سيف نمر ميسور وسجادة البارون روثشيلد يتصدران «مزاد فنون العالم الإسلامي»

تقيمه «دار كريستيز» يوم 26 أكتوبر

مصحف من عصر بني نصر بالأندلس من القرن الـ13 (كريستيز)
مصحف من عصر بني نصر بالأندلس من القرن الـ13 (كريستيز)
TT

سيف نمر ميسور وسجادة البارون روثشيلد يتصدران «مزاد فنون العالم الإسلامي»

مصحف من عصر بني نصر بالأندلس من القرن الـ13 (كريستيز)
مصحف من عصر بني نصر بالأندلس من القرن الـ13 (كريستيز)

في شهر أكتوبر (تشرين الأول) يعود عالم الفنون بقوة حاملاً معه المعارض الجديدة والمزادات والأسابيع الفنية، وفي هذا المجال تتصدر العاصمة البريطانية، وتخرج أفضل ما لديها لعشاق الفنون. في أجواء فنية حافلة يتوّجها «أسبوع فريز للفنون» تتنافس دور المزادات اللندنية لتقدم مزاداتها المختصة بفنون العالم الإسلامي والفن المعاصر من الشرق الأوسط.

أبدأ رحلتي مع الفنون الموسمية، وأنطلق من «دار كريستيز»، حيث يتزين المدخل والسلالم، وحتى الأرضيات بمقتطفات من الأعمال الفنية التي تقدمها الدار في هذا الموسم، غير أن وجهتي ليست مزينة أو مطلية بالألوان، أتجه إلى إحدى الغرف الأرضية التي تمتلئ أرففها بالقطع الفنية، هناك ينفتح لنا صندوق السحر والجمال والتاريخ الذي يضم قطعاً من «مزاد الفن الإسلامي» القادم (26 أكتوبر).

لوحة من الورق المذهب من الهند القرن الـ17 (كريستيز)

تستقبلني المختصة في فنون العالم الإسلامي سارة بلمبلي لتعرض بعض ما تعده مع فريق الدار لـ«مزاد فنون العالم الإسلامي والهندي» لهذا الموسم. تختار بعض أهم القطع لتتحدث عنها، وعن أهميتها ومنها ندلف لعالم من القصص التاريخية المرتبطة بالملوك والسلاطين والحرفيين وغيرهم. نستعرض هنا بعضها:

سيف السلطان تيبو من القرن الـ18 (كريستيز)

سيوف نمر ميسور

السيوف والخناجر والعتاد من القطع المهمة والمرغوبة في أي مزاد للفن الإسلامي، الكثير منها للزينة وللاستخدام في المناسبات الرسمية، وبعضها قد يكون استُخدم في المعارك المختلفة. هنا كل قطعة لها قصة وتاريخ، بعضها يفتح لنا أبواباً من التاريخ لا نعرفها. تعرض بلمبلي لنا سيفاً بمقبض ذهبي مزخرف، تتميز قبضته بشكل النمر، المقبض كله يمثل جسد النمر بينما رأسه في المقدمة. ليس كبقية السيوف، فهو سيف من ترسانة السلطان تيبو، حاكم سلطنة ميسور، الذي تحدى البريطانيين في نهايات القرن الـ18، واشتهر باسم نمر ميسور واستخدم النمر رمزاً له يزين عرشه وأسلحته.

«هذا السيف يعدّ أهم قطعة في ترسانة السلطان تيبو (1796م)، رغم أن هناك ثلاثة سيوف مشابهة من حيث التنفيذ، إلا أن هذا السيف تحديداً استخدمه السلطان بنفسه». تعلق الخبيرة، وتضيف: «السيوف الثلاثة منها ما أهدي للملك جورج الثالث بعد هزيمة ومقتل تيبو، والثاني أهدي لإدوارد لورد كلايف، والثالث مُنح لكولونيل واليس، وظل السيف مع عائلته منذ ذلك الوقت معروضاً في قصر العائلة بمقاطعة كورنوال». تشرح بلمبلي بأن القصر الواقع في ضيعة «بورت إليوت» يضم عدداً ضخماً من الأعمال الفنية الرفيعة لأمثال رمبرانت وفان دايك، غير أن تكاليف الحفاظ عليها مرتفعة جداً؛ ولهذا قررت العائلة بيع قطعة من الممتلكات، لتوفير المال اللازم لعمليات الترميم.

السيف معروض للبيع بقيمة تقديرية (20 ألفاً - 30 ألف جنيه إسترليني)، هنا أتساءل إن كان السعر معقولاً، خاصة وأن قطعة مماثلة بيعت في مزاد بـ«دار بونامز» بما يقارب 14 مليون جنيه إسترليني؟ تجيبني بلمبلي بأن السعر المبدئي معقول، والمتوقع أن ترفع المزايدات السعر النهائي.

معلومة طريفة تشير إليها، وهي أن القطع المرتبطة بالسلطان تيبو تختلف أسعارها بحسب نسبها القريب من السلطان نفسه، «لدينا في المزاد سيفان آخران صُنعا لجيش السلطان تيبو، لا علاقة لهما بالسلطان نفسه»، وعن السيف الذي أمامنا تشير إلى أن «هناك لوحة تصور السلطان تيبو وهو يمتشق سيفاً مطابقاً». تلفتني نقشات الأزهار على صفحة السيف، وتشير بلمبلي إلى أن تيبو كان يستورد الحديد المستخدم في السيوف من أوروبا ثم يضيف عليها القبضة الممهورة بشعار النمر الخاص به.

تشير أيضاً إلى أن القطع المرتبطة بالسلطان تيبو لها جمهور خاص؛ فهو كان «محبوباً جداً، وله تابعون ربما لأنه كان حاكماً مسلماً في الهند يحارب البريطانيين، في كل الحالات كان شخصاً يجذب الاهتمام».

مبخرة برونزية من شمال شرقي إيران على شكل أسد (كريستيز)

مبخرة من خراسان

أمامي على الطاولة تتربع مبخرة ضخمة من شمال شرقي إيران على شكل أسد مستعد للانقضاض، يمكننا تخيل المبخرة البرونزية تنفث دخانها المعطر في أحد القصور القديمة لترسم لنا صورة من صفحات التاريخ في القرن الثاني عشر وقت صنعها. وتعدّ القطعة ثاني أكبر مثال معروف لمبخرة بهذا الشكل.

نعرف أن مواقد البخور المشكّلة على هيئة أسد قد تم إنتاجها بأحجام مختلفة، بدءاً من المثال الضخم، ولكن غير النمطي الموجود في متحف متروبوليتان للفنون الذي يحمل توقيع جعفر بن محمد بن علي والمؤرخ بـ577/ 1181-2 م، ويبلغ طوله (82.6 سم) ارتفاعاً إلى (17سم). في حين أن نموذج متحف متروبوليتان مصنوع من الصفائح المعدنية، ليتناسب مع الحجم المفترض، فإن الأغلبية، كما هي الحال هنا، مصبوبة. تعرض القطعة بسعر تقديري يتراوح ما بين (400 ألف و600 ألف جنيه استرليني).

طبق من خزف إزنيق من القرن الـ16 تركيا (كريستيز)

صحن من فخار إزنيق

لا يخلو مزاد للفن الإسلامي من قطع فخار إزنيق التركية، ونرى هنا مثالاً آخر لذلك النوع من الفخاريات الذي جذب المقتنين والمهتمين بالفنون الإسلامية على مر السنين. ما السبب في ذلك؟ تعود بنا الخبيرة للبداية، إلى مدينة إزنيق التركية التي ارتبط هذا النوع من الفخاريات باسمها «كان فخار إزنيق هو إجابة السلاطين العثمانيين في القرن الـ16 على انتشار الخزف الصيني، فأمروا ببناء المواقد في مدينة إزنيق، حيث تم إنتاج قطع من الفخار التي قلَّدت الطابع الصيني في البداية في الألوان الأساسية مثل الأبيض والأزرق، وحتى رسومات الأزهار المستخدمة، غير أن الحرفيين في إزنيق مع مضي الوقت بدأوا في الابتكار».

«هذا الطبق أمامنا هنا مثير للاهتمام،» تستكمل الخبيرة شرحها، «نعرف أن الحرفيين بدأوا في التجريب في الألوان بدءاً من 1570م، وهو ما نراه هنا، فاللون الأساسي هو أقرب للون الأحمر الشائع وقتها غير أن الحرفي الذي صنع هذا الطبق لم يكن في كامل السيطرة، ولم يحافظ على الدرجة الداكنة للون الأحمر؛ ولهذا يبدو اللون باهتاً بعض الشيء، شخصياً أراه جذاباً بهذا الشكل، ولكن النتيجة قد لا تكون ما تخيل ذلك الحرفي. من التجديدات أيضاً ما نراه في قعر الطبق الذي طٌلي باللون الأرجواني، وهو لون لم يكن شائعاً بعد؛ ولهذا نجد أن الحرفي قام بتجريبه في مكان غير ظاهر».

وللرد على سؤالك عن أهمية خزف إزنيق، فهو كان من القطع التي يسعى محبو الفنون لاقتنائها منذ البداية، نجد أمثلة تعود للقرن الـ16 لخزفيات إزنيق مصدرة لأوروبا. من العوامل الجاذبة أيضاً هو أنها زخرفية، وتروق للجميع في الشرق والغرب. يُعرض الطبق بسعر تقديري (80 ألفاً - 120 ألف جنيه استرليني).

غرفة دمشقية تعود لسوريا في العهد العثماني بتاريخ 1790 م (كريستيز)

غرفة دمشقية

من أجمل القطع التي يمكن رؤيتها في المتاحف ودور المزادات هي الغرف الدمشقية، وهي عبارة عن ألواح من الخشب المذهب والمطلي تشكّل الجدران إضافةً إلى أبواب مزخرفة. في المزاد نموذج لهذه القطع البديعة، الغرفة مكونة من ثلاثة ألواح خشبية تشكل الجدران وأربعة أبواب مزدوجة مزينة بالزهور وأوعية الفاكهة، اثنتان بنوافذ مفتوحة وإطارات علوية تحمل أبياتاً من الشعر العربي.

وتعود الغرفة إلى سوريا في العهد العثماني بتاريخ 1790م، يتراوح سعرها ما بين (40 ألفاً و60 ألف جنيه إسترليني)، وتعدّ الغرفة الدمشقية مجلساً شتوياً، حيث يستقبل الزوار، وشاع استخدامها في نهاية فترة الحكم العثماني بسوريا، ويبدو من حجمها الكبير والزخارف الرفيعة أنها كانت جزءاً من بيت عائلة ثرية. يوجد أمثلة للغرف الدمشقية في متاحف عالمية مثل اللوفر أبوظبي والمتروبوليتان بنيويورك وفيكتوريا آند ألبرت بلندن

كتاب «فتوح الحرمين» موقعة من مير هادي بن مير إبراهيم، أبو قبيس، مكة (كريستيز)

.«فتوح الحرمين»

يضم المزاد أيضاً نسخة مهمة من كتاب «فتوح الحرمين»، موقّعة من مير هادي بن مير إبراهيم، أبو قبيس، مكة، المملكة العربية السعودية، بتاريخ 1003هـ/1594-95م (القيمة التقديرية: 20 ألفاً - 30 ألف جنيه إسترليني) الكتاب المستخدم كدليل سفر للحجاج يتضمن أدعية لمراحل مختلفة من الرحلة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. كما يضم الرسومات المختلفة، وتكتسب هذه النسخة أهمية خاصة لأنها كُتبت على جبل أبو قبيس، وتتضمن 18 لوحة تعود أيضاً إلى نفس وقت نص المخطوطة.

سجادة تعود للقرن السادس عشر من شمال بلاد فارس (كريستيز)

سجادة البارون إدموند دي روثشيلد

يتضمن المزاد المرتقب أكثر من ثمانين سجادة نادرة، مع أمثلة من مدن الواحات في تركستان الشرقية، وورش الحرير للنساجين الرئيسيين في إسطنبول، إلى أنوال القرى في القوقاز ووسط الأناضول.

وتبرز هنا سجادة تعود للقرن السادس عشر من شمال بلاد فارس، يشير كتالوج المزاد إلى أنها ربما قد تمت حياكتها بين عامي 1565م و1575م على يد فنانين ماهرين باستخدام أجود المواد، وهي لا تزال في حالة استثنائية مع ثراء الألوان، وقد تم إنتاجها خلال «العصر الذهبي» لنسج السجاد. واليوم، توجد معظم الأمثلة على هذه الجودة في المتاحف، ولم يتبقَ سوى عدد قليل منها في أيدي القطاع الخاص. زينت هذه السجادة مجموعات بعض أعظم الرعاة وجامعي التحف بما في ذلك البارون إدموند دي روثشيلد وآن وجوردون جيتي. تعرض السجاد بسعر تقديري (مليونين - ثلاثة ملايين جنيه استرليني).


مقالات ذات صلة

للبيع... تذكرة لدخول مسرح بريستول تعود إلى عام 1766

يوميات الشرق نادرة جداً (مواقع التواصل)

للبيع... تذكرة لدخول مسرح بريستول تعود إلى عام 1766

من المتوقَّع أن تُحقّق ما وُصفَت بأنها «قطعة حقيقية من تاريخ بريستول» آلاف الجنيهات منذ عرضها للبيع في مزاد ببريطانيا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز) play-circle 01:27

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الموزة الصفراء المثبتة على الحائط الأبيض بشريط لاصق فضي هي عمل بعنوان «كوميدي» للفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان (أ.ب)

كيف بلغت قيمة موزة مثبتة على الحائط مليون دولار؟

يمكنك شراء موزة بأقل من دولار واحد في أي سوبر ماركت، ولكن ماذا عن الموزة المثبتة بشريط لاصق على الحائط في معرض فني؟ قد تباع هذه الموزة بأكثر من مليون دولار!

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق صورة لتشرشل بالأبيض والأسود التُقطت عام 1941 (دار سوذبيز)

محامٍ إيطالي يشتري صورة تشرشل الشهيرة مقابل 4200 جنيه إسترليني

اشترى محامٍ صورة للسير وينستون تشرشل مقابل 4200 جنيه إسترليني معتقداً أنها نسخة رخيصة، ليجد نفسه أمام فضيحة بعد أن اكتشف أن الصورة كانت النسخة الأصلية المسروقة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق ساعة الجيب المصنوعة من الذهب عيار 18 قيراطاً قُدّمت إلى الكابتن روسترون من قبل 3 أرامل لرجال أعمال بارزين وأثرياء فقدوا حياتهم عندما غرقت السفينة تيتانيك (ب.أ)

بيع ساعة ذهبية تم تقديمها لقبطان قارب أنقذ ركاباً من «تيتانيك» مقابل مليوني دولار

بِيعت ساعة «جيب» ذهبية تم تقديمها لقبطان قارب، أنقذ أكثر من 700 راكب من سفينة تيتانيك، مقابل مبلغ قياسي يقدر بـ1.56 مليون جنيه إسترليني (مليونا دولار).

«الشرق الأوسط» (لندن)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.