«لعبة الأرقام» في معرض هادي سي السحريّ على وَقْع رقصة تانغو

عالم إنساني مصنوع من الفولاذ المقاوم للصدأ

سلسلة مصنوعة من مائة صفر فولاذي (غاليري صالح بركات)
سلسلة مصنوعة من مائة صفر فولاذي (غاليري صالح بركات)
TT

«لعبة الأرقام» في معرض هادي سي السحريّ على وَقْع رقصة تانغو

سلسلة مصنوعة من مائة صفر فولاذي (غاليري صالح بركات)
سلسلة مصنوعة من مائة صفر فولاذي (غاليري صالح بركات)

بالأرقام وحدها، صنع هادي سي كل الأشكال التي يصبو إليها، وعبّر عن قلقه وإحساسه بالظلم وخساسة الممارسات البشرية، وأرّخ بالنحت لحوادث هزّت ضمائرنا. انتشرت في أرجاء معرضه بـ«غاليري صالح بركات» البيروتي عشرات الأعمال التي لا تستطيع أن تمرّ بها عابراً. كل منحوتة معدنية فكرةٌ تستحقّ التوقّف والتأمّل، بدءاً من الأشخاص الذين انتصبوا أمامك. لكنك بشيء من التدقيق، تعرف أنهم رٌكِّبوا من أرقام؛ واحد للأرجل، اثنان للصدر، وصفر للرأس. أما بروفايل الوجوه المجوّفة، فرُكِّب أيضاً بالمبدأ عينه.

لفظ الجلالة على طريقة هادي سي (الشرق الأوسط)

التنويعات التي تمكّن الفنان من إنجازها محتفظاً بفكرة الأرقام هذه، كميّاتها، ومدى نجاحها، مذهلة. لكن لماذا هذا الإصرار على تخصيص معرض كامل تستخدم فيه الأرقام وحدها، لصناعة أشجار، وسلاسل، ولوحات تكريمية، وسجون، ولفظ الجلالة، ونوتة موسيقية وأشخاص بملامح مختلفة، وأشياء أخرى كثيرة؟ هل هو تحدٍ فنّي؟ أو رغبة في قول إنّ الأرقام تصنع الأبجديات، ومن ثمّ المعنى، وليس العكس؟

لتوقيت انفجار مرفأ بيروت هيبته (الشرق الأوسط)

شخصيات ترقص التانغو

كان لهادي سي معرض سابق، في الغاليري عينه قبل سنوت بعنوان «صفر»، دار حول رأس المال، والبورصات، ولعبة الدولار، وقدرته على تحريك المجتمع والسياسة، ودوره في الفن، وتشكيل العالم. هذه المرّة، التركيز على الصفر والواحد معاً. كثيرة هي الأعمال في المعرض الجديد، التي تشكّلت من صفر للرأس، وواحد لتشكيل جسم الإنسان. غابات من أشخاص يسيرون معاً في بعض المنحوتات بفضل هذين الرقمين حين يتلاصقان؛ وبعضها يرقص التانغو. من الصفر والواحد صُنعت لغة «الكودات» التي أنتجت معجزات البرامج التكنولوجية، وعليهما يعتمد هادي سي، ليبني أعماله الفنية. سلسلة معدنية من مائة صفر، لها قوة حضور وازنة في المعرض، لندرك أنّ الصفر ليس لا شيء، بل هو الوحدة التي منها يمكن أن نشيّد عالماً متكاملاً.

100 صفر لصناعة سلسلة

يختلف حضور الصفر ووظيفته، حين يكون مفرّغاً كما اعتدنا كتابته، أو ممتلئاً تجويفه حيث يتحوّل إلى دائرة، يمكن أن تُركَّب منها كائنات، وأشكال، وتُنحت أعمال لها فعل السحر.

والفنان هادي سي، سنغالي - لبناني، اشتغل طويلاً على التقاط الصور الفوتوغرافية، ويعمل على الوسائط المتعدّدة، وهو مهجوس بفكرة المشتركات بين البشر، وأحد معارضه السابقة، كان عن الدم الواحد الذي يمكن أن ينتقل من إنسان إلى آخر، حين تتطابق الزمرة بصرف النظر عن لونه، وجنسه، والجغرافيا التي ينتمي إليها. جاب الفنان دولاً كثيرة، وصّور المتبرّعين، وعرض صورهم، بمختلف انتماءاتهم، ليقول إنّ الدم لا يفرق بين أحد منهم.

هادي سي ينحت نفسه (الشرق الأوسط)

مساحة لبنان وكتاب «النبي» مصدر إلهام

في المعرض الجديد، يوظّف هادي سي موهبته النحتية في قضايا إنسانية لبنانية، وفي العالم. ثمة شجرة نحتها مستخدماً الرقم 10452، وهي مساحة لبنان بالكيلومترات المربّعة، وكذلك هو شعار اعتمده الرئيس بشير الجميّل خلال الحرب، للقول إنه يدافع عن كل شبر من أرضه، ولا يتنازل عن أي منها. هذه فكرة مُنفَّذة مرّة بالأرقام العربية وأخرى بالأرقام الهندية التي نستخدمها حالياً. الشجرة أقرب إلى الأرزة، ما يجعل ناظرها يفهم المقصود منها، مع أنّ الفنان لا يميل إلى تسمية أعماله بوضوح يُسهّل مهمة الناظر. وللصحافة تحية عبر أيقونتها الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي قتلها الاحتلال الإسرائيلي. فهي حاضرة في المعرض من خلال لوحة معدنية صنعت خلفيتها من تكرار للرقمين 0 و1، وإنما اللوحة مثقوبة بالرصاص، فتشوّه نمطية تكرار الأرقام.

في مكان آخر، نرى شجرة أرز - ودائماً من الفولاذ المُقاوم للصدأ - من وحي أرقام لها علاقة بكتاب جبران خليل جبران الذي يحتفل هذه الأيام بمئوية صدوره، وكذلك منحوتة أخرى تحيل على انفجار برجَي 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

أرزة تحيّة لكتاب «النبي» لجبران الذي يحتفل بمئويته (الشرق الأوسط)

قد يكون المعرض كلّه من وحي هذا الحدث العالمي الذي قلب الكوكب. فقد كان هادي سي شاهداً عليه من غرفته في نيويورك حينذاك، حيث أدرك بأم العين كيف للأرقام أن تبدّل حياتنا في لمح البصر.

ولا يفوت الفنان انفجار آخر غيّر وجه بيروت بدقائق. إنه انفجار المرفأ، الذي تجسّد هنا بثلاثة أرقام 6 ثم 0، يليها 9 مركبةً فوق بعضها إشارةً إلى الساعة السادسة و9 دقائق، توقيت هذه المأساة. وها هو جورج فلويد ضحية أخرى، ولكن في أميركا هذه المرّة، بعدما ضغط على رقبته شرطي لـ9 دقائق و29 ثانية. وهناك عمل «عناقيد الغضب»، مُذكّراً بالمجزرة الإسرائيلية في الجنوب اللبناني بحقّ المدنيين. وكذلك القفص الحديدي المرتفع بعلو مترين، وبداخله قفص آخر، ومخلوقات صغيرة في داخلها، بعنوان «البهلوانيون»، وما هم سوى مساجين صُنعوا من أرقام.

لتوقيت انفجار مرفأ بيروت هيبته (الشرق الأوسط)

الأرقام تجمعنا

«الحب»، و«الأمل»، و«رقصة التانغو»، و«القناع»، و«الأم»، و«سفينة نوح»، وأشياء أخرى، منها، منحوتة للفنان نفسه، تتوسّط إحدى القاعات، كأنها تُشرف على الزيارات.

مَن يظن أن الأرقام غير قادرة على النطق، فسيجد العكس في هذا المعرض المستمرّ حتى 13 من أبريل (نيسان) المقبل، الذي يأخذنا في لعبة ممتعة تستخدم فيها مختلف أشكال الكتابة، لصياغة حكايات لجرائم، وعذابات، وانتهاكات ارتُكبت حول العالم. وإنْ كان لا يبدو في الظاهر أنّ ثمة ما يجمعها، فلها هنا قواسمها المشتركة، حيث يستخدم الفن خيطاً سحرياً يعيد تركيب الحقائق، كأنها لطالما كانت حكاية واحدة ولا شيء يفصلها سوى عجزنا عن الربط.


مقالات ذات صلة

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
TT

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)

انطلقت فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بعنوان «عقول مبدعة بلا حدود» في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، الذي يجمع نخبةً من الخبراء والموهوبين في مجالات العلوم والتقنية والابتكار، ويشارك فيه أكثر من 300 موهوب ومتحدثون محليون ودوليون من أكثر من 50 دولةً، وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. ونيابة عنه، افتتح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر الذي تنظمه مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» بالعاصمة السعودية، وشهد توقيع عدد من الاتفاقيات بين «موهبة» وعدد من الجهات.

أمير الرياض خلال افتتاحه فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر (واس)

ورفع أمين عام «موهبة» المكلف الدكتور خالد الشريف، كلمة رفع فيها الشكر لخادم الحرمين الشريفين على رعايته للمؤتمر، ودعمه المستمر لكل ما يُعزز ريادة السعودية في إطلاق المبادرات النوعية التي تمثل قيمة مضافة لمستقبل الإنسانية، مثمناً حضور وتشريف أمير منطقة الرياض لحفل الافتتاح.

وقال الدكتور الشريف: «إن قيادة السعودية تؤمن بأهمية الاستثمار برعاية الموهوبين والمبدعين باعتبارهم الركيزة الأساسية لازدهار الأوطان والطاقة الكامنة التي تصنع آفاقاً مستقبلية لخدمة البشرية»، مشيراً إلى أن العالم شاهد على الحراك الشامل لمنظومة تنمية القدرات البشرية في المملكة لبناء قدرات الإنسان والاستثمار في إمكاناته، في ظل «رؤية السعودية 2030»، بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية.

وأكد الدكتور الشريف أن هذا الحراك يواكب ما يزخر به وطننا من طاقات بشرية شابة موهوبة ومبدعة في شتى المجالات، يتجاوز إبداعها حدود بلادنا ليصل إلى العالمية، وهو ما مكن المملكة من أن تصبح حاضنة لألمع العقول العالمية الموهوبة والمبدعة، وحاضرة إنسانية واقتصادية واعدة بمستقبل زاهر ينعكس على العالم أجمع.

وأوضح أن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بنسخته الثالثة يشكّل منصةً ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم، لتستلهم معاً حلولاً مبتكرة تعزز جودة الحياة في مجتمعاتنا، وتبرز الفرص، وتعزز التعاون الإبداعي بين الشعوب.

انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي (واس)

ولفت النظر إلى أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي؛ حيث أمضت 25 عاماً في دعم الرؤى بعيدة المدى للموهبة والإبداع، وباتت مشاركاً رئيسياً في المنظومة الداعمة لاكتشاف ورعاية الطاقات الشابة الموهوبة والمبدعة، بمنهجية تُعد الأكثر شمولاً على مستوى العالم لرعاية الأداء العالي والإبداع.

عقب ذلك شاهد أمير منطقة الرياض والحضور عرضاً مرئياً بمناسبة اليوبيل الفضي لإنشائها، وإنجازاتها الوطنية خلال الـ25 عاماً الماضية، ثم دشن «استراتيجية موهبة 2030» وهويتها المؤسسية الجديدة، كما دشن منصة «موهبة ميتا مايندز» (M3)، وهي منصة عالمية مصممة لربط ودعم وتمكين الأفراد الموهوبين في البيئات الأكاديمية أو قطاعات الأعمال، إلى جانب تدشين الموقع الإلكتروني الجديد لـ«موهبة»، الذي تواصل المؤسسة من خلاله تقديم خدماتها لجميع مستفيديها من الموهوبين وأولياء الأمور.

ويهدف المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع إلى إظهار إمكانات الموهوبين، وتطوير نظام رعاية شامل ومتكامل للموهوبين، وتعزيز التكامل والشراكات الاستراتيجية، وتحسين وتعزيز فرص التبادل والتعاون الدولي، ويشتمل المؤتمر على 6 جلساتٍ حوارية، و8 ورش عمل، وكرياثون الإبداع بمساراته الـ4، ومتحدثين رئيسيين؛ حيث يسعى المشاركون فيها إلى إيجاد الحلول الإبداعية المبتكرة للتحديات المعاصرة، إلى جانب فعاليات مصاحبة، تشمل معرضاً وزياراتٍ ثقافيةً متنوعةً على هامش المؤتمر.