«قصة مدينتين» في معرضين

تستضيفهما أثينا والإسكندرية ويستكشفان الجذور والفن والقصص المشتركة بينهما

نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دي إيجيبت» مع الفنان اليوناني كوستاس باراتسوس (تصوير: ولاء الشاعر)
نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دي إيجيبت» مع الفنان اليوناني كوستاس باراتسوس (تصوير: ولاء الشاعر)
TT

«قصة مدينتين» في معرضين

نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دي إيجيبت» مع الفنان اليوناني كوستاس باراتسوس (تصوير: ولاء الشاعر)
نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دي إيجيبت» مع الفنان اليوناني كوستاس باراتسوس (تصوير: ولاء الشاعر)

علاقة خاصة تجمع بين مدينة الإسكندرية المصرية واليونان، جذور تاريخية تعود لعهد الإسكندر الأكبر، فهو أسسها، وسمّاها على اسمه، وترك فيها بعضاً من روحه. وما زالت الإسكندرية تحمل الكثير من الروابط والصلات مع اليونان، وهي صلات متبادلة، فستجد يونانيين يعيشون في الإسكندرية، نسمع عن آثار يونانية غارقة، ونرى بعضها فوق الأرض، هناك اشتراك في قصص شعبية وفنانين وشعراء وأكلات وكثير من الخيوط التي تندمج في نسيج المدينة الثري. وليس عجيباً أن تجد اللمحات نفسها في مدن يونانية. في أثينا قد تستوقفك اللهجة العربية على لسان شخص يوناني، التاريخ والثقافة والحاضر يومئ لتاريخ خاص مشترك.

«قصة مدينتين» قد يكون عنواناً لرواية إنجليزية شهيرة، ولكنه أيضاً عنوان لمعرضين قادمين في أثينا والإسكندرية. يستكشف المعرضان تبادلات فنية وحوارات ثقافية عبر أعمال لفنانين من مصر واليونان. المعرض أعلنت عنه مؤسسة «آرت دي إيجبيت» و«كالتشارفاتور»، ويقام تحت رعاية وزارة الثقافة وهيئة السياحة المصريتين. يستضيف متحف الأكروبوليس في أثينا الجزء الأول من المعرض بدءاً من 25 يونيو (حزيران)، ويستمر حتى 16 يوليو (تموز)، ثم يقام الجزء الثاني في الإسكندرية في الفترة من 17 إلى 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بالشراكة مع مكتبة الإسكندرية.

نادين عبد الغفار مؤسسة «آرت دي إيجيبت» مع الفنان اليوناني كوستاس باراتسوس (تصوير: ولاء الشاعر)

نادين عبد الغفار، رئيسة مجلس إدارة مؤسسة «آرت دي إيجيبت» تتحدث لنا عن المعرض وفكرته. بحماسة جميلة تقول نادين، وهي فرنسية - مصرية: «ولدت في الإسكندرية، واكتشفت مؤخراً أن لديّ أصولاً يونانية.» منذ الجملة الأولى يمكننا لمس مدى تعلق نادين عبد الغفار بمدينتها الإسكندرية، وهو تعلق تعبر عنه بالقول: «أنا مسحورة بها». وتردف ذلك بوصف الألفة التي تشعر بها في كل زيارة لمدينة أثينا: «كلما زرت أثينا أحسست بذلك التشابه، أشعر بها وكأنها مدينة الإسكندرية التي أحبها. المثير في الأمر أن الكثير مما يميز المدينتين ظل كما هو، فنحن لدينا الكثير من العادات والثقافة المشتركة». في حديثها تشير إلى أن الصلات العميقة بين البلدين تشهد عليها مكتشفات بحرية وكنوز غارقة يعلنها الأثريون حالياً في مياه الإسكندرية، ومنها كثير مما يتعلق بالإسكندر الأكبر.

ملصق «قصة مدينتين»

ترى في المعرضين المقبلين أكثر من مجرد عروض لأعمال فنية: «أعتقد أنها طريقة للجمع بين المدينتين المرتبطتين ببعضهما منذ القدم... هناك جانب من الشاعرية في فكرة مدينتين في قارتين مختلفتين يربط بينهما كثير من الأمور. وأرى أن هذا أمر جميل، أعتقد أننا في منطقة البحر المتوسط نشترك في الثقافة نفسها، وهناك كثير من التقاطعات الثقافية بين المدن المختلفة على المتوسط».

لا تفصح عبد الغفار عن كثير من تفاصيل العرض الفني المرتقب مثل الأعمال المعروضة أو نوعيتها، ولكنها تقول إنَّ العرض الأول في أثينا سيجمع الجانب التراثي، وربما التاريخي مع الفن المعاصر، وسيشارك فيه فنانون من اليونان، وهم كوستاس باراتسوس وداناي ستراتو، ومن الإسكندرية الفنانان عمر طوسون وسعيد بدر، بالإضافة إلى فيديو للمصور كريم الحيوان، يعرض مجموعة متنوعة من التعبيرات الفنية.

لوحة الفنان السكندري محمود سعيد «بيرايوس عند الفجر» في أثناء عرضها في دار «سوذبيز» في عام 2021 قبل بيعها بالمزاد (سوذبيز)

تشير أيضاً إلى أن العرض سيضم لوحة مستعارة لفنان الإسكندرية الأشهر محمود سعيد، وهي لوحة «بيرايوس عند الفجر» التي نفذها سعيد في عام 1949، وبِيعت في مزاد لدار «سوذبيز» في عام 2021، وتصور مشهداً صناعياً استثنائياً لميناء بيرايوس في اليونان. أن تجد لوحة لمحمود سعيد السكندري الشهير، تصور مشهداً من اليونان فقد وجدت العنصر المثالي والمعبر عن الفكرة الأساسية للعرض.

مثل محمود سعيد يظهر اسم الشاعر اليوناني السكندري كفافي في بيان المعرض. تقول عبد الغفار إن مؤسسة «أوناسيس» التي رممت منزل الشاعر كفافي في الإسكندرية تضم في مقرها بأثينا الأرشيف الكامل لأعمال الشاعر. وتضيف: «مؤسسة (أوناسيس) داعمة لنا ولمشاريع كثيرة في الإسكندرية مثل ترميم منزل كفافي. جميل أن المؤسسة مهتمة بالمحافظة والتوثيق للتراث». تحلم عبد الغفار بالقادم، وتقول: «أعتقد أنه سيكون معرضاً مهماً... ومن يعرف؟ فقد يتحول لمناسبة ثابتة مثل (بينالي)، فهناك كثير من الثراء هنا، كلا البلدين غني بالآثار والمكتشفات الأثرية والحفريات القائمة».



هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
TT

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

القبلات المتطايرة التي تدفّقت من هاني شاكر إلى أحبّته طوال حفل وداع الصيف في لبنان، كانت من القلب. يعلم أنه مُقدَّر ومُنتَظر، والآتون من أجله يفضّلونه جداً على أمزجة الغناء الأخرى. وهو من قلّة تُطالَب بأغنيات الألم، في حين يتجنَّب فنانون الإفراط في مغنى الأوجاع لضمان تفاعل الجمهور. كان لافتاً أن تُفجّر أغنية «لو بتحبّ حقيقي صحيح»، مثلاً، وهو يختمها بـ«وأنا بنهار»، مزاج صالة «الأطلال بلازا» الممتلئة بقلوب تخفق له. رقص الحاضرون على الجراح. بارعٌ هاني شاكر في إشعالها بعد ظنّ أنها انطفأت.

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

تغلَّب على عطل في هندسة الصوت، وقدَّم ما يُدهش. كان أقوى مما قد يَحدُث ويصيب بالتشتُّت. قبض على مزاج الناس باحتراف الكبار، وأنساهم خللاً طرأ رغم حُسن تنظيم شركة «عكنان» وجهود المتعهّد خضر عكنان لمستوى يليق. سيطر تماماً، بصوت لا يزال متّقداً رغم الزمن، وأرشيف من الذهب الخالص.

أُدخل قالب حلوى للاحتفاء بأغنيته الجديدة «يا ويل حالي» باللهجة اللبنانية في بيروت التي تُبادله الحبّ. قبل لقائه بالآتين من أجله، كرَّرت شاشة كبيرة بثَّها بفيديو كليبها المُصوَّر. أعادتها حتى حُفظت. وحين افتتح بها أمسيته، بدت مألوفة ولطيفة. ضجَّ صيف لبنان بحفلاته، وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات، فكان الغناء بلهجته وفاءً لجمهور وفيّ.

بقيادة المايسترو بسام بدّور، عزفت الفرقة ألحان العذاب. «معقول نتقابل تاني» و«نسيانك صعب أكيد»، وروائع لا يلفحها غبار. الأغنية تطول ليتحقّق جَرْف الذكريات. وكلما امتّدت دقائقها، نكشت في الماضي. يوم كان هاني شاكر فنان الآهات المستترة والمعلنة، وأنّات الداخل وكثافة طبقاته، وعبق الورد رغم الجفاف والتخلّي عن البتلات. حين غنّى «بعد ما دابت أحلامي... بعد ما شابت أيامي... ألقاقي هنا قدامي»، طرق الأبواب الموصودة؛ تلك التي يخالها المرء صدأت حين ضاعت مفاتيحها، وهشَّم الهواء البارد خشبها وحديدها. يطرقها بأغنيات لا يهمّ إن مرَّ عُمر ولم تُسمَع. يكفيها أنها لا تُنسى، بل تحضُر مثل العصف، فيهبّ مُحدِثاً فوضى داخلية، ومُخربطاً مشاعر كوَقْع الأطفال على ما تظنّه الأمهات قد ترتَّب واتّخذ شكله المناسب.

هاني شاكر مُنتَظر والآتون من أجله يفضّلونه جداً (الشرق الأوسط)

تتطاير القبلات من فنان يحترم ناسه، ويستعدّ جيداً من أجلهم. لا تغادره الابتسامة، فيشعر مَن يُشاهده بأنه قريب ودافئ. فنانُ الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى، وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى، وللندبة فتتوارى قليلاً. ولا بأس إن اتّسم الغناء بالأحزان، فهي وعي إنساني، وسموّ روحي، ومسار نحو تقدير البهجات. ابتسامة هاني شاكر المتألِّمة دواخلَه، إصرار وعناد.

تراءى الفنان المصري تجسيداً للذاكرة لو كان لها شكل. هكذا هي؛ تضحك وتبكي، تُستعاد فجأة على هيئة جَرْف، ثم تهمد مثل ورقة شجر لا تملك الفرار من مصيرها الأخير على عتبة الخريف الآتي. «بحبك يا هاني»، تكرَّرت صرخات نسائية، وردَّ بالحبّ. يُذكِّر جمهوره بغلبة السيدات المفتتنات بأغنياته، وبما تُحرِّك بهنّ، بجمهور كاظم الساهر. للاثنين سطوة نسائية تملك جرأة الصراخ من أجلهما، والبوح بالمشاعر أمام الحشد الحاضر.

نوَّع، فغنّى الوجه المشرق للعلاقات: «بحبك يا غالي»، و«حنعيش»، و«كدة برضو يا قمر». شيءٌ من التلصُّص إلى الوجوه، أكّد لصاحبة السطور الحبَّ الكبير للرجل. الجميع مأخوذ، يغنّي كأنه طير أُفلت من قفصه. ربما هو قفص الماضي حين ننظر إليه، فيتراءى رماداً. لكنّ الرماد وجعٌ أيضاً لأنه مصير الجمر. وهاني شاكر يغنّي لجمرنا وبقاياه، «يا ريتك معايا»، و«أصاحب مين»؛ ففي الأولى «نلفّ الدنيا دي يا عين ومعانا الهوى»، وفي الثانية «عيونك هم أصحابي وعمري وكل أحبابي»، لتبقى «مشتريكي ما تبعيش» بديع ما يُطرب.

ضجَّ صيف لبنان بحفلاته وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات (الشرق الأوسط)

استعار من فيروز «بحبك يا لبنان» وغنّاها. بعضٌ يُساير، لكنّ هاني شاكر صادق. ليس شاقاً كشفُ الصدق، فعكسُه فظٌّ وساطع. ردَّد موال «لبنان أرض المحبّة»، وأكمله بـ«كيف ما كنت بحبك». وكان لا مفرّ من الاستجابة لنداء تكرَّر. طالبوه مراراً بـ«علِّي الضحكاية»، لكنه اختارها للختام. توَّج بها باقة الأحزان، كإعلان هزيمة الزعل بالضحكاية العالية.