسجها لوحاته، برز اللون الأزرق على المسطح رمزاً للأحاسيس المحايدة والانعزال، وربما الغربة والحنين.

يُذكر أن عبد الرازق عكاشة حصل على دبلوم الفنون من باريس، وحاضر وشارك في طاولات الحوار الدولي في الفنون والآداب لأكثر من 21 دولة. ترأس وشارك في عدد من لجان التحكيم حول العالم من اليابان والبرازيل والمكسيك والأرجنتين، ودول أوروبا وأفريقيا وآسيا، وله أكثر من 18 كتاباً بين النقد والروايات، وعمل مستشاراً للفنون في «اليونيسكو» من 1996 حتى 1998.


