سياحة العزلة في كوريا الشمالية... منتجعات مهجورة ورقابة مشدّدة

بين الممكن والمحظور... كيف تمضي إجازة في كوريا الشمالية (أ.ف.ب)
بين الممكن والمحظور... كيف تمضي إجازة في كوريا الشمالية (أ.ف.ب)
TT

سياحة العزلة في كوريا الشمالية... منتجعات مهجورة ورقابة مشدّدة

بين الممكن والمحظور... كيف تمضي إجازة في كوريا الشمالية (أ.ف.ب)
بين الممكن والمحظور... كيف تمضي إجازة في كوريا الشمالية (أ.ف.ب)

في منتجعٍ يتّسع لـ20 ألف زائر، يُفتَتح الموسم السياحي بـ15 ضيفاً فقط. لا يمكن أن يدور سيناريو مثل هذا سوى في بلدٍ يُدعى كوريا الشمالية.

تجول السائحة الروسية أناستازيا سامسونوفا في أرجاء المكان، فيبدو وكأنه مهجور. الطعام كثير والمقاعد المنتظرة محبّي الشمس موزّعة بالمئات على رمل الشاطئ، إلا أنّ أحداً لا يأتي. هكذا هي السياحة في كوريا الشمالية؛ مساحاتٌ شاسعة لا تملأها سوى قلّة قليلة من البشر.

افتتح الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون شخصياً منتجع «كالما» الفخم قبل شهرين في منطقة وونسان المطلّة على بحر اليابان. رافقته المفرقعات والموسيقى احتفاءً به وبمشروعٍ سياحيّ واعد لبلدٍ أنهكته العزلة وأضناه الفقر. لكن عندما حان موعد فتح أبواب الفنادق والمطاعم أمام الزوّار، أعادت بيونغ يانغ تشديد القيود على دخول السياح إلى البلاد، بعد أن كانت قد رفعتها عقب 5 أعوام من إغلاق الحدود بداعي جائحة «كورونا».

وحدهم السيّاح الروس شُرّعت لهم أبواب كوريا الشمالية الحصينة، فكانوا أول مَن دخلها بعد رفع الحظر. كما كان من المفترض أن تستقبل البلاد زوّاراً من أوروبا، إلا أنّ قرار الحظر سرعان ما تَجدّد من دون توضيح الأسباب.

كيم جونغ أون خلال افتتاح منتجع سياحي في منطقة وونسان (وكالة كوريا الشمالية المركزية للأنباء)

هل دخول بيونغ يانغ مسموح للجميع؟

قد لا تكون كوريا الشمالية في صدارة وجهات السفر المفضّلة بالنسبة لكثيرين، إلا أن البعض ربما يفكّر في زيارتها من باب الفضول والرغبة في استكشاف بلدٍ هو الأكثر غموضاً وعزلةً على الخريطة. لكن ما الجنسيّات التي يحقّ لها دخول البلاد؟

للجميع الحقّ في السفر إلى كوريا الشمالية، باستثناء الصحافيين ومواطني كوريا الجنوبية. أما الأميركيون فليسوا ممنوعين من الدخول من قِبَل الجانب الكوري، بل سلطات بلادهم هي التي تمنعهم؛ خوفاً على سلامتهم.

المنتجع السياحي البحري الجديد على شواطئ كوريا الشمالية (وكالة كوريا الشمالية المركزية للأنباء)

قبل جائحة «كورونا»، كان يدخل إلى كوريا الشمالية 350 ألف سائح سنوياً، 90 في المائة منهم صينيون وفق شبكة «بي بي سي». وبذلك يتصدّر الصينيون النشاط السياحي في البلاد، بينما يشكّل الأوروبيون والأميركيون أقلّية لا تتجاوز الـ5 آلاف زائر سنوياً.

أما حالياً فليست الحدود مفتوحةً سوى أمام مواطني روسيا، حليفة كوريا الشمالية الأولى على المستويات السياسي والعسكري والاقتصادي.

سائح يلتقط الصور في محطة المترو في بيونغ يانغ (أ.ف.ب)

الفيزا الورقيّة الزرقاء

إذا رغب مواطنٌ عربي في السفر إلى كوريا الشمالية لخَوض مغامرة لا تشبه سواها، فعليه أولاً تأمين فيزا. صحيح أن سلطات بيونغ يانغ لا تمنح التأشيرات حالياً، غير أن الحظر قد يُرفع في أي وقت.

بما أنّ القيود التي تضعها الدولة على الزوّار الأجانب صارمة جداً، ممسكةً بالقطاع السياحي بيدٍ من حديد، فلا يمكن أن يحصل التخطيط لرحلة مثل هذه بشكلٍ مستقلّ. فبدءاً بإجراءات التأشيرة، مروراً بحجز بطاقة الطيران وغرفة الفندق، وصولاً إلى الجولات السياحية داخل البلاد، كل ذلك تتولّاه وكالة مرخّصة تُعدّ ذراعاً للسلطات الرسمية. على الراغبين في السفر بالتالي التواصل مع تلك الوكالة الكورية الشمالية التي تهتمّ بتأمين التأشيرة، وهي عبارة عن وثيقة ورقيّة زرقاء مستقلّة عن جواز السفر ولا تُطبع عليه.

التأشيرة السياحية الخاصة بالمسافرين إلى كوريا الشمالية (ويكيبيديا)

وجهتان وحيدتان... إما روسيا أو الصين

الخطوط الجوية الوحيدة المخوّلة الهبوط في مطار بيونغ يانغ الدولي هي «Air Koryo» الكورية الشمالية، مع بعض الاستثناءات للخطوط الجوية الصينية. ولا يمكن الوصول إلى بيونغ يانغ جواً سوى عبر الصين أو روسيا، وهما الوجهتان الوحيدتان اللتان تربطان كوريا الشمالية بالعالم.

وفق الموقع الإلكتروني لشركة «Air Koryo»، فإنّ تكلفة الرحلة من فلاديفوستوك الروسية إلى بيونغ يانغ تبلغ 265 دولاراً أميركياً، أما سعر البطاقة من بكين فيبلغ 245 دولاراً.

لا تحط في مطار بيونغ يانغ سوى طائرات وافدة من روسيا أو الصين (رويترز)

تفتيش الهواتف... ولا إنترنت

ما إن يحطّ في مطار بيونغ يانغ، على السائح أن يسجّل اسمَه لدى السلطات الرسمية. يمكنه الاحتفاظ بهاتفه الجوّال بعد أن يتفحّصه موظّفو الجمارك، لكن الخطوط الأجنبية لا تعمل داخل كوريا الشمالية. بالإمكان في المقابل شراء بطاقة «كوريولينك» المحلّية، التي تُتيح إجراء مكالماتٍ دولية حصراً. فالاتصالات الداخلية والاتصال بشبكة الإنترنت غير متاحَين للزوّار.

ماذا عن فنادق كوريا الشمالية؟

حتى الفندق لا يمكن أن يختاره السائح شخصياً، بل يجري ذلك عبر الوكالات الرسمية التي تنظّم الرحلات. أما خيارات الفنادق فمحدودة جداً ويتمركز معظمها في بيونغ يانغ، من بينها فندقا «يانغاكدو»، و«كوريو».

جانب من بهو فندق «يانغاكدو» في بيونغ يانغ (موقع الفندق)

وفق كتابٍ نُشر عام 2020 بعنوان «فنادق بيونغ يانغ»، الذي أعدّه مواطن أسترالي زار كوريا الشمالية 8 مرّات، فإنّ الفنادق في البلاد لا تُشبه سواها في أي مكانٍ آخر حول العالم. تتميّز بضخامتها، وبديكوراتها الملوّنة، وبمطاعمها، ومقاهيها، وبملاهي الكاريوكي. في المقابل، لا إنترنت في فنادق كوريا الشمالية، أما الموسيقى التي تصدح في الأروقة و«اللوبي»، فأناشيد وطنية تمدح القائد كيم جونغ أون.

«ريوغيونغ» أحد أشهر فنادق بيونغ يانغ وأغربها تصميماً (إنستغرام)

جولات جماعية تحت رقابة مشدّدة

لا يمكن لأي سائح أن يخرج من الفندق بمفرده، بل يجب أن يكون ضمن مجموعة يقودها الدليل السياحي المخوّل تحديد الأماكن المسموح بزيارتها. وحتى إذا رغب السائح بالتسوّق فعليه الالتزام بالمحالّ التجارية المخصصة للزوّار الأجانب، فمن غير المسموح الدخول عشوائياً إلى أي متجر.

أما التواصل مع السكّان المحليين فمراقَبٌ من كثب من قِبَل منظّمي الرحلة، إذ يُصنّف التحدّث إلى مواطنين كوريين شماليين من دون الحصول على إذن، تجسساً.

ينطبق الأمر ذاته على التصوير، فلا يمكن التقاط أي صورة من دون الحصول على إذن من الدليل. وتقتصر اللقطات التي يمكن أخذها على مواقع سياحية محدّدة، أما تصوير المواقع العسكرية، ومظاهر الفقر، وورش البناء فمحظور.

مجموعة من السيّاح في كوريا الشمالية قبل إغلاق الحدود خلال جائحة «كورونا» (أ.ف.ب)

مواقع سياحية في كوريا الشمالية

تشتهر كوريا الشمالية بمنتجعات التزلّج المنتشرة في جبالها التي تكسوها الثلوج ما بين ديسمبر (كانون الأول) وفبراير (شباط). كما حرص كيم جونغ أون، منذ تولّيه الحُكم، على إنشاء مجمّعات ترفيهية وحدائق مائية ضخمة لتعزيز صورة الرخاء في البلاد.

على قائمة المواقع التي يُسمَح للسيّاح بزيارتها كذلك، محطّة المترو في بيونغ يانغ ذات التصميم الجذّاب والهندسة المتطوّرة، ونصب مانسوداي العُظمى التي تجمع بين تمثالين بطول 20 متراً يعودان إلى الزعيمَين الراحلَين لكوريا الشمالية: كيم إل سونغ، وكيم جونغ إل. يُضاف إلى القائمة برج جوتشي عند نهر تايدونغ، المسمّى تيمّناً بفكر جوتشي الذي اعتمده كيم إل سونغ خلال حُكمه. كما باستطاعة السيّاح أن يعاينوا عن قرب ساحة كيم إل سونغ الشاسعة، حيث تُقام العروض العسكرية الشهيرة.

أما خارج العاصمة، فيُعدّ جبَلا «بايكتو» و«كومغانغ» من المواقع السياحية الأساسية، وهما يتمتّعان بطبيعة خلّابة.

نصب مانسوداي أحد أبرز المواقع السياحية في كوريا الشمالية (رويترز)

ماذا تأكل في كوريا الشمالية؟

لقائمة الطعام حصّتها كذلك لدى زيارة كوريا الشمالية، أما الأطباق الأشهر فغريبة جداً بالنسبة إلى الذائقة العربية.

يتربّع الـ«ناينغميون» على رأس القائمة، وهو طبقٌ من النودلز المصنوعة من القمح والبطاطا، يُضاف إليها مرق لحم البقر، وتُزيّن بقطع من اللحم والخيار والبيض والفجل. يُقدّم هذا الطبق بارداً، وغالباً ما تُضاف إليه مكعّبات الثلج.

«ناينغميون» أحد أشهر الأطباق في كوريا الشمالية (ويكيبيديا)

الـ«كيمشي» هو الطبق الوطني الأول في كوريا الشمالية. المكوّن الأساسي فيه هو الكرنب (أو الملفوف) المخلّل، يُضاف إليه مسحوق الفلفل الأحمر، والفجل، والثوم والزنجبيل.

ومن الأطباق الكورية الشمالية المشهورة، الـ«بيبيمباب» وهو مزيج من الأرز والخضار واللحم المفروم ومسحوق الفلفل وصلصة الصويا والبيض.


مقالات ذات صلة

رفع قيمة تأشيرة الدخول إلى مصر... هل يؤثر على تدفقات السياحة؟

شمال افريقيا بهو المتحف المصري الكبير (الشرق الأوسط)

رفع قيمة تأشيرة الدخول إلى مصر... هل يؤثر على تدفقات السياحة؟

أثار قرار الحكومة المصرية زيادة «رسوم تأشيرات الدخول» إلى البلاد بنحو 20 دولاراً تساؤلات حول مدى تأثيره على حركة السياحة الوافدة إلى مصر.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق تراث وعادات مدينة القصير في متحف الحضارة (متحف الحضارة المصرية)

مصر: متحف الحضارة يحتفي بـ«القصير... مدينة البحر والتاريخ»

احتفى المتحف القومي للحضارة المصرية بتراث وعادات وتقاليد مدينة القصير بمحافظة البحر الأحمر، في فعالية حملت عنوان: «القصير... مدينة البحر والتاريخ»

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
لمسات الموضة بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)

لبان ظُفار من الشجرة إلى الزجاجة في وادي دوكة

يدار وادي دوكة بأسلوبٍ حديثٍ ومستدام، بتحديد مواقع آلاف أشجار اللبان، واستخدام تقنية التتبُّع الجغرافي، ليُصبح أول غابة ذكية في منطقة الخليج.

جميلة حلفيشي (صلالة - عُمان)
يوميات الشرق السويد واحدة من أقل دول أوروبا كثافة سكانية (رويترز)

السويد تشجع السياح على زيارتها بهدف «الشعور بالملل»

تشجع السويد الزوار على السفر إليها بحثاً عن الراحة والهدوء.

«الشرق الأوسط» (ستوكلهوم)
الاقتصاد الرئيس التنفيذي وعضو مجلس الإدارة بالهيئة السعودية للسياحة فهد حميد الدين في «القمة الدولية للمعارض والمؤتمرات» يوم الأربعاء (الشرق الأوسط)

رئيس هيئة السياحة: السعودية تتفوّق على لاس فيغاس بأكثر من 11 ألف فعالية

قال الرئيس التنفيذي للهيئة السعودية للسياحة، فهد حميد الدين، إن عدد الفعاليات في السعودية قفز إلى أكثر من 11 ألف سنوياً، متجاوزةً مدناً عالمية مثل لاس فيغاس.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ابتلعها بهدف سرقتها... استعادة قلادة مستوحاة من أفلام جيمس بوند من أحشاء رجل نيوزيلندي

شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
TT

ابتلعها بهدف سرقتها... استعادة قلادة مستوحاة من أفلام جيمس بوند من أحشاء رجل نيوزيلندي

شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)

كشفت شرطة نيوزيلندا، التي أمضت 6 أيام في مراقبة كل حركة أمعاء لرجل متهم بابتلاع قلادة مستوحاة من أحد أفلام جيمس بوند من متجر مجوهرات، اليوم (الجمعة)، أنها استعادت القلادة المزعومة.

وقال متحدث باسم الشرطة إن القلادة البالغة قيمتها 33 ألف دولار نيوزيلندي ( 19 ألف دولار أميركي)، تم استردادها من الجهاز الهضمي للرجل مساء الخميس، بطرق طبيعية، ولم تكن هناك حاجة لتدخل طبي.

يشار إلى أن الرجل، البالغ من العمر 32 عاماً، والذي لم يكشف عن هويته، محتجز لدى الشرطة منذ أن زعم أنه ابتلع قلادة الأخطبوط المرصعة بالجواهر في متجر بارتريدج للمجوهرات بمدينة أوكلاند في 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، وتم القبض عليه داخل المتجر بعد دقائق من السرقة المزعومة.

وكانت المسروقات عبارة عن قلادة على شكل بيضة فابرجيه محدودة الإصدار ومستوحاة من فيلم جيمس بوند لعام 1983 «أوكتوبوسي». ويدور جزء أساسي من حبكة الفيلم حول عملية تهريب مجوهرات تتضمن بيضة فابرجيه مزيفة.

وأظهرت صورة أقل بريقاً قدمتها شرطة نيوزيلندا يوم الجمعة، يداً مرتدية قفازاً وهي تحمل القلادة المستعادة، التي كانت لا تزال متصلة بسلسلة ذهبية طويلة مع بطاقة سعر سليمة. وقال متحدث إن القلادة والرجل سيبقيان في حوزة الشرطة.

ومن المقرر أن يمثل الرجل أمام محكمة مقاطعة أوكلاند في 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وقد مثل أمام المحكمة لأول مرة في 29 نوفمبر.

ومنذ ذلك الحين، تمركز الضباط على مدار الساعة مع الرجل لانتظار ظهور الدليل.


إزالة غامضة لـ«جدار الأمل» من وسط بيروت... ذاكرة المدينة مُهدَّدة بالمحو!

كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
TT

إزالة غامضة لـ«جدار الأمل» من وسط بيروت... ذاكرة المدينة مُهدَّدة بالمحو!

كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)

اختفت من وسط بيروت منحوتة «جدار الأمل» للفنان هادي سي، أحد أبرز أعمال الفضاء العام التي وُلدت من انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول). العمل الذي استقرّ منذ عام 2019 أمام فندق «لوغراي»، وتحوَّل إلى علامة بصرية على التحوّلات السياسية والاجتماعية، أُزيل من دون إعلان رسمي أو توضيح. هذا الغياب الفجائي لعمل يزن أكثر من 11 طناً يفتح الباب أمام أسئلة تتجاوز الشقّ اللوجستي لتطول معنى اختفاء رمز من رموز المدينة وواقع حماية الأعمال الفنّية في فضاء بيروت العام. وبين محاولات تتبُّع مصيره، التي يقودها مؤسِّس مجموعة «دلول للفنون» باسل دلول، يبقى الحدث، بما يحيطه من غموض، مُشرَّعاً على استفهام جوهري: بأيّ معنى يمكن لعمل بهذا الوزن المادي والرمزي أن يُزال من عمق العاصمة من دون تفسير، ولمصلحة أيّ سردية يُترك هذا الفراغ في المكان؟

من هنا عَبَر الأمل (صور هادي سي)

ليست «جدار الأمل» منحوتة جيء بها لتزيين وسط بيروت. فمنذ ولادتها خلال انتفاضة 17 أكتوبر، تحوَّلت إلى نقطة التقاء بين الذاكرة الجماعية والفضاء العام، وعلامة على رغبة اللبنانيين في استعادة مدينتهم ومخيّلتهم السياسية. بدت كأنها تجسيد لما كان يتشكّل في الساحات. للحركة، وللاهتزاز، وللممرّ البصري نحو مستقبل أراده اللبنانيون أقل التباساً. ومع السنوات، باتت المنحوتة شاهدة على الانفجار الكبير في المرفأ وما تبعه من تغيّرات في المزاج العام، وعلى التحوّلات التي أصابت الوسط التجاري نفسه. لذلك، فإنّ إزالتها اليوم تطرح مسألة حماية الأعمال الفنّية، وتُحيي النقاش حول القدرة على الاحتفاظ بالرموز التي صنعتها لحظة شعبية نادرة، وما إذا كانت المدينة تواصل فقدان معالمها التي حملت معنى، واحداً تلو الآخر.

في هذا الركن... مرَّ العابرون من ضيقهم إلى فسحة الضوء (صور هادي سي)

ويأتي اختفاء «جدار الأمل» ليعيد الضوء على مسار التشكيلي الفرنسي - اللبناني - السنغالي هادي سي، الذي حملت أعماله دائماً حواراً بين الذاكرة الفردية والفضاء المشترك. هاجس العبور والحركة وإعادة تركيب المدينة من شظاياها، شكّلت أساسات عالمه. لذلك، حين وضع عمله في قلب بيروت عام 2019، لم يكن يضيف قطعة إلى المشهد بقدر ما كان يُعيد صياغة علاقة الناس بالمدينة. سي ينتمي إلى جيل يرى أنّ الفنّ في الفضاء العام مساحة نقاش واحتكاك، ولهذا يصعب عليه أن يقرأ ما جرى على أنه حادثة تقنية، وإنما حدث يُصيب صميم الفكرة التي يقوم عليها مشروعه.

يروي باسل دلول ما جرى: «حين أُعيد افتتاح (لوغراي) في وسط بيروت، فضّل القائمون عليه إزالة المنحوتة». يُقدّم تفسيراً أولياً للخطوة، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «قبل 2019، كانت المنحوتة تستمدّ الكهرباء اللازمة لإضاءتها من الفندق وبموافقته. ثم تعاقبت الأحداث الصعبة فأرغمته على الإغلاق. ومع إعادة افتتاحه مؤخراً، طلب من محافظ بيروت نقل المنحوتة إلى مكان آخر». يصف دلول اللحظة قائلاً إنّ العملية تمّت «بشكل غامض بعد نزول الليل، إذ جِيء برافعة لإزالة العمل بلا إذن من أحد». أما اليوم، فـ«المنحوتة موجودة في ثكنة مُغلقة بمنطقة الكارنتينا».

كأنّ المدينة فقدت أحد أنفاسها (صور هادي سي)

دلول الذي يتابع مسارات فنانين، من بينهم هادي سي، لا يتردَّد في الإجابة بـ«نعم» حين نسأله إن كان يرى الحادثة «محاولة محو للذاكرة». يخشى أن تصبح الأعمال الفنّية في بيروت مهدَّدة كلّما حملت رمزية جماعية أو امتداداً لذاكرة سياسية لا ترغب المدينة في مواجهتها. يرفض أن يتحوَّل الفضاء العام إلى مساحة بلا سردية، ويُحزنه، كما يقول، صدور هذا الارتكاب عن فندق «يُطلق على نفسه أوتيل الفنّ»، حيث تتوزَّع اللوحات في أروقته ويتميَّز تصميمه الداخلي بحسّ فنّي واضح. ومع ذلك، يُبدي شيئاً من التفاؤل الحَذِر حيال مصير المنحوتة: «نُحاول التوصّل إلى اتفاق لإيجاد مكان لائق بها، ونأمل إعادتها إلى موقعها».

أما هادي سي، فلا يُخفي صدمته لحظة تلقّي الخبر: «شعرتُ كأنّ ولداً من أولادي خُطف منّي». نسأله: هل يبقى العمل الفنّي امتداداً لجسد الفنان، أم يبدأ حياته الحقيقية حين يخرج إلى العلن؟ فيُجيب: «بعرضه، يصبح للجميع. أردته رسالة ضدّ الانغلاق وكلّ ما يُفرّق. في المنحوتة صرخة تقول إنّ الجدار لا يحمينا، وإن شَقَّه هو قدرُنا نحو العبور».

كان الجدار مفتوحاً على الناس قبل أن تُغلق عليه ليلة بيروت (صور هادي سي)

ما آلَمَه أكثر هو غياب أيّ إشعار مُسبَق. فـ«منحوتة ضخمة تُزال بهذه الطريقة» جعلته يشعر بأنّ «الفنان في لبنان غير مُحتَرم ومُهدَّد». يؤكد أنّ «الفعل مقصود»، لكنه يمتنع عن تحديد أيّ جهة «لغياب الأدلّة».

يؤمن سي بأنّ الفنّ أقرب الطرق إلى الإنسان، والذاكرة، وإنْ مُحيَت من المكان، لا تُنتزع من أصحابها. كثيرون تواصلوا معه تعاطفاً، وقالوا إنهم لم يتعاملوا مع المنحوتة على أنها عمل للمُشاهدة فقط، وإنما مرّوا في داخلها كأنهم يخرجون من «رحم أُم نحو ولادة أخرى». لذلك يأمل أن تجد مكاناً يسمح بقراءتها من جديد على مستوى المعنى والأمل: «إنها تشبه بيروت. شاهدة على المآسي والنهوض، ولم تَسْلم من المصير المشترك».

من جهتها، تُشدّد مديرة المبيعات والتسويق في «لوغراي»، دارين مدوّر، على أنّ الفندق «مساحة لاحتضان الفنّ واستضافة المعارض ومواكبة الحركة الثقافية البيروتية». وتنفي لـ«الشرق الأوسط» أيّ علاقة للفندق بقرار إزالة المنحوتة: «الرصيف الذي وُضعت عليه لا يعود عقارياً لنا، ولا نملك سُلطة بتّ مصيرها. بُلِّغنا، كما الجميع، بتغيير موقعها، لا أكثر ولا أقل».


بشعار «في حب السينما»... انطلاق عالمي لمهرجان البحر الأحمر

جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي تتوسط أعضاء لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام (إدارة المهرجان)
جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي تتوسط أعضاء لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام (إدارة المهرجان)
TT

بشعار «في حب السينما»... انطلاق عالمي لمهرجان البحر الأحمر

جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي تتوسط أعضاء لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام (إدارة المهرجان)
جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي تتوسط أعضاء لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام (إدارة المهرجان)

تحت شعار «في حب السينما»، انطلقت فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة، وسط حضور كبير لنجوم وصنّاع السينما، يتقدمهم الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة، وجمانا الراشد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي، إلى جانب أسماء سعودية بارزة في مجالات الإخراج والتمثيل والإنتاج.

ويواصل المهرجان، الذي يمتد من 4 إلى 13 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، ترسيخ موقعه مركزاً لالتقاء المواهب وصناعة الشراكات في المنطقة. وشهدت سجادة المهرجان الحمراء حضوراً مكثفاً لشخصيات سينمائية من مختلف دول العالم. وجذبت الجلسات الحوارية الأولى جمهوراً واسعاً من المهتمين، بينها الجلسة التي استضافت النجمة الأميركية كوين لطيفة، وجلسة للممثلة الأميركية كريستن دانست، وجلسة لنجمة بوليوود إيشواريا راي. وافتُتح المهرجان بفيلم «العملاق»، للمخرج البريطاني - الهندي روان أثالي، في عرضه الأول بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو فيلم يستعرض سيرة الملاكم البريطاني اليمني الأصل نسيم حميد بلقبه «ناز».

ويسعى المهرجان هذا العام إلى تقديم برنامج سينمائي متنوع يضم عروضاً عالمية مختارة، وأعمالاً من المنطقة تُعرض للمرة الأولى، إضافة إلى مسابقة رسمية تستقطب أفلاماً من القارات الخمس. كما يُقدّم سلسلة من الجلسات، والحوارات المفتوحة، وبرامج المواهب، التي تهدف إلى دعم الأصوات الجديدة وتعزيز الحضور العربي في المشهد السينمائي الدولي.