فجّرت الشهادة التي أدلى بها أنتوني فاوتشي، الرئيس السابق للمعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، خلال جلسة استماع في مجلس النواب الأميركي، الاثنين، جدلاً واسعاً بأميركا والعالم، بعدما قال إن «إجراءات التباعد لم تستند إلى تجارب علمية».
وكان الجمهوريون قد انتقدوا ترويج فاوتشي لقاعدة التباعد الاجتماعي البالغة 6 أقدام، التي فُرضت خلال الجائحة، وأبقت كثيراً من الشركات والمدارس مغلقة في السنوات الأولى من الوباء، وأنها لم تكن مبنية على العلم.
وقال براد وينستروب، المعني بجائحة فيروس «كورونا» في مجلس النواب، الممثل الجمهوري عن ولاية أوهايو، ورئيس اللجنة الفرعية، إن فاوتشي «أشرف على أحد أكثر أنظمة السياسة الداخلية عدوانية التي شهدتها الولايات المتحدة على الإطلاق».
وهي الاتهامات التي ردّ عليه فاوتشي قائلاً إنه «على الرغم من أن بعض التدابير ربما لم تكن ضرورية مثل غيرها، فإنه كان على مسؤولي الصحة العامة اتخاذ قرارات ببيانات محددة في بداية الوباء، وإن الوكالات الأميركية الأخرى مثل المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها كانت المسؤولة عن تنفيذ هذه السياسات».
وأضاف أن «المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها قدّمت هذا الإجراء بناءً على المعرفة المتاحة في ذلك الوقت، حول المدى الذي يمكن أن ينتقل به الرذاذ الذي يحتوي على الفيروس من شخص إلى آخر».
وأوضح فاوتشي، الذي كان قد ذكر أن الإجراءات الاحترازية لم تكن تستند إلى أساس علمي، أنه يقصد أنه لم توجد تجارب سريرية حول الفيروس المسبب لـ«كوفيد» آنذاك.
وهو ما علّق عليه الدكتور ويليام شافنر، أستاذ الأمراض المعدية في قسم السياسة الصحية بالمركز الطبي بجامعة فاندربيلت الأميركية، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «بالطبع لم تكن هناك تجارب سريرية لتوصيات التباعد الاجتماعي البالغة 6 أقدام، فيما يتعلق بفيروس (كورونا)، فقد كان الفيروس جديداً تماماً، وسبّب أمراضاً لا حصر لها، وكذلك آلاف الوفيات».
وأضاف: «نظراً لأن فيروس (كورونا) كان عدوى تنفسية، فقد اعتمد مركز السيطرة على الأمراض على كثير من المعلومات السابقة والمعروفة حول انتقال فيروسات الجهاز التنفسي».
وذكر أن «تلك البيانات كانت تشير إلى أن انتقال الفيروس سينخفض كثيراً على مسافة 6 أقدام»، مشدداً على أنه «لو انتظرت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تقديم توصيات حتى يتم إجراء تجربة سريرية، لكان من الممكن أن تتعرض لانتقادات شديدة بسبب التأخير في مواجهة الوباء».
لافتاً إلى أن «تلك التوصية كانت معقولة ومناسبة وحكيمة».
وهو ما اتفق معه الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة مصر الدولية، مشدداً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» على أن «مسألة تحديد أصل الفيروس من عدمه لا تؤثر في تصميم السياسات الصحية الضرورية للحد من انتشار الفيروس والوقاية من المرض»، مؤكداً على أن «معرفتنا بالفيروس تمت بشكل متدرج، وفق عدد من المراحل التي مرّ بها الوباء في أميركا وبقية دول العالم».
قاعدة الأقدام الست
كما أفاد الدكتور سوريش دانيالا، الأستاذ المتميز في الهندسة الميكانيكية وهندسة الطيران بجامعة كلاركسون، في مقال نشره بموقع «كونفيرزيشن» في سبتمبر (أيلول) 2020، أن قاعدة الست أقدام تعود إلى ورقة بحثية نشرها ويليام ف. ويلز عام 1934، الذي كان يدرس كيفية انتشار مرض السل. وقدّر ويلز أن قطرات الجهاز التنفسي الصغيرة تتبخر بسرعة، بينما تسقط القطرات الكبيرة على الأرض. ووجد أن أبعد قطرة سافرت قبل أن تستقر أو تتبخر كانت نحو 6 أقدام.
ووفق دانيالا، فإنه عندما يقوم الإنسان بالزفير، فإنه يطرد قطرات من الجهاز التنفسي بأحجام مختلفة، معظمها أصغر من 10 ميكرونات في القطر. ويمكن أن تنخفض بسرعة إلى ما يقرب من 40 في المائة من قطرها الأصلي، أو أصغر، بسبب التبخر.
وأوضح أنه مع ذلك، فإن القطرات لن تتبخر تماماً. وذلك لأنها تتكون من الماء والمواد العضوية، ومن المحتمل أن تبقى هذه القطرات الصغيرة معلقة في الهواء لمدة تتراوح بين دقائق وساعات، ما يشكل خطراً على أي شخص يتلامس معها.
ووفق نتائج عدد من الدراسات التي قام بها دانيالا وفريقه البحثي في هذا الصدد، فإنه عندما يتم ذلك في الهواء الطلق، يوفر الجمع بين التباعد الجسدي وأغطية الوجه حماية ممتازة ضد انتقال الفيروس. أما في الداخل فالصورة مختلفة جداً.
ويمكن لتيارات هواء الغرفة الخفيفة جداً الصادرة من المراوح ووحدات التهوية أن تنقل قطرات الجهاز التنفسي لمسافات أكبر من 6 أقدام. ومع ذلك، على عكس الأماكن الخارجية، فإن معظم المساحات الداخلية تعاني من ضعف التهوية. وهذا يسمح لتركيز قطرات الجهاز التنفسي الصغيرة المحمولة جواً بالتراكم بمرور الوقت، والوصول إلى جميع أركان الغرفة.
معدل العدوى
تفيد نتائج هذه الدراسات أنه عندما تكون في الداخل، يعتمد خطر الإصابة بالعدوى على متغيرات، مثل عدد الأشخاص في الغرفة وحجم الغرفة ومعدل التهوية. كما يمكن أن يؤدي التحدث بصوت عالٍ أو الصراخ أو الغناء أيضاً إلى توليد تركيزات أكبر من القطرات، ما يزيد بشكل كبير من خطر العدوى المرتبطة بها.
ويعتقد باحثون أنه ليس من المستغرب أن معظم الأحداث «الفائقة الانتشار» التي أصابت أعداداً كبيرة من الأشخاص تمّت في تجمعات داخلية، بما في ذلك مؤتمرات العمل والحانات المزدحمة والجنازات وتدريبات الكورال.
على صعيد آخر، اتهم البعض فاوتشي، خلال جلسة الاستماع ذاتها، بقمع مزاعم تقول إن الصين ربما أطلقت، عن طريق الخطأ أو عن قصد، فيروس «كوفيد 19»، من مختبر في مدينة ووهان، في إشارة إلى المعمل الذي تتجه إليه الشكوك بمدينة ووهان الصينية، كما زعم البعض أن فاوتشي شجّع مجموعة من علماء الفيروسات على نشر مقال علمي خلص إلى أن سيناريو التسرب في المختبر كان صحيحاً.
وهو ما نفاه فاوتشي بالقول إنه ظل منفتحاً بشأن كيفية ظهور الوباء، مؤكداً على أنه أيّد نظرية مفادها أن المرض جاء من حيوان مصاب. وأصرّ على أن البحث الذي موّلته وكالته في معهد ووهان لا يمكن أن يكون سبباً في ظهور الوباء.
وهو ما علّق عليه الدكتور روجر بيلكي جونيور، الباحث في سياسات العلوم بجامعة كولورادو بولدر الأميركية، لـ«الشرق الأوسط»: «كانت هناك مخالفات موثقة، وربما إجراءات غير قانونية من قبل موظفي الوكالة التي كان يقودها فاوتشي، لكن ذلك لا يشير إلى وجود تستر على أصول الوباء، بل يثير كثيراً من الأسئلة حول قيادة الصحة العامة في الولايات المتحدة حول هذا الموضوع».