كثيرةٌ هي القبّعات التي اعتمرها كميل منسّى خلال مسيرته المهنيّة الحافلة، لكنّ أكثر قبّعة أحبّها الجمهور عليه هي إدارته لنشرات الأخبار اللبنانية، رئيسَ تحريرٍ ومدير فريق ومذيعاً. يذكرونه وجهاً كان «يمسّي عليهم» قارئاً نشرات الأخبار، ومعلناً لهم أبرز الأحداث في لبنان والعالم، يوم كان التلفزيون ما زال يحتفظ بحصريّة الخبر العاجل والدهشة.
من القناة الرسمية «تلفزيون لبنان» مطلع الستينات، مروراً بقناة LBC بعد 20 عاماً، وصولاً إلى MTV في بداية التسعينات، رسّخ كميل منسّى أعمدة نشرات الأخبار، فكان أحد أبرز مؤسسي الإعلام المرئي في لبنان. ويوم قرر أن يسكب مذكّراته على الورق، لم تُصبه الحيرة كثيراً لدى انتقائه عنواناً لها.
«النشرة الكاملة»، هذا هو العنوان العريض لسيرة منسّى «في زوابع الصحافة والإعلام»، كما يسمّيها. الكتاب الصادر حديثاً عن دار «أنطوان» اللبنانية، قدّم له نجل منسّى، وليد، مستذكراً والداً تعامل بتجرّد ومهنيّة مع الأحداث التي واكبها، على كثرتها وفظاعتها.
أمضى كميل منسّى آخر 3 أعوام من حياته منشغلاً بمذكّراته. اعتنى بمشروع الكتاب حتى يومه الأخير، لكنه رحل قبل خروجه من المطبعة. لم يُقدّر له أن يجمع الأصدقاء والزملاء في حفل توقيع كما كان يتمنّى. وضع المخطوطة أمانةً في يد وليد الذي تولّى اللمسات الأخيرة، وهو يشارك «الشرق الأوسط» ذكرياته مع أبيه وكواليس الإعداد لكتاب الختام.
هو الولد الذي فتح عينَيه على أبٍ كان يتصدّر شاشة التلفزيون، وهو الشاب الذي أدرك قيمة ذاك الأب من خلال عيون الناس وأحاديثهم، وهو الرجل الذي كان صديق والده ورفيق اللحظات الأخيرة.
«خلال الأشهر الستة التي سبقت وفاته، واظبتُ على الجلوس معه مرتَين أسبوعياً لإعادة قراءة الكتاب»، يقول وليد منسّى. كما شارك في المراجعة صديق منسّى الأب، الصحافي فرنسوا عقل.
من الطفولة بين المدن الجنوبيّة: صور، وصيدا، وجزّين، وصولاً إلى الجلسات مع الرؤساء والقادة والملوك، مروراً بالسنوات التي تنقّل خلالها بين غرف الأخبار، تختصر سيرة كميل منسّى جزءاً أساسياً من العصر الذهبي للإعلام اللبناني.
تخصّص في الحقوق إلّا أنّ حلم الصحافة هو الذي غلب الاختصاصات والوظائف كلها. كانت البدايات في صحيفة «لوريان لو جور» الناطقة بالفرنسية، حيث تتلمذ منسّى على يد جورج نقّاش، الذي «لطالما عدّه أستاذه في الصحافة المكتوبة»، وفق ابنه وليد.
من الورق انتقل إلى الشاشة عام 1959 وتحديداً إلى تلفزيون لبنان، حيث عمل مترجماً فورياً للأفلام ثم مقدّماً لنشرة الأخبار. تحضر في الكتاب لحظاتٌ تلفزيونية أسرته وأثّرت به، كإعلانه اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، وقراءته خبر مشي أول إنسان على سطح القمر، وإذاعته وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
مع مرور السنوات، تحوّل التلفزيون من مدرسته إلى ملعبه ومقرّ نجاحه. تلك التجربة التي دامت عقداً من الزمن، هي التي رسمت صورة كميل منسّى في ذاكرة اللبنانيين. «كانت من بين أحبّ التجارب المهنية إلى قلبه»، وفق وليد.
في تلك الفترة كذلك، تولّى إدارة المركز الوطني للسينما بالتزامن مع إدارة الأخبار والبرامج السياسية في «شركة التلفزيون اللبنانية». ويسرد الكتاب مواكبة منسّى عن كثب العصر الذهبي للسينما اللبنانية، فهو جالسَ المخرج العالمي يوسف شاهين يوم كان يعمل على فيلم «بياع الخواتم» مع الأخوين رحباني وفيروز. كما شهد على ترشيح أول فيلم لبناني إلى جائزة السعفة «الذهبية» في مهرجان «كان».
ما بين التلفزيون وإذاعة لبنان حيث تولّى إدارة البرامج، رحلةٌ تعرّف خلالها منسّى على شخصياتٍ أثّرت فيه ونسج معها علاقاتٍ وطيدة. من بين هؤلاء الأديب ميخائيل نعيمة، والإمام موسى الصدر، والعميد ريمون إده، والصحافي غسان تويني. وقد كانت للأخير اليد الطولى في عودة منسّى إلى الصحافة المكتوبة من باب جريدتَي «النهار» و«لوريان لو جور».
مرّت سنوات الحرب اللبنانية 1975 - 1990 ثقيلةً على المستوى الشخصي ومثمرةً مهنياً. تنوّعت تغطيات منسّى خلالها ما بين محلّية وخارجية، فهو كان مراسلاً لعدد من وسائل الإعلام الأجنبية. يمرّ في مذكّراته على لقاءاتٍ جمعته بشخصيات عربية عدة، من بينها الملك سعود بن عبد العزيز، وعاهل الأردن الملك حسين، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، وغيرهم.
أما لبنانياً، فتأخذ معرفتُه برؤساء الجمهورية حيّزاً من الكتاب. تأثّر بفؤاد شهاب مع أنه لم يلتقِه سوى مرة واحدة أعرب فيها شهاب عن «عدم ارتياحه إلى ممارسة الحياة الرئاسية؛ لأن السياسيين اللبنانيين لا يتمتّعون بالنزاهة والاستقامة». أما شارل حلو، فقد درّبه منسّى على إلقاء خطاباته والكلمات المتلفزة. ولسليمان فرنجية الجدّ حكاية معه، فهو الذي تفرّد بإعلان فوزه مباشرةً على الهواء، ما دفع بأهل بلدة الرئيس، زغرتا، إلى حمل كميل منسّى على الأكتاف يوم توجّه لتهنئته.
يخبر وليد منسّى أن اغتيال الرئيس بشير الجميّل شكّل حدثاً محورياً بالنسبة إلى والده. لم يكن الأخير غريباً عن بشير، فقد اعتنى بجزءٍ من شؤونه الإعلامية. يكتب منسّى: «انتُخب الشيخ بشير، وبدأ إعداد الترتيبات لجلسة أداء اليمين الدستورية. وعندما جهز الخطاب الذي سيلقيه في تلك الجلسة، تقرر عقد لقاء عند الرابعة من بعد ظهر 14 سبتمبر (أيلول) في مكتب كريم بقرادوني في السوديكو لتدريب الرئيس المنتخب على إلقائه، ولإدخال التعديلات التي يراها مناسبة. وصلتُ قبل الموعد بربع ساعة. دقت الساعة الرابعة ولم يصل صاحب المكتب ولا الرئيس المنتخب. (...) بعدها بعشر دقائق سمعنا دويّ انفجار».
يتوقّف الكتاب كذلك عند محطات محوريّة جمعته بالرؤساء أمين الجميّل وميشال عون اللذَين واكبهما إعلامياً، وإلياس الهراوي الذي كتب له منسّى سيرته الذاتية بعنوان «عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة».
في أول تحقيق صحافي كتبه عام 1964، تطرّق كميل منسّى إلى بطء العمل في القصر الجمهوري. شاء القدر أن يودّع الإعلاميّ المخضرم وطنه بقصرٍ رئاسي فارغ. لكنه رغم ذلك، وضع الأمل في الأجيال القادمة، وأهدى سيرته إلى حفيدتَيه سارة ماريا، ولورا.