حدث «كان» الأكبر هو حدث العام السينمائي بأسره

«ميغالوبوليس» لكوبولا قمّة فنية لا مثيل لها

عالم جديد في «ميغلوبولوس» (مهرجان كان)
عالم جديد في «ميغلوبولوس» (مهرجان كان)
TT

حدث «كان» الأكبر هو حدث العام السينمائي بأسره

عالم جديد في «ميغلوبولوس» (مهرجان كان)
عالم جديد في «ميغلوبولوس» (مهرجان كان)

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان»-4

في الدقيقة 80 من بداية فيلم «ميغالوبوليس» يتقدّم رجل على المنصّة أمام الشاشة ثم يقف في نقطة معيّنة. على الشاشة ما زال الفيلم الجديد لفرنسيس فورد كوبولا معروضاً، لكن في اللحظة التي يقف فيها ذلك الرجل أمام الفيلم، هناك لقطة للممثل الرئيسي وهو محصور بإطار يبدو مثل نافذة ويتطلع صوب الرجل الواقف على المسرح. الرجل يسأل والممثل موجهاً نظره إليه (إذ من المفترض أنه يراه) يجيب.

يستمر هذا المشهد لنحو 30 ثانية فقط، لكنه من إبداعات المخرج ودعماً لرسالته التي يتضمنها الفيلم وتفعيلاً لفكرة لم تقم بها السينما من قبل. نعم، على المسرح لكن ليس في السينما.

لن يخسر الفيلم شيئاً لو لم يعمد إلى هذه الحركة، رغم ذلك لها وقع كبير لمؤازرة مضامينه. «ميغالوبوليس» فانتازيا يصفها المخرج بالأخلاقية تتكهن بأن الولايات المتحدة ستشهد نهاية كتلك التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد وتعمد إلى استيحاء الأحداث المستقاة من ذلك التاريخ لكي ترسمها على وضعٍ يراها مشابهة اليوم.

الوقت المناسب

الفيلم في بال كوبولا منذ 1974. لكنه كان يحتاج لتمكين نفسه اسماً فنياً كبيراً ولامعاً. ما بين 1972 و1974 أنجز ذلك، لكن الوقت لم يكن مناسباً. ربما لم تتكوّن معطيات الفيلم بوضوح آنذاك، أو ربما أدرك أن رؤيته ستصطدم بمعيقات مادية. في عام 2001، إثر الهجوم الإرهابي على نيويورك، عاد إلى الفكرة لكنها كانت تحتاج لمزيد من الكتابة والقليل من الانفعال.

انتظر كوبولا الوقت المناسب الذي هو الحالي. وقت تمر فيه الولايات المتحدة والعالم بسلسلة من المآزق التي تضع إسفيناً ما بين عالم متخبط ومغمور بالثورة المادية وبين أخلاقيات الحياة والمبادئ التي باتت غير قادرة على الدفاع عن الإنسان وحضاراته.

أدرك كوبولا، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، أنه قد لا يحقق فيلماً آخر بعد اليوم وأن عليه، إذا ما أراد تحقيق هذا الفيلم فعلاً، أن يموّله من جيبه. المشروع كبير ومعقد وكثيف الجوانب البصرية وفيه كمٌ كبيرٌ من الممثلين وأجواء وتصاميم فنية وديكوراتية كبيرة. لم يبخل كوبولا على حلمه، بل وضع ثروة بلغت 130 مليون دولار، مدركاً أنه سينجز فيلماً من الصعب جذب الجمهور الكبير إليه. جمهور «العرّاب» (بجزئيه الأول والثاني) وجمهور «المحادثة» أو حتى «القيامة الآن» (الشركة الموزّعة هي ألمانية اسمها Constantine ولا يوجد للآن موزّع أميركي).

كوبولا خلال التصوير (أميركان زوتوب)

لا يبدو أن ذلك يحرم كوبولا من النوم. على العكس أنجز الرجل حلم حياته، وهو فعل أكثر بكثير من أحلام عديدة تنتابنا لا نستطيع تحقيقها. جمع للفيلم أسماء رنانة. أدام درايڤر في دور سيزار، ولورنس فيشبورن، ودستين هوفمن، وجونن ڤويت، وشايا لابوف لجانب أخرى غير معروفة على نطاق واسع: نتالي إيمانويل، وأوبري بلازا، وجيان كارلو إسبوزيتو، وعشرات آخرين.

مفاجآت بصرية

مطلوب من هذه الشخصيات الماثلة الترميز للشخصيات التي عاشت في زمن قياصرة روما (كاليغولا، سيزار، سيسيرو، كراسوس... إلخ) وهي تفعل ذلك، لكن ليس بلباس تاريخي، ولا تقع أحداث الفيلم أساساً في حقب تاريخية. إنه عن عالم معاصر يدمج اليوم بالمستقبل لكنه يتحدّث عن الآفة التي لا تعرف تميّز العصور: السُلطة والجاه حين لا تستندان إلى نفع عام. في نظر كوبولا، ما حدث للإمبراطورية الرومانية هو التنافس على المصالح الشخصية واستفحال التنافس عليها. ما يوازيه، في منظور المخرج، هو وجود هذا التنافس وذلك الاستفحال في الزمن الحاضر في أميركا.

أدام درايڤر وأودري بلازا في لقطة من الفيلم (أميركان زوتروب)

آدم درايڤر هو مصمّمٌ معماري ذو رؤية مستقبلية لتحويل المدينة التي يعيش فيها إلى صرح شامخ بمادة اكتشفها (لا يتوقف الفيلم عند تفاصيلها) ستنقل الحاضر إلى المستقبل. يقاومه في هذا المشروع محافظ المدينة (إسبوزيتو) وهناك من يعارض المدينة الجديدة انطلاقاً من أنه يريد إنشاء كازينو كبير.

سيزار يحب جوليا (إيمانويل) ابنة المحافظ الذي يتودّد حيناً ويعارض معظم الأحيان، خصوصاً في مسألة زواج ابنته بسيزار. هناك مشكلة أخرى في حياة سيزار وهي أن عشيقته واو (أوبري بلازا) تريده لنفسها وهي تملك زمام أمره لأن والدها (جون ڤويت) هو أثرى أثرياء المدينة، ويستطيع وقف تمويله وتجميد حساباته المصرفية.

في ساعتين و14 دقيقة يستعرض «ميغالوبوليس» مشاهده في سلسلة متواصلة من المفاجآت البصرية. هذا عالم شيّده كوبولا كما كان أورسن ويلز، وفدريكو فيلليني، وكوبولا نفسه شيدوه من قبل. لا يوجد شيء سهل في النظرة الأولى، وكل شيء ممكن تنفيذه مغلّفاً بجاذبية الفكرة وما تفصح عنه من مضمون وبالأسلوب الذي ينتمي إلى مخيلة لا تفتقر القدرة على الإدهاش. بما أن هذه القدرة تعتمد على جديّة المضمون وأبعاده فإنها ليست خاوية مطلقاً.

صرخة

يحشد كوبولا كل ما في وسعه لتنفيذ رؤية تتبلور على أكثر من صعيد. من الكتابة إلى آخر لقطة من الفيلم، هذا عمل مجبول بخيال بمهارة حرفية نافذة. نصف الساعة الأخيرة تعاني من ثقل ما سبقها لكن الفيلم لا يقع وما ينقذه هو المستوى المتواصل من دون هوان والمليء بالمفاجآت البصرية وكلها غير مجانية ولا تهدف لكي تتبوأ عناوين لافتة. الفيلم بأسره هو صرخة زيّنها المخرج بخيال رحب وواسع. المفارقة هي أنه إذ يعرض واقعاً متشائماً لا يعمد إلى تظليله ومنحه صورة داكنة للتأكيد عليه، بل ينجز فيلماً لافتاً في مساحاته وفضاءاته البيضاء.

تصوير متمكن من ميهاي ملامار جونيور (صوّر لبول توماس أندرسن The Master)، لكنه لم يُقدم على تصوير فيلم آخر بالدرجة نفسها من التعقيد. اثنان كتبا الموسيقى الرائعة التي تنساب من دون إزعاج هما أوسڤالدو غوليوف (اشتغل سابقاً مع كوبولا في «شباب بلا شباب») والمؤلّفة غريس ڤاندرڤال (اشتغلت على أفلام مستقلة صغيرة من قبل).

هذا فيلم، والحديث عنه يطول جداً، يقسم المشاهدين إلى معجبين متيّمين (وهذا الناقد أحدهم) وإلى نابذين ومنتقدين، وكل من الفريقين له وجهة نظر تؤيده، مما يجعل كليهما صحيحاً على صعيد مبدأي.

قد ينتقد البعض المضمون الأخلاقي والبعض الآخر الكثافة البصرية والطرح المناوئ للحريات الفردية التي لا ضابط لها (مادية وجنسية)، لكن هذه المسائل ذاتها التي تجعل الفيلم نادراً. كوبولا يفصح في كل زاوية منه عن نقد أكبر شأناً حول حياتنا العصرية. السعي للديمومة والانصراف للملذات المتاحة للبعض بلا عوائق أخلاقية. بطل الفيلم في تصميمه على خلق حياة جديدة تخلف الواقع المعاش ليس بدوره بريئاً أو خالياً من العيوب. إنه واحد من النخبة التي حدث أنها تفكر على نحو مختلف.

في الوقت نفسه، فيلم كوبولا الجديد عاكس لا لفنه والخامة الكبيرة التي يستخدمها في أفلامه فقط، بل لشخصه أيضاً. هو موجود محل أدام درايڤر واحداً من الذين يريدون تغيير الواقع. هو، الثري، لا يفكّر بالطريقة نفسها، بل يستخدم فيلمه لنقد الحاضر من فوق. يوعز بأنه صرف على الفيلم من جيبه عوض أن يكتم شهادته التاريخية.


مقالات ذات صلة

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

قال الفنان المصري عمرو سعد إن غيابه عن السينما في السنوات الأخيرة جاء لحرصه على تقديم أعمال قوية بإمكانات مادية وفنية مناسبة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)

«سلمى» يرصد معاناة السوريين... ويطالب بـ«الكرامة»

تدور أحداث الفيلم السوري «سلمى» الذي جاء عرضه العالمي الأول ضمن مسابقة «آفاق عربية» بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، وتلعب بطولته الفنانة سلاف فواخرجي.

انتصار دردير (القاهرة)

«إثراء» تكرّس مؤتمر الفن الإسلامي بالظهران «في مديح الفنان الحِرفي»

الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
TT

«إثراء» تكرّس مؤتمر الفن الإسلامي بالظهران «في مديح الفنان الحِرفي»

الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية والأمير سلطان بن سلمان في افتتاح مؤتمر الفن الإسلامي بمركز «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)

افتتح الأمير سعود بن نايف بن عبد العزيز، أمير المنطقة الشرقية، اليوم الأحد، أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية، بحضور الأمير سلطان بن سلمان، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، رئيس مجلس الأمناء لجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد.

وينظم المؤتمر مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» بالظهران، بالتعاون مع جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد، ويستمر حتى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، تحت شعار «في مديح الفنان الحِرفي».

ويحضر المؤتمر باحثون في الفن والتاريخ الإسلامي، ومثقفون وضيوف من مختلف دول العالم،

ويهدف إلى دعم وإحياء التقاليد الفنية الإسلامية بتسليط الضوء على أعمال الحِرفيين المعاصرين الذين يُبقون هذه التقاليد الفنية والحِرفية على قيد الحياة.

الحرف رحلة تعلّم

وفي كلمته، ثمن المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين ورئيس مجلس أمناء جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد الأمير سلطان بن سلمان آل سعود، جهود «أرامكو» في مجال الإرث والحضارة ودعم المشاريع التراثية في المنطقة الشرقية، مستعرضاً الأهمية التاريخية للحِرف بوصفها مليئة بالتراث الحضاري للمناطق، وذلك عطفاً على إنجازات المملكة في المحافل الدولية والعالمية بمشاركات متنوعة، سواء من مؤسسات ومعارض ومؤتمرات ذات بُعد تاريخي واجتماعي تصبّ في المنفعة المجتمعية.

وأكد «الأهمية التاريخية للحرف على أنها رحلة تعلم وليست إنجازات»، لافتاً، في الوقت نفسه، إلى «دور المتاحف في تعزيز التاريخ بوصفها وجهة رئيسية لكل دولة». وأشار إلى جهود المملكة في تسجيل واحة الأحساء بصفتها موقعاً تراثياً عالمياً في منظمة اليونسكو.

الحرفي شاعر صامت

وفي كلمته ذكر مدير مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» عبد الله الراشد أن مدرسة الفنون الإسلامية يكاد يغيب عنها الصانع، قائلاً: «القطع الإسلامية لا تعرف من صنعها، أما القطع المعاصرة فيُحتفى بالصانع، وكأن الحرفي في الفنون الإسلامية يود أن يبقى في الظل والخفاء»، مشيراً إلى أن «الحرفي شاعر صامت»، فمن هذا المنطلق حرص «إثراء» على إقامة هذا المؤتمر «في مديح الفنان الحرفي»، والذي «يحوي أوراقاً بحثية وجلسات حوارية ومعارض مصاحبة من أنحاء العالم؛ لنستكشف جمال الحرف الإسلامية وتأثيرها العميق على الثقافة الإنسانية، ولنعبر بتقدير عالٍ لمن يبدعون بأيديهم تراثنا وهويتنا ويصنعونها في زمن جل ما يلمس ويستخدم يصنع بالآلة، لذا أتينا بهذه المعارض لنحتفي باليد البشرية».

ولفت الراشد إلى إطلاق ثلاثة معارض متزامنة مع أعمال المؤتمر في القطع الأثرية والفنون الإسلامية والأزياء التراثية من حول العالم، في حين يتزامن إطلاق المؤتمر مع تسمية عام 2025 عام الحرف اليدوية الذي أطلقته وزارة الثقافة، مما يضيف بعداً خاصاً لهذه المناسبة.

وأضاف: «جهودنا في (إثراء) للعام المقبل تتضمن تقديم عشرات البرامج الكبرى والمعارض والورش؛ كلها حول الحرف اليدوية نستهدف فيها آلاف الزوار».

كود المساجد

بدوره، أعلن رئيس مجلس أمناء الفوزان لخدمة المجتمع عبد الله بن عبد اللطيف الفوزان، اعتماد كود المساجد في المملكة، والذي عملت عليه الجائزة بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية واللجنة الوطنية لكود البناء، مشيراً إلى أنه سيجري تدشينه في شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.

وأشار إلى أن المؤتمر ملهم لإحياء الإرث الحضاري والتاريخي للأجيال القادمة، منوهاً، في الوقت نفسه، بالمكانة التي يتمتع بها الفنان الحرفي عبر العصور، لذا جاءت الجائزة بوصفها مرجعاً ثقافياً وفكرياً ومظلة حاضنة للمبادرات، والتي تحافظ على الموروث بوصفه رؤية مستقبلية.