عيون مفتوحة باتساع على أسى غامض وينبوع شجن لا ينتهي... نظرات زائغة لا تواجه أحداً أو تنتظر شيئاً من العالم، يبدو أصحابها وكأنهم يفرّون من قصة حزينة أو حطت على رؤوسهم طيور المأساة ورفضت أن تغادر المكان. هذا هو الانطباع الأولي الذي يخرج به من يطالع لوحات معرض «حياة» للفنانة التشكيلية الدكتورة راندة الحلو والذي يستمر بغاليري «الفنانين العرب - ضي» بحي المهندسين بالقاهرة حتى 28 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.
هكذا تشكل ثنائية الطفولة والأمومة محوراً أساسياً في أعمال الفنانة، لكنها ليست ثنائية تقليدية مغمورة بالفرح والألوان الساخنة تشع جواً من البهجة المعتادة، فالاتجاه الغالب على الرسومات هو مزج التجريد بالتعبيرية بحيث تصبح الشخصيات كما لو أنها كائنات شفافة تحلّق في الفضاء وكأنها فكرة أو حلم وليست بشراً من لحم ودم.
الانطباع الآخر يكاد يكون مناقضاً لنظيره الأول، ففي عدد محدود من لوحات المعرض يتراجع اللون الرمادي والظلال شبه السوداء ليحل محلها وهج الألوان التي تتراوح بين الأصفر والأزرق وما بينهما من درجات في حضور مبهج مع وجود أطفال تقفز منتشية وهي تشرئب بأعناقها وكأنها تسعى للإمساك بالشمس بين أصابعها الصغيرة. ويظل العنصر الوحيد المشترك بين الانطباعين هو حالة الحلم وكأن الشخصيات أطياف محلقة يصعب لمسها.
تقول رندة الحلو لـ«الشرق الأوسط»: إنها «استفادت للغاية من رسالتها للدكتوراه والتي حملت عنوان (الرمزية التصويرية لرؤى اللاشعور والأحلام في العقيدة المصرية القديمة)؛ وهو ما بدا واضحاً في مجيء الكثير من رسوماتها في منطقة وسطى بين التجريد والتعبيرية بحيث تصبح الشخصيات معبرة عن الواقع على مستوى المضمون، لكنها تبدو أقرب إلى عالم الأحلام على مستوى الشكل».
وأضافت: «تأثرت أيضاً بفترة عملي الطويلة في المتحف المصري، وتحديداً في مجال ترميم الآثار، حيث انبهرت بروائع الفن الفرعوني وفلسفته العميقة التي تتعامل مع الموت بوصفه نوعاً آخر من الحياة، ومن هنا جاء عنوان المعرض الذي يجسد معاناة الطفولة والأمومة في جانب كما يسجد التطلع إلى غد مشرق في جانب آخر».
وتظهر في خلفية بعض لوحات المعرض الكثير من «الموتيفات» الفرعونية، مثل تمثال أبو الهول وصولجان الملك، فضلاً عن بعض الحيوانات مثل الخيول. وبقدر ما تبدو معظم الأعمال محلّقة في الخيال، يكاد عدد محدود من اللوحات أن يكون مغرقاً في الواقعية مثل لوحة الطفلة التي تحتضن واحدة من الماعز ولوحة الأم التي تجلس على الأرض محتضنة صغارها. وافتتح المعرض الفنان والناقد التشكيلي الدكتور رضا عبد السلام، والذي وصف المعرض بأنه «يمثل رحلة بصرية مدهشة لفنانة قررت التفرغ للإبداع بعد تقاعدها من عملها الوظيفي كما تعبّر الكثير من اللوحات عن تطورها الفني في مراحل زمنية مختلفة، حيث تعود بعض الأعمال إلى عامي 1997 و2000».
ورأى الفنان التشكيلي علاء حجازي، أن «أعمال رندة الحلو تنهل من بحر الفن المصري القديم بمعنى أنها تتخلص من الكثير من التفاصيل والشروح الزائدة وتذهب مباشرة إلى جوهر الحالة الفنية المراد التعبير عنها فتأتي اللوحة واضحة قوية مثل شعاع الشمس». وأضاف في تعليق له على المعرض عبر صفحته بموقع «فيسبوك»، أن «الفنانة كثيرا ما تستخدم درجات لونية مستقاة من الأزرق الفرعوني، ولكن بعد معالجتها بتقنية حديثة تجعلها تناسب العصر أو قد تأتي الألوان شبيهة بلون الغبار المأخوذ من جو مصر وجو التصوير الزيتي الرصين للتعبير عن شموس ونجوم وكتل وبشر يسبحون في فضاء الحرية».