محمد شرف في «ذكريات أشجار بعلبك»: الفنّ ضد الأسمنت واليباس

يُحيي ذاكرة الأشجار المقطوعة ويتصدّى لتبدُّل الهوية المكانية

يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)
يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)
TT

محمد شرف في «ذكريات أشجار بعلبك»: الفنّ ضد الأسمنت واليباس

يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)
يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)

يتعمَّد الفنان التشكيلي اللبناني محمد شرف أن يجعل من مدينته بعلبك امتداداً حيّاً لمعرضه المُقام حالياً فيها. فهي لم تَعُد بالنسبة إليه مجرَّد موطن، وإنما ملاذٌ يُلهمه، وملجأ يحتضنه بعد أن جرّب الإقامة البيروتية، قبل أن يُقرّر «هجرها» تحت وطأة صخبها، وضجيجها الأسمنتي. بعلبك الآن حاضرة في لوحاته، وفي ظلال طبيعتها يُقدّم معرضه الجديد بعنوان: «من ذكريات أشجار بعلبك وآثاره»، حيث يتجلّى الاخضرار بتقلّباته، وتظهر المساحات الحرجية تحت وطأة المعاناة، وجشع الإنسان.

بعلبك حاضرة في لوحاته وفي ظلال طبيعتها يُقدّم معرضه (محمد شرف)

في حواره مع «الشرق الأوسط»، تبدو نبرته مُثقلة بما يُشبه الندم الجماعي على ما جرى في المدينة. كان يتنقّل في الحديث عن اللوحات كما لو أنه يتفقّد أشجاراً حيّة، يطمئنّ على جذوعها، وأوراقها، ويتأمّل صمتها الناطق.

الأشجار في لوحات شرف مُتخيَّلة أكثر منها واقعية، لكنها مُشبَّعة بروحية المكان الذي يألفه، وينتمي إليه. ليست انعكاساً لزمن مناخي واحد، رغم قُرب زمن تنفيذها؛ ففيها ضوء النهار الذي يخفت أحياناً، ويترك أثره على اللون، واللون نفسه يبدو كأنه يشيخ مع الزمن، ويتواطأ معه. والشجر عنده مسائيّ أيضاً، يُبدّل ألوانه كما تتبدّل أوراقه تحت سطوة المواسم. لا يرسم شرف أشجاراً لتكون نسخاً عن واقعها، فهو يُحمِّلها رمزية، ويمنحها صوتاً، لتقول ما يشاء هو أن يقوله، وتعترض كما يريد لفنّه أن يعترض.

يجعل من مدينته بعلبك امتداداً حيّاً لمعرضه المُقام حالياً فيها (محمد شرف)

في أعماله، يطلّ اليباس، فيُستَدعى الرسم لتجسيد الشرّ البشري بحقّ الثروة الحرجية. أشجاره يابسة، ومقطوعة، في إشارة فنّية صريحة إلى همجية ما يُرتكب ضدَّ الطبيعة. يروي شيئاً من ذاكرته، بصوت سرعان ما يعكس انفعالاته: «حدث ذلك قبل 30 عاماً تقريباً. أُسمّيها مجزرة، ولا أجد تعبيراً ألطف. في شارع رأس العين بمدينة بعلبك، قُطِعت أشجار صفصاف وحور ضخمة. ذلك القَطْع الفظيع غيَّر معالم المكان. تذرَّعوا بالحاجة إلى توسيع الطريق، رغم أنه كان ممكناً إيجاد حلّ آخر يُبقي الأشجار. أهالي بعلبك لا يزالون يبكون تلك الفجيعة. هي راسخة في ذاكرتنا الجماعية، فأردتُ من هذا المعرض مَنْح بعض العزاء للنزيف المستمر».

تظهر المساحات الحرجية تحت وطأة المعاناة وجشع الإنسان (محمد شرف)

ورغم أنّ ذاكرته مُثقَلة بصورة تلك الأشجار الضخمة، لا يرسم محمد شرف نسخاً عنها. فالشجرة لديه تُستعاد برمزها قبل حجمها. يتحدَّث عنها بشغف مثل مَن يتحدَّث عن كائن حيّ يسري الدم في عروقه. هي بالنسبة إليه مرادفة للحياة؛ لكن تلك التي تُحدِثها الطبيعة من دون تدخُّل بشري. فالشجرة التي تُروى أو تُشذّب بيد إنسان، تختلف عن تلك التي تنمو وحدها في البرّية. يُسمّي عملية نموّها «حرّية تامة». وبمجرّد حضورها في المشهد، تُعيد تشكيله، فتفرض جماليّتها، وسكينتها، وتستردّ السلطة من الأسمنت. المعرض يبدو تعويضاً ما عن عجزٍ سابق تمثَّل في عدم قدرته على إنقاذ الأشجار المقطوعة قبل 3 عقود. لذلك يرسم، لعلّه يُخفّف من قسوة الذاكرة.

وفي مجموعة أخرى من أعماله، يُطلق صرخة لا تقلّ دويّاً يُجسّد فيها تغوّل المشهد الأسمنتي على الواقع. من بين اللوحات، عمل يُصوّر «الحيّ المسيحي» في بعلبك، حيث يقع منزل الشاعر خليل مطران، فيُعيد المكان إلى الذاكرة ما يحمله من دلالات: «يذكّرني بمشاوير السينما، والهدوء المفقود»، يقول. تغيَّر كل شيء. لم تَعُد أعمدة بعلبك مرئية كما كانت، فقد حجبتها كتل الباطون. تبدّلت الإطلالات، وحلّ الأسمنت مكان المساحات الخضراء، لتتحوَّل المدينة في وصفه إلى «ترسانة باطون مسلّح».

الأشجار في اللوحات مُتخيَّلة أكثر منها واقعية (محمد شرف)

محمد شرف، المُدافع الشرس عن التراث المعماري الشعبي، لا يكتفي بتوثيق الجمال فحسب، ليُواجِه ما يُرتكب بحقّه. شكَّل هذا التدمير الممنهج موضوعه لدكتوراه الفنّ، وهو لا يتردّد في أن يكون صوتاً مناهضاً في وجه من يُحاول أن يُطفئ ملامح الهوية.

وإنْ عاد إلى قريته البعلبكية بعد عقد من الزمن في بيروت، فلكي يُرمِّم في روحه ما تصدَّع. يرسم أشجارها كما لو أنه يُرمِّم الطبيعة ذاتها. تجربة المدينة لم تمرّ من دون أثر، فرسم فيها مباني تتسلّل منها شجرة وحيدة، كأنها متروكة لمصير بائس. بهذا الرسم، يُسجِّل اعتراضاً آخر على مشهد الشُّرفات البيروتية التي تحجب الرؤية، مُفضّلاً أن يستفيق صباحاً في بعلبك ليراها أمامه بانورامية، عظيمة، شاسعة، لا كما يراها أبناء العاصمة: شظايا من باطون، وجدران، ومشهدية مبتورة.

أسلوبه اليوم أقرب إلى الواقعية (محمد شرف)

أسلوب محمد شرف اليوم أقرب إلى الواقعية، بعدما جرّب التجريد، واكتشف أنه يستهلك نفسه فيه من دون أن يفي بمهمّته. موضوعاته لا تولد من فكرة مُسبَقة، فهي شرارة حسّية تبدأ بلوحة ثم تتسلسل إلى مجموعة. يريد من فنّه أن يُوجِّه الأذواق نحو الجمال الحقيقي، ويكفيه أن يُثير وعياً ما، أو يُحدث ارتجاجاً في الوعي الثقافي حيال ما يجري حولنا.

في لوحات محمد شرف، لا تنمو الأشجار فقط على الوسيط الفنّي، فهي تمتدّ مثل جذور في ضمير المكان، كأنها تحاول أن تستعيد هواءها، وأن تنهض من ركام الذاكرة. الفنّ هنا فعل مقاومة، يصرخ في وجه الأسمنت، ويبكي الأشجار المقطوعة، ويقيم لها مقاماً في الجمال، حيث لا تجرؤ الجرافات على الوصول. وبين قسوة الماضي وفورة الحنين، يترك شرف فرشاته مثل وصيّة خضراء لكلّ مَن لا يزال يؤمن بأنَّ للظلّ حقاً في الحياة.


مقالات ذات صلة

ارتفاع الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوتيرة أسرع من مثلي المعدل العالمي

بيئة عامل يقف تحت أشعة الشمس وسط درجات الحرارة المرتفعة (رويترز)

ارتفاع الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوتيرة أسرع من مثلي المعدل العالمي

قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، في تقرير، إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجّلت أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق في عام 2024

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق نفايات القهوة تعزز قوة الخرسانة وتقلل البصمة الكربونية (معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا)

نفايات القهوة تصنع خرسانة أقل انبعاثاً للكربون

تكشف الدراسة عن إمكانية تحويل مخلفات القهوة إلى مادة بناء مستدامة تعزز صلابة الخرسانة وتخفض بصمتها الكربونية، مما يدعم التوجه نحو اقتصاد دائري.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
ثقافة وفنون عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال

جين غودال وإرث البشرية المضطرب

غيابها ليس مجرد فقدانٍ لعالمةِ رئيسياتٍ أو ناشطةِ بيئةٍ، بل هو إغلاق للنافذة التي فتحتها بنفسها بقوةٍ وصبرٍ في غابات غومبي التنزانية قبل أكثر من ستة عقود.

ندى حطيط (لندن)
آسيا فيضانات في تايلاند (أ.ب)

ارتفاع عدد الوفيات جراء الفيضانات في تايلاند وسريلانكا

ذكر بيان حكومي أن حصيلة الوفيات جراء الفيضانات في جنوب تايلاند ارتفعت إلى 87 اليوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (بانكوك)
يوميات الشرق يعكس ظهور النسر ضمن المحمية أهميتها المتزايدة بوصفها ملاذاً للطيور المهاجرة (واس)

رصد أول ظهور للنسر أبيض الذيل في السعودية منذ 20 عاماً

رصدت محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ظهوراً نادراً للنسر أبيض الذيل، أحد الطيور المهاجرة، وهو الرصد المؤكد الأول لهذا النوع في السعودية منذ أكثر من 20 عاماً.

«الشرق الأوسط» (تبوك)

من دون قهوة... كيف تتغلب على النعاس بعد تناول الغداء؟

الخروج في نزهة قصيرة لتجديد نشاطك قد يساعدك في محاربة النعاس بعد تناول الغداء (بكسلز)
الخروج في نزهة قصيرة لتجديد نشاطك قد يساعدك في محاربة النعاس بعد تناول الغداء (بكسلز)
TT

من دون قهوة... كيف تتغلب على النعاس بعد تناول الغداء؟

الخروج في نزهة قصيرة لتجديد نشاطك قد يساعدك في محاربة النعاس بعد تناول الغداء (بكسلز)
الخروج في نزهة قصيرة لتجديد نشاطك قد يساعدك في محاربة النعاس بعد تناول الغداء (بكسلز)

هل تجد صعوبة في إبقاء عينيك مفتوحتين بعد الغداء؟ كثيراً ما يبدأ الناس يومهم بنشاط ثم تنهار طاقتهم بعد الغداء. هناك العديد من الأسباب التي تجعل الأشخاص يشعرون بانخفاض نشاطهم في فترة ما بعد الظهر، وخاصةً بين الساعة الواحدة ظهراً والرابعة عصراً.

كشف الدكتور أنتوني ريفي، اختصاصي النوم السلوكي في مركز هنري فورد الصحي: «الإيقاع اليومي الطبيعي لجسمنا، وهو الساعة الداخلية التي تعمل على مدار 24 ساعة وتساعد على تنظيم عملياتنا البيولوجية، يرسل إشارات إلى الدماغ خلال النهار ليبقينا متيقظين ونشيطين. مع حلول وقت الغداء، تنخفض هذه الإشارات مما قد يجعلنا نشعر بالنعاس».

إليك طرق تساعدك في التغلب على نعاس ما بعد الظهر دون احتساء رشفة من القهوة:

استمع إلى الموسيقى

أثبتت الدراسات أن الاستماع إلى موسيقى مُبهجة يُحسّن المزاج ومستوى الطاقة. للحفاظ على نشاطك خلال النهار بعد الغداء، أنشئ قائمة تشغيل لأغانٍ مُبهجة لتسلية نفسك. ولأن الموسيقى نشاط ممتع في كثير من الأحيان، فإنها تُحفز إفراز هرمون السعادة الذي يُبقيك نشيطاً.

استمر بالحركة

إذا شعرت بالنعاس بعد تناول الطعام بعد الظهر، يمكنك الخروج في نزهة قصيرة لتجديد نشاطك. يعتقد الخبراء أن ممارسة الرياضة تُنشط عقلك وجسمك. كما أنها تُعرّضك للهواء النقي والإضاءة الطبيعية، مما يُحقق لك نتائج جيدة.

اخرج إلى الشمس

اخرج إلى الشمس لضبط ساعتك البيولوجية وتوفير فيتامين «دي» الضروري. يمكن لأشعة الشمس الطبيعية أن تمنع إنتاج هرمون النوم (الميلاتونين) في جسمك. إذا كنت في المكتب، ولا يسمح لك ذلك بالتعرض لأشعة الشمس، يمكنك تشغيل أضواء السقف الساطعة وتجنب الظلام، خاصةً بعد استراحة الغداء.

حافظ على رطوبة جسمك

يُعد الحفاظ على رطوبة الجسم أمراً بالغ الأهمية لأداء وظائفك اليومية. ويؤكد الباحثون أن الجفاف، حتى لو كان خفيفاً، قد يؤدي إلى التعب، مما قد يؤثر على قدرتك على التركيز. يقول الدكتور ريفي: «للأسف، يُصاب الكثير من الناس بالجفاف المزمن لمجرد أنهم لا يشربون كمية كافية من الماء لأداء أنشطتهم اليومية».

تناول غداءً متوازناً

احرص على تناول نظام غذائي متوازن غني بالبروتين والألياف والدهون الصحية خلال النهار. اتباع هذه النصيحة الواعية سيساعدك على التغلب على مشكلة النوم بعد الظهر، التي تأتي فجأةً بعد الغداء، خاصةً بين الساعة الأولى ظهراً والرابعة عصراً.

اتبع نمط نوم جيداً

النوم الجيد ليلاً أمرٌ لا غنى عنه، خاصةً إذا كنت تحاول إدارة انخفاض الطاقة بعد الغداء. يوصي الخبراء بأن ينام الشخص البالغ من 7 إلى 9 ساعات على الأقل ليلاً ليشعر بالنشاط خلال النهار. يوضح الدكتور ريفي: «كمية النوم التي يحتاج إليها كل شخص تختلف من فرد لآخر، وتتغير على مدار حياته».


«الشاطئ الأخير»... فيلم بلجيكي يرصد مأساة واقعية من قلب أفريقيا

صوَّر المخرج الفيلم في ظروف صعبة (الشركة المنتجة)
صوَّر المخرج الفيلم في ظروف صعبة (الشركة المنتجة)
TT

«الشاطئ الأخير»... فيلم بلجيكي يرصد مأساة واقعية من قلب أفريقيا

صوَّر المخرج الفيلم في ظروف صعبة (الشركة المنتجة)
صوَّر المخرج الفيلم في ظروف صعبة (الشركة المنتجة)

لم يتخيّل المخرج البلجيكي جان فرانسوا رافانيان أن مقطعاً مصوَّراً عابراً على مواقع التواصل الاجتماعي سيقوده، بعد سنوات من البحث، إلى قلب أفريقيا، وتحديداً إلى قرية نائية في غامبيا، ليغوص عميقاً في مأساة إنسان يُدعى «باتيه سابالي».

الشاب الذي هزّ غرقُه في القناة الكبرى بالبندقية عام 2017 الرأيَ العام العالمي، حين اكتفى العشرات من المتفرجين بالصراخ وإطلاق الإهانات العنصرية بدلاً من مدّ يد العون له، كان مقطعُ الفيديو المصوَّرُ له الشرارةَ الأولى لفيلمه الوثائقي «الشاطئ الأخير»، الذي يحاول أن يعيد لهذا الشاب اسمه وصوته وحكايته.

قال رافانيان لـ«الشرق الأوسط»، إنه يتذكّر اللحظة الأولى جيداً؛ «كان الأمر صفعةً. رأيتُ الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، كما شاهده آلاف غيري في ذلك الوقت. صدمتني اللامبالاة، والكلمات العنصرية، والجمود الكامل أمام غرق شاب لا يحاول أحد مساعدته. في البداية لم أفكّر في فيلم؛ فكّرتُ بصفتي صحافياً: مَن هذا الشاب؟ ماذا حدث؟ ولماذا لم يتحرّك أحد؟».

وأضاف المخرج، الذي عُرض فيلمه للمرة الأولى عربياً في مهرجان «الدوحة السينمائي»، أن الأمر تحوّل إلى هاجس، بيد أنه اصطدم منذ اللحظة الأولى بحقيقة أن التحقيقات في إيطاليا كانت مغلقة بالكامل، مما جعل الوصول إلى أي معلومة أمراً معقّداً وصعباً.

المخرج البلجيكي (الشركة المنتجة)

ولأن الطريق إلى الحقيقة كان مسدوداً، اختار المخرج البلجيكي طريقاً آخر، وهو البحث عن عائلة باتيه. يقول: «استغرق الأمر عامين كاملين لأجد أثرهم في غامبيا، وعندما وصلت أخيراً إلى القرية، أدركت أن الغضب الذي اجتاحني أمام شاشة الكمبيوتر في أوروبا كان صورة مختلفة. فالعائلة دعتني إلى رؤية الأمور من زاوية أخرى: زاوية الفقد، والغياب، والبحث عن المعنى. عند تلك اللحظة تغيّر الفيلم تماماً».

يشير رافانيان إلى أن «أصعب ما واجهته في البداية لم يكن الطبيعة أو الظروف، بل بناء الثقة مع العائلة»، مضيفاً: «عندما تصل إلى قرية بعيدة، وتكون غريباً، عليك أن تدرك أن لكل عائلة سرديّتها الخاصة. كان عليّ أن أجد الطريقة المناسبة للوقوف بالكاميرا، وأن أتجنّب أي منظور قد يُشعِرهم بأننا نمسك بموقع قوة أو وصاية. الثقة كانت المفتاح، لا الأدوات ولا الموقع ولا التقنية».

وعن ظروف التصوير في القرية، يشرح رافانيان أن «الفريق كان صغيراً للغاية؛ كنت أنا، ومدير التصوير، ومساعدة تنتمي إلى مجتمع الفولا، تتحدث لغتهم وتفهم ثقافتهم. ولم تكن المسألة لغةً فقط، بل سلوكاً ومعتقدات ونظرة إلى الحياة. كنا نقيم في القرية أياماً طويلة بلا كهرباء، نصحو مع الفجر وننام مع المغيب؛ لا فنادق ولا راحة، فقط الحياة اليومية كما هي. وكل 8 أيام نعود إلى المدينة لشحن البطاريات وإحضار حاجات العائلة، ثم نعود من جديد. كان الوجود الدائم ضرورياً، لأن أقرب مدينة تبعد أربعين دقيقة بالسيارة، ولأن الحياة في القرية تبدأ وتنتهي مبكراً».

المخرج حاول تسليط الضوء على هوية العائلة في فيلمه (الشركة المنتجة)

اختار المخرج ألّا يُظهر باتيه، رغم امتلاكه صوراً عدّة له سواء من العائلة أو من الإنترنت، لكنه لم يرغب في استخدامها، وهو ما يفسّره قائلاً: «أردتُ أن يراه الجمهور من خلال غيابه، كما تعيشه عائلته. أردتُه غائباً، حاضراً بالصوت وبالأثر. فالصوَر قد تعيد تجسيده، لكنها قد تُسطّح ما تعرّض له، بينما الصوت، صوت العائلة وذاكرتها، يعيد إنسانيته كاملة».

وعن كيفية حماية العائلة في هذا النوع من الأفلام الحسّاسة، يقول رافانيان إن ما فعله يشبه عمل الصحافة أكثر منه عملاً سينمائياً؛ فالعائلة لم تكن تعرف تفاصيل ما حدث في القناة، ولم يرغب في أن يضع الفيديو أمامهم أو أن يعرّضهم لصدمة جديدة. وحين سألته الأم عمّا وقع لابنها، قال لها الحقيقة بالكلمات. ويضيف: «لم تشأ أن ترى الفيديو، واكتفت بأن تعرف. كان هناك أيضاً تقريرٌ من 200 صفحة صادر عن السلطات الإيطالية، لم يكن من حقّهم الحصول عليه، فساعدناهم على الوصول إليه. كان الفيلم أيضاً وسيلة لكشف الحقيقة لهم، ولإنصافهم أسرياً».

لم يُنكر المخرج البلجيكي وجود صعوبات عدّة أثناء التصوير في غامبيا، من الإجراءات الأمنية والبيروقراطية المعقّدة، إلى عدم اعتياد السكان على الكاميرا، فضلاً عن عزلة القرية نفسها وافتقارها إلى الكهرباء والمياه العامة، واعتماد حياتها اليومية على الزراعة وتربية النحل. لكنه، رغم ذلك، لا يُخفي سعادته بهذه التجربة التي وثّقت اسم «باتيه سابالي».


رابح صقر وناصر نايف يفتتحان «صدى الوادي» بليلة طربية في وادي صفار

وادي صفار معروف بمكانته التاريخية وموقعه الحيوي (موسم الدرعية)
وادي صفار معروف بمكانته التاريخية وموقعه الحيوي (موسم الدرعية)
TT

رابح صقر وناصر نايف يفتتحان «صدى الوادي» بليلة طربية في وادي صفار

وادي صفار معروف بمكانته التاريخية وموقعه الحيوي (موسم الدرعية)
وادي صفار معروف بمكانته التاريخية وموقعه الحيوي (موسم الدرعية)

ساعات من الطرب والحماسة شهدتها أولى حفلات برنامج «صدى الوادي» في وادي صفار، مع صقر الأغنية الخليجية رابح صقر، والفنان ناصر نايف، ضمن فعاليات موسم الدرعية.

وانطلقت، الخميس، أولى حفلات برنامج «صدى الوادي»، في مشهد جمع بين القيمة التاريخية للمكان والإيقاع الفنّي الذي يُقدّمه موسم الدرعية 25-26، ضمن برامجه التي تمزج بين التاريخ والتراث والسياحة والترفيه.

وبدأت الأمسية على المسرح المفتوح بتصميمه الذي ينسجم مع الطبيعة الآسرة لوادي صفار شمال غربي مدينة الرياض، مع الفنان السعودي الشاب ناصر نايف الذي تفاعل معه الجمهور وهو يؤدّي أغنياته المُحبَّبة.

وتصاعدت حماسة الحضور مع ظهور صقر الأغنية الخليجية رابح صقر الذي لفت الأنظار بأدائه في عدد من أغنياته، أبرزها: «يوم ما أنا ضحّيت ما أقصد جحود»، و«حبيبي اللي همّه رضاي»، إلى جانب أداء ناصر الاستثنائي في «نسايم نجد»، و«خلي الليالي سعادة»، ومجموعة أخرى من الأغنيات التي أشعلت شتاء وادي صفار في أولى حفلات موسم الدرعية هذا العام.

الفنان ناصر نايف خلال الحفل (موسم الدرعية)

الفنان رابح صقر خلال الحفل (موسم الدرعية)

ويأتي اختيار وادي صفار لتنظيم الأمسية لما يمثّله من قيمة تاريخية وموقع حيوي كان على مدى العصور مَعْبراً للمسافرين وقوافل التجارة، وملتقى اجتماعياً لأهالي الدرعية، قبل أن يتحوَّل اليوم إلى مسرح مفتوح يحتضن فعاليات ثقافية وفنية تعكس حضور الموسم وتنوّع عروضه. ويندرج هذا الحفل ضمن برنامج موسيقي واسع يشارك فيه فنانون من أبرز الأسماء العربية؛ من بينهم: فنان العرب محمد عبده، وقيثارة العرب نوال، وراشد الفارس، وأميمة طالب، وفنانو حفل اليوم، الجمعة، عايض يوسف، وزينة عماد، بالإضافة إلى مجموعة من المواهب السعودية الممّيزة.

أجواء تراثية وطربية في ليالي «صدى الوادي» (موسم الدرعية)

ويُقدّم برنامج «صدى الوادي» سلسلة من الحفلات التي تستضيف أبرز الفنانين في العالم العربي، عبر إثراء التجربة الفنية لزوار موسم الدرعية من خلال عروض موسيقية متنوّعة تشمل السامري وفنون الأداء الجماعي، وتُبرز جماليات المكان بتكوينه الطبيعي وشواهده التاريخية.

وتشمل تفاصيل «صدى الوادي» تجربة متكاملة تبدأ باستقبال الزوار بطابع الضيافة السعودية، مروراً بعروض شعرية وغنائية، وصولاً إلى مرافق فنّية ومعارض تفاعلية، من بينها معرض السامري الذي يُقدّم سرداً بصرياً وثقافياً لتراث فنون الأداء النجدية عبر تقنيات رقمية وآلات موسيقية معروضة، بما يعزّز دور البرنامج في الحفاظ على الفنون التقليدية وإبرازها بأسلوب معاصر.