«إلى حدا ما» في بيروت... الإخراج المُتقَن يُجمِّل لقاء السينما والمسرح

يتوّجها كاتبها وبطلها رالف معتوق بأداء مبهر

أبطال المسرحية يلقون التحية على الجمهور (الشرق الأوسط)
أبطال المسرحية يلقون التحية على الجمهور (الشرق الأوسط)
TT

«إلى حدا ما» في بيروت... الإخراج المُتقَن يُجمِّل لقاء السينما والمسرح

أبطال المسرحية يلقون التحية على الجمهور (الشرق الأوسط)
أبطال المسرحية يلقون التحية على الجمهور (الشرق الأوسط)

وضعت مسرحية «إلى حدا ما» البوح المتعلّق بآلام الناس تحت المجهر. فيها، ركَّز كاتبها وبطلها «رالف س» معتوق على المشاعر الإنسانية. يقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ مقاربة هذه الموضوعات لها وَقْعها الأكبر عند المتلقّي: «مهما حاولنا الالتهاء عن الواقع الأليم، تبقى مشاعرنا المدفونة سجناً نرغب في الإفلات منه».

على مسرح «بيريت» على طريق الشام في بيروت، انطلقت العروض من بطولة معتوق، وسولانج تراك، وعمر ميقاتي. تدور الأحداث ضمن عملية إخراج مُتقنة ومُحترفة لمازن سعد الدين. أما القصة فتتناول لقاء بالمصادفة يجمع 3 شخصيات في مستشفى للأمراض العقلية؛ اختزالاً لصورة بلد نعيش فيه ويعمّه الجنون.

مشهدية فنية جميلة تتضمّنها المسرحية (الشرق الأوسط)

الشخصيات تعاني جروحاً علّمت في الذاكرة، وأوصلت إلى هذا المكان. يركّز العمل على موضوع التخلّي ممَن نعتقد أنهم يحبّوننا. هذا الانفصال تتناوله المسرحية ليُشكّل العقدة الرئيسية فيها. لجوء كاتبها إلى حقبة زمنية غير محدّدة، سمحت له بالاستفادة من مواقف مختلفة. فيُعرّج خلالها على زمن الحرب اللبنانية، كما على الخيانة، والظلم، والتلاعب بالمشاعر. لتُختَتم بمشهد مؤثّر يجسّده معتوق بأداء مبهر واكبه طوال العرض.

لنحو ساعة، يتابع المُشاهد عملاً مختلفاً يجمع فنوناً متعدّدة بجانب اتّسامه بالإنسانية. فتحضُر الموسيقى والأغنية والسينما، وتشكّل الخشبة فضاء واسعاً لها. فسعد الدين أضاف إلى عناصرها التمثيلية رؤية فنية تشبه «شعطته» (لمعته المجنونة) الإخراجية. لعب على الإضاءة وحرّكها بما يخدم جمالية العمل. كما استحدث مساحة خيال واسعة يسرح فيها مُشاهدها بما يشبه الشريط السينمائي ضمن مشهدية بصرية تحتفي بالإبداع. فنتابع عروضاً مصوَّرة على شاشة جانبية لشخصيات تُكمل القصة. كما يرتكز العمل على الاتصال المباشر مع الجمهور، فنرى بطله يتقدّم نحو الصفوف الأمامية لعرض مقتنيات انتشلها من حقيبة ذكرياته. ومرّة أخرى تحدُث جلبة في الصالة، فيسمع الجمهور صوت خطوات آتية من الخلف، ليكتشف مرور موكب جنازة يتألّف من رجال يحملون صندوق الموت.

حضور محبَّب للمخضرم عمر ميقاتي في المسرحية (الشرق الأوسط)

طوال العرض، يستمتع مُشاهدها بتفاصيلها؛ من بينها إطلالة الممثل المخضرم عمر ميقاتي ضيف شرف، ليقدّم واحداً من أدواره المرتكزة على عفوية الأداء وتراكم تجارب درامية. يجسّد دوراً يثير المضحك المبكي، فيسرق الانتباه. أما سولانج تراك، بلكنتها الجبلية اللافتة، فتقدّم دوراً غنياً بتركيبته ومعانيه، فيطاردها الحضور بعينيه كيفما تحرّكت. تترك لديه انطباع المرأة المظلومة، لتفاجئه بشخصيتها المثيرة للجدل، وتُكمل حلقة الإبداع التي خطَّط لها المخرج.

كان معتوق، المجسِّد شخصية «أليكس» المركّبة، نجم المسرحية. غرق في هذه الشخصية غير المتّزنة، وتألّق في أدائه منذ عثوره على رسالة مجهولة المُرسِل، فرغب في الردّ عليها بعنوان «إلى ما حدا». من هنا تنطلق قصة يُشكل محرّكها الأساسي، فيقدّم الدور بحرفية غاص فيه حتى قبل بداية العرض، فبينما الحضور يجلس على مقاعده، انطلق بدوره، جاثياً على ركبتيه، منزوياً، ومنحني الرأس، يدير ظهره لهم، فيشغل انتباههم.

رالف معتوق نجم المسرحية (الشرق الأوسط)

ميرا مرسل (غناء)، وفكتوريا مرقص (عزفاً على التشيللو)، كانتا الفسحة الفنية الممتعة. ووراء حائط من قماش الكتان، نرى طيفهما من عليّة فوق الخشبة. جسّدتا الحلم الجميل الذي يحطّم واقعاً مرّاً. بصوت ميرا الدافئ، وعزف فكتوريا الحنون، تأسرك هذه المشهدية.

اختير عنوان المسرحية «إلى حدا ما» كون العمل يحمل موضوعات تخاطب أي شخص. العروض مستمرّة على خشبة «بيريت» في بيروت حتى 15 يونيو (حزيران) المقبل.


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق فريق العمل خلال البروفة التحضيرية (المسرح القومي)

يحيى الفخراني يُعيد «الملك لير» إلى المسرح القومي المصري

يعود الفنان المصري الكبير يحيى الفخراني للوقوف على خشبة المسرح مجدداً عبر إعادة تقديم رائعة ويليام شكسبير «الملك لير»، التي ستعرض على خشبة المسرح القومي بالقاهر

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الممثلة اللبنانية ندى أبو فرحات (إنستغرام)

ندى أبو فرحات من قلب بيروت... مسرح تحت القصف

النيران تسيّج المدينة، ونارٌ من نوعٍ آخر تتّقد على خشبات مسارحها. «في انتظار بوجانغلز» جزء من هذه الفورة المسرحية البيروتية، وبطلتها الممثلة ندى أبو فرحات.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق التمرين على تقديم عروض يتواصل (مسرح شغل بيت)

«مسرح شغل بيت» يحتفل بـ8 سنوات على ولادته

تُعدّ الاحتفالية حصاد 8 سنوات من العمل والاجتهاد، خلالها قدّم «مسرح شغل بيت» نحو 40 عملاً توزّعت على أيام تلك السنوات عروضاً شهرية استمرت طوال أزمات لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق الخليفة الفاطمي يتحدث إلى مستشاريه (الشرق الأوسط)

«عروسة المولد» تواجه طمع الإنسان في «الحلم حلاوة»

تدور فكرة العرض حول عروسة المولد والفارس من خلال «حدوتة» غير تقليدية تنتقل بالمشاهدين إلى العصر الفاطمي، حيث تقع معظم أحداثها.

نادية عبد الحليم (القاهرة)

أراجوز «مُعدّل» ينشر بهجة في شوارع مصرية

عبد التواب يقدم أحد عروض الأراجوز (الشرق الأوسط)
عبد التواب يقدم أحد عروض الأراجوز (الشرق الأوسط)
TT

أراجوز «مُعدّل» ينشر بهجة في شوارع مصرية

عبد التواب يقدم أحد عروض الأراجوز (الشرق الأوسط)
عبد التواب يقدم أحد عروض الأراجوز (الشرق الأوسط)

منذ أواخر عام 2018 وبعد إدراجه ضمن قوائم «اليونيسكو» للتراث العالمي غير المادي، الذي يحتاج للصون العاجل، صار هَمّ فناني الأراجوز المصري العمل على إعادته للشوارع والحدائق والميادين بوصفها حاضنة عُروضه الأساسية والبيئة الطبيعية التي يمكنه أن ينشط فيها بعروض مبهجة للأطفال، تزيل عنه بعضاً من أخلاقه القديمة التي كان معروفاً بها. فقد كان، مثل قول الفنان ناصر عبد التواب المشرف على عروض الأراجوز الأسبوعية في المركز القومي لثقافة الطفل، «عدوانياً، وسليط اللسان، وهي قيم ليست تربوية ارتبطت به لدى فناني العرائس القدامى، وكان يجب أن نطوّر رسالته، ونغيّر من طبيعته، ونقدمه في صورة جديدة، تتلافى هذه الخصال دون أن يتخلى الأراجوز عن صناعة البهجة وإضحاك الأطفال».

ويضيف عبد التواب، وهو مخرج مسرح عرائس ولاعب أراجوز، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ عام 2007 وأنا أقدّم عروضاً عرائسية في الحديقة الثقافية للأطفال بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة، كما دربت ابتداء من عام 2019 أكثر من 60 من الكوادر على تحريك العرائس، وقدّمت على مدار أعوام عروضاً كثيرة منها (أحلام العصافير)، و(قسم وأرزاق)، فضلاً عن حفلات عديدة لفن الأراجوز، تختلف عن (النمر التراثية)، وتقوم أساساً على الارتجال».

أطفال مصريون يشاهدون عروض الأراجوز (الشرق الأوسط)

ولفت عبد التواب إلى أن العروض التراثية مثل «الأراجوز والبربري»، و«الأراجوز والشحات»، وغيرهما، تتضمن أفكار «عنف وتنمر» لا تصلح للأطفال. «وكانت لدينا وقفة كي يقوم الأراجوز بدوره التقويمي للسلوك، وغيّرنا شكله، من رجل كبير لديه شارب، إلى أراجوز طفل يتعلم منه الأطفال. كنا نريد ونحن نسعى لترسيخ الدور التربوي لفن العرائس أن نجعل الطفل لا يتعدى حدوده ويتجرأ على الكبار، ويقوم بتصحيح سلوكهم، كان هدفنا المحافظة على قيمة الكبير في نظر الأطفال»، وفق قوله.

ويضيف عبد التواب: «كان التغيير في هيئة الأراجوز من رجل كبير يرتسم على وجهه شارب، إلى طفل صغير، هو الأنسب ليكون أكثر قرباً للأطفال».

وركزت عروض الأراجوز التي قدّمها عبد التواب وزملاؤه في شوارع عدد من محافظات مصر في الجنوب والشمال بدءاً من الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط وقنا وسوهاج ومطروح... على فكرة الانتماء، وأهمية الوقت، واحترام الكبير، وقيمة الاعتذار، والبعد عن العنف، وتقوم على التفاعل مع الأطفال بعيداً عن فكرة التلقين، وشارك فيها فنانون جدد كانوا نتاج برنامج تدريبي اعتمده المركز القومي لثقافة الطفل منذ 6 سنوات للمحافظة على فن الأراجوز من الاندثار.

الفنان ناصر عبد التواب وزملاؤه يقدمون عروض العرائس للأطفال (الشرق الأوسط)

ويقدم فنانو الأراجوز عدداً من العروض في حدائق وشوارع القاهرة يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، ويوم 28 من كل شهر، فضلاً عن العروض التي تُقدّم في ملتقى الأراجوز السنوي 28 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، بمناسبة وضع الأراجوز على قائمة «اليونيسكو» بوصفه تراثاً أولى بالحماية، وعنصراً من مكونات الثقافة المصرية.

قصة تسجيل الأراجوز ضمن التراث المصري في «اليونيسكو» يحكيها الباحث أحمد عبد العليم مدير مركز ثقافة الطفل المُشرف على عروض فن العرائس، مشيراً إلى أن «لجنة مصرية قامت بجهود كبيرة في مواجهة الرغبة التركية لتسجيلها ضمن تراثها، ونجح كل من نبيل بهجت ونهلة إمام وأحمد مرسي، في إقناع المنظمة الدولية بأحقية مصر في ذلك».

ويضيف عبد العليم لـ«الشرق الأوسط»: «تلقفنا قرار (اليونيسكو) وبدأنا في عمل برنامج عاجل لحماية فن الأراجوز والعرائس التقليدية، وجمعنا كل الفنانين أصحاب الشأن، كانوا لا يزيدون عن 7، وكان لا بد من تدريب أجيال جديدة من أجل وراثته وتطويره، كان ذلك في الملتقى الأول عام 2018، ورعته وزيرة الثقافة وقتها الفنانة الدكتورة إيناس عبد الدايم».

أحد عروض الأراجوز في شوارع مصر (الشرق الأوسط)

وقال عبد العليم: «كان الملتقى (أشبه بالمولد)، ويحمل ملامح المناخ نفسه الذي نشأ فيه الأراجوز، بعروض احتضنتها الشوارع»، لافتاً إلى أن «فن الأراجوز يحتاج إلى ممارسة يومية ليتمكن الفنان من إجادته، ويجب أن يُقبل عليه بمحبة وشغف ليواصل العمل فيه، والآن لدينا أكثر من 25 فناناً عرائسياً قديراً. أما الباقون، ويزيد عددهم عن 40 فناناً، فيقومون بدور (الملاغي)، وهو عنصر مهم في العروض الأراجوزية التي يقدمها المركز وتحمل رسالة وقيماً إنسانية».

ويُقبل على عروض حديقة السيدة زينب جمهور كبير من الأُسر المصرية تأتي بأطفالها لمشاهدتها والاستمتاع بها، ومنهم والد الطفل يوسف أحمد الذي قال إنه «يحب هو وأبناؤه الأراجوز، وصوته الجميل، ولا يتوقف عن الضحك من مواقفه، وألعابه وأغنياته».