«أوركا»... سبّاحة إيرانية تحطّم القيود والأرقام

فيلم على المنصات العالمية يروي سيرة بطلة السباحة إلهام أصغري

الممثلة ترانه عليدوستي (يمين) في دور السبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (إنستغرام)
الممثلة ترانه عليدوستي (يمين) في دور السبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (إنستغرام)
TT

«أوركا»... سبّاحة إيرانية تحطّم القيود والأرقام

الممثلة ترانه عليدوستي (يمين) في دور السبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (إنستغرام)
الممثلة ترانه عليدوستي (يمين) في دور السبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (إنستغرام)

من بين الأفلام التي تقترحها منصّتا «أبل تي في» و«أمازون برايم» العالميّتان على متابعيهما، يبرز فيلم مختلف عن السائد بحكايته ولغته. إنه «أوركا»، العمل السينمائي الذي يروي القصة الحقيقية للسبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (1982)، وصراعها من أجل تحقيق حلمها وتحطيم أرقام قياسية في رياضة السباحة، رغم الأشواك الكثيرة المزروعة في دربها.

الفيلم الذي أُنتج عام 2021 بالتعاون بين «استوديوهات كاتارا» وشركة «أنديشه بارديس جام» بدعمٍ من مؤسسة الدوحة للأفلام، كتبته تالا معتضدي وأخرجته سحر مصيبي، أمّا البطولة فيه فلترانه عليدوستي. هو تعاضدٌ نسائيٌّ إيرانيّ ثلاثيّ الأبعاد، يتجاوز سرد قصة أصغري ليضيء على معاناة الرياضيّات الإيرانيات، في ظلّ ظروفٍ لا تسهّل عليهنّ تحقيق الأماني وتحطيم الأرقام.

توضح المخرجة مصيبي في أحاديث صحافية أن «الفيلم هو سرد واقعيّ للأحداث والمعاناة التي مرّت إلهام أصغري بها، من دون أن يوجّه انتقاداتٍ أو إهانات لأحد».

تدخل إلهام في غيبوبة بعد أن يضربها زوجها حتى الموت. تقبع في المستشفى شهرَين لتخرج منه مع ندوبٍ على وجهها وجسدها، وجراحٍ عميقة في روحها. هي التي تعلّمت السباحة في الخامسة من عمرها، وتفرّغت لتدريسها منذ سنّ الـ17، لا تجد سوى البحر أمامها. لكن، لا المدى الأزرق يشفيها، ولا حرّيّتها المكتسبة بعد الطلاق، ولا دخول طليقها السجن.

في الخلفيّة، هديرُ موجٍ وغناءُ حيتان... تنتظر إلهام هبوط الليل لتدخل المياه الواسعة، وتسبح تحت جنح الظلام لأن السباحة في المساحات المفتوحة ممنوعة على الإناث في بلدها. تعود إلى الذاكرة دماؤها التي سالت أرضاً عندما عنّفها زوجها، وتمتزج بالمياه الدامسة الممتدّة أمامها.

تطول مشاهد السباحة الليليّة في بحر قزوين، وتترافق مع صمتٍ ثقيل. لا تسبح إلهام لتنسى ولا لتهرب، بل لإغراق نفسها. على مدى ليالٍ متتالية، تغوص وتذهب بعيداً وعميقاً لعلّ المياه تسحبها إلى القعر، لتعود بعد ذلك إلى الشاطئ مع استنتاجٍ وحيد: لا يريدها البحر أن تغرق فيه، بل أن تسبح فيه.

بعد تعرّضها للتعنيف على يد زوجها تقرر أصغري تحطيم الأرقام القياسية في السباحة (استوديوهات كتارا)

وسط مجتمعٍ ذكوريّ وبعد تجربة زواجٍ دامية، وحدَه والد إلهام يقف سداً منيعاً في وجه الأمواج العاتية التي تضرب حياة ابنته. يقدّم الممثل الإيراني مسعود كرامتي أداءً مؤثّراً بشخصية «سعيد»، الأب السنَد الحنون، الذي يقدّر قيمة الرياضة هو الآتي من مسيرة حافلة في مجال الملاكمة.

الممثل مسعود كرامتي في دور والد إلهام أصغري (استوديوهات كتارا)

ينتشل إلهام من غرقها ويشجّعها على الرجوع إلى شغفها الأوّل؛ السباحة. ليست العودة هذه المرة من باب التعليم، إنما من بوّابة الحلم بتحطيم أرقامٍ قياسيّة. غير أنّ الأمواج تبدو عالية وصعبة الركوب؛ من القوانين الصارمة التي تمنع المرأة الإيرانية من السباحة في الهواء الطلق، إلى إشكاليّة الملابس الشرعيّة، وليس انتهاءً برئيسة اتّحاد الألعاب الرياضية النسائية، التي تحارب إلهام بكلّ ما أوتيت من شراسةٍ ولؤم.

تحارب رئيسة اتحاد الرياضات النسائية إلهام بكل ما أوتيت من شراسة (استوديوهات كتارا)

ما عاد من السهل إحباط عزيمة إلهام بعد كل ما مرّت فيه. غير آبهةٍ بالموانع، تسجّل رقمها القياسيّ الأول عام 2008 بعد اجتيازها 12 كيلومتراً في بحر قزوين خلال 4 ساعات و45 دقيقة. يحدث ذلك تحت عدسات الصحافة، وفوق إرادة السلطات الرسمية. يشرف الوالد على تمارينها ويواكبها عن قرب من داخل القارب المرافق لها في البحر.

تندر إلهام أصغري ما تبقّى لها من عُمر للأرقام القياسية. صحيحٌ أن الإنجازات تذهب أدراج الرياح، وسط امتناع السلطات الرسمية واتّحاد الرياضات النسائية عن الاعتراف بها، لكنّ السبّاحة تحترف الإصرار وهي تدرك أنّ الأزرقَ الواسع قدرُها.

ملصق الفيلم الإيراني "أوركا" (استديوهات كتارا)

تكرّر رئيسة الاتّحاد أنه «لا أرقام قياسيّة تُسجَّل لنساءٍ يسبحن في الهواء الطلق»، كما أنها تعترض على ملابس إلهام مع أنه لا شيء ينقصها من الحشمة. لكن في مقابل مَن يزرعون الدرب عتمة، ثمّة شخصياتٌ في الفيلم على هيئة شعاعٍ صغير. فيومَ تهرب إلهام من ضيق الأفق بحثاً عن روحها في بلدة بحريّة بعيدة عن طهران، تلتقي هناك بصاحبة فندق وابنها يفرشان الأرض أمامها حباً ودعماً.

تؤمن «ماهال» بقضية إلهام وتستثمر فيها كما لو كانت قضيّتها. تُطلق عليها لقب «أوركا»، وهو حوتٌ ضخم معروف بلونَيه الأسود والأبيض. ترافقها إلى التمارين اليوميّة، تنتظرها على الشاطئ كي لا تبقى وحيدة، توظّف معارفها من أجل الحصول لها على إذنٍ للسباحة نهاراً، كما أنها تخيط لها ثوباً للسباحة شبيهاً بجلد الأوركا، وليس من المفترض أن يواجَه باعتراض رئيسة الاتّحاد.

يتميّز أداء الممثلة مهتاب نصيربور (ماهال) من بين زملائها في الفيلم. تنضح ملامحها بالشغف والقوّة كلّما نظرت إلى إلهام وتذكّرت أنّ أحلامها هي أحلام كل امرأةٍ إيرانية.

الممثلة مهتاب نصيربور في دور «ماهال» التي آمنت بقضية أصغري ودعمتها (استديوهات كتارا)

بين عامَي 2013 و2014، تحطّم إلهام 4 أرقام قياسيّة في السباحة ببحر قزوين، من بينها اثنان وسط عواصف ودرجات حرارة متدنّية. رغم ذلك، فإنّ وزارة الرياضة تصرّ على رفض الاعتراف، إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تتعرّض فيه لعمليّة صدم بَحريّة خلال السباحة، تنفّذها مجموعة من الرجال على متن قارب. ويتميّز تصوير المشاهد البَحريّة بواقعيّته واحترافه، فتبدو مزيجاً من عناصر التوثيق والتشويق والدراما.

لم تنقطع أصغري عن التمرين والسباحة رغم كل المصاعب التي واجهتها (استوديوهات كتارا)

تنقضي 3 سنوات تعود بعدها إلهام أصغري مرةً جديدة أقوى من ندوبها، وعينها هذه المرة على العالميّة. أمام موفد موسوعة «غينيس» والجماهير المحتشدة لتشجيعها، تقطع 4 كيلومترات من خليج العرب خلال 3 ساعات وتحطّم الرقم القياسيّ.

في إشارةٍ رمزيّة إلى واقع الرياضيّات الإيرانيات، وضعت أصغري الأصفاد حول يدَيها من أجل عبور تلك المسافة.


مقالات ذات صلة

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق وصيفات العروس يبتهجن في حفل زفافها بالفيلم (القاهرة السينمائي)

«دخل الربيع يضحك»... 4 قصص ممتلئة بالحزن لبطلات مغمورات

أثار فيلم «دخل الربيع يضحك» الذي يُمثل مصر في المسابقة الدولية بمهرجان «القاهرة السينمائي» في دورته الـ45 ردوداً واسعة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من مهرجان «القاهرة السينمائي» (رويترز)

أفلام فلسطينية ولبنانية عن الأحداث وخارجها

حسناً فعل «مهرجان القاهرة» بإلقاء الضوء على الموضوع الفلسطيني في هذه الدورة وعلى خلفية ما يدور.

محمد رُضا (القاهرة)

«سلمى» يرصد معاناة السوريين... ويطالب بـ«الكرامة»

الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)
الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)
TT

«سلمى» يرصد معاناة السوريين... ويطالب بـ«الكرامة»

الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)
الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)

في كل مرة يُعلن فيها عن الإفراج عن دفعة من المعتقلين السوريين، تتزيّن بطلة فيلم «سلمى» وتهرع مع والد زوجها، علّها تعثر على زوجها «سجين الرأي» الذي اختفى قبل سنوات في ظروف غامضة، متمسكة بأمل عودته، رافضة إصدار شهادة وفاته، ومواصلة حياتها مع نجلها ونجل شقيقتها المتوفاة.

تدور أحداث الفيلم السوري «سلمى» في هذا الإطار، وقد جاء عرضه العالمي الأول ضمن مسابقة «آفاق عربية» في «مهرجان القاهرة السينمائي» في دورته الـ45، وتلعب الفنانة السورية سلاف فواخرجي دور البطولة فيه إلى جانب المخرج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد الذي يؤدي دور والد زوجها. وقد أُهدي الفيلم لروحه.

تتعرض «سلمى» للاستغلال من أحد أثرياء الحرب سيئ السمعة، لتبدأ بنشر معلومات دعائية لشقيقه في الانتخابات على خلفية ثقة السوريين بها للعبها دوراً بطوليّاً حين ضرب زلزال قوي سوريا عام 2023، ونجحت في إنقاذ عشرات المواطنين من تحت الأنقاض، وتناقلت بطولتها مقاطع فيديو صورها كثيرون. وتجد «سلمى» نفسها أمام خيارين إما أن تتابع المواجهة حتى النهاية، وإما أن تختار خلاصها مع عائلتها.

ويشارك في بطولة الفيلم كلٌ من باسم ياخور، وحسين عباس، والفيلم من إخراج جود سعيد الذي يُعدّه نقاد «أحد أهم المخرجين الواعدين في السينما السورية»، بعدما حازت أفلامه جوائز في مهرجانات عدة، على غرار «مطر حمص»، و«بانتظار الخريف».

سُلاف تحتفل بفيلمها في مهرجان القاهرة (القاهرة السينمائي)

قدّمت سُلاف فواخرجي أداءً لافتاً لشخصية «سلمى» التي تنتصر لكرامتها، وتتعرّض لضربٍ مُبرح ضمن مشاهد الفيلم، وتتجاوز ضعفها لتتصدّى لأثرياء الحرب الذين استفادوا على حساب المواطن السوري. وتكشف أحداث الفيلم كثيراً عن معاناة السوريين في حياتهم اليومية، واصطفافهم في طوابير طويلة للحصول على بعضِ السلع الغذائية، وسط دمار المباني جراء الحرب والزلزال.

خلال المؤتمر الصحافي الذي نُظّم عقب عرض الفيلم، تقول سُلاف فواخرجي، إنه من الصّعب أن ينفصل الفنان عن الإنسان، وإنّ أحلام «سلمى» البسيطة في البيت والأسرة والكرامة باتت أحلاماً كبيرة وصعبة. مؤكدة أن هذا الأمر ليس موجوداً في سوريا فقط، بل في كثيرٍ من المجتمعات، حيث باتت تُسرق أحلام الإنسان وذكرياته. لافتة إلى أنها واحدة من فريق كبير في الفيلم عمل بشغف لتقديم هذه القصة. وأضافت أنها «ممثلة شغوفة بالسينما وتحب المشاركة في أعمال قوية»، مشيرة إلى أن «شخصية (سلمى) تُشبهها في بعض الصّفات، وأن المرأة تظل كائناً عظيماً».

من جانبه، قال المخرج جود سعيد، إن هذا الفيلم كان صعباً في مرحلة المونتاج، خصوصاً في ظل غياب عبد اللطيف عبد الحميد الذي وصفه بـ«الحاضر الغائب».

مشيراً إلى أن قصة «سلمى» تُمثّل الكرامة، «وبعد العشرية السّوداء لم يبقَ للسوريين سوى الكرامة، ومن دونها لن نستطيع أن نقف مجدداً»، وأن الفيلم يطرح إعادة بناء الهوية السورية على أساسٍ مختلفٍ، أوّله كرامة الفرد. ولفت المخرج السوري إلى أن شهادته مجروحة في أداء بطلة الفيلم لأنه من المغرمين بأدائها.

الفنان السوري باسم ياخور أحد أبطال فيلم «سلمى» (القاهرة السينمائي)

ووصف الناقد الأردني، رسمي محاسنة، الفيلم بـ«الجريء» لطرحه ما يقع على المسالمين من ظلمٍ في أي مكان بالعالم؛ مؤكداً على أن كرامة الإنسان والوطن تستحق أن يُجازف المرء من أجلها بأمور كثيرة، وتابع: «لذا لاحظنا رفض (سلمى) بطلة الفيلم، أن تكون بوقاً لشخصية تمثّل نموذجاً للفساد والفاسدين رغم كل الضغوط».

وأوضح رسمي محاسنة في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن الفيلم قدّم شخصياته على خلفية الحرب، عبر نماذج إنسانية متباينة، من بينها تُجار الحرب الذين استغلوا ظروف المجتمع، ومن بقي مُحتفّظاً بإنسانيته ووطنيته، قائلاً إن «السيناريو كُتب بشكل دقيق، وعلى الرغم من دورانه حول شخصية مركزية فإن المونتاج حافظ على إيقاع الشخصيات الأخرى، وكذلك الإيقاع العام للفيلم الذي لم نشعر لدى متابعته بالملل أو بالرتابة».

سُلاف والمخرج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد في لقطة من الفيلم (القاهرة السينمائي)

وأشاد محاسنة بنهاية الفيلم مؤكداً أن «المشهد الختامي لم يجنح نحو الميلودراما، بل اختار نهاية قوية. كما جاء الفيلم دقيقاً في تصوير البيئة السورية»؛ مشيراً إلى أن «المخرج جود سعيد استطاع أن يُخرِج أفضل ما لدى أبطاله من أداء، فقدموا شخصيات الفيلم بأبعادها النفسية. كما وفُّق في إدارته للمجاميع».

واختتم محاسنة قائلاً: «تُدهشنا السينما السورية باستمرار، وتقدّم أجيالاً جديدة مثل جود سعيد الذي يتطوّر بشكل ممتاز، وفي رأيي هو مكسبٌ للسينما العربية».