من قطع شجرة «روبن هود» في شمال إنجلترا؟ حزن وغضب شعبي لفقدان معلم طبيعي

توقيف رجل ستينيّ والتحقيقات مستمرة

منظر عام لشجرة «سيكامور غاب» المقطوعة في متنزه نورثمبرلاند الوطني (رويترز)
منظر عام لشجرة «سيكامور غاب» المقطوعة في متنزه نورثمبرلاند الوطني (رويترز)
TT

من قطع شجرة «روبن هود» في شمال إنجلترا؟ حزن وغضب شعبي لفقدان معلم طبيعي

منظر عام لشجرة «سيكامور غاب» المقطوعة في متنزه نورثمبرلاند الوطني (رويترز)
منظر عام لشجرة «سيكامور غاب» المقطوعة في متنزه نورثمبرلاند الوطني (رويترز)

موجة من الحزن والغضب تلف وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام في بريطانيا منذ يومين، فيض من رسائل تحمل الحب وأخرى تحمل التنديد والغضب، بينما شغل مغردون أنفسهم بمحاولة حل اللغز الذي تسبب في هذه الموجة من المشاعر الفياضة. لم يكن الأمر متعلقاً بمشاهير أو جرائم بل بشجرة محبوبة مثلت في الذاكرة الشعبية رمزاً للجمال الطبيعي المتفرد، وتحولت إلى معلم سياحي لزوار شمال شرق إنجلترا. الشجرة الشهيرة، وقد يقول البعض إنها أشهر شجرة في بريطانيا، كانت تنتصب منفردة بين تلتين وسط منظر طبيعي خلاب في شمال شرق إنجلترا. وبسبب موقعها أطلق عليها اسم «سيكامور غاب» أي شجرة السيكامور (الجميز) الواقعة في الفجوة بين التلتين بالقرب من السور الحجري الأثري «سور هادريان» الذي يعود للعصر الروماني، وأدرجته اليونسكو على قائمتها للتراث، وسنة 2016، حصلت «سيكامور غاب» على لقب «شجرة العام».

شجرة «سيكامور غاب» كانت معلماً طبيعياً محبوباً في بريطانيا (أ.ف.ب)

جريمة في ليلة عاصفة

 

بعد ليلة عاصفة وجد سكان المنطقة الشجرة المعمرة (يقترب عمرها من 300 عام) مقطوعة من جذعها وملقاة على ما تبقى من سور هادريان. وسرعان ما بدأ البوليس تحرياته للبحث عن المجرم الذي قام بقطع جزء من التراث الإنجليزي الطبيعي، وأعلن القبص على صبي في السادسة عشرة بتهمة التخريب، غير أن ذلك لم يكن مقنعاً للكثيرين، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي اختلفت في محتواها، واتفقت على أن صبياً يافعاً لا يملك القوة الجسدية لتنفيذ هذا العمل بمفرده، مشيرين إلى أن الأمر قد يكون أكثر من تصرف طائش لمراهق، بل قد يكون خلفه عدد من الأشخاص لديهم دافع ما لقطع إحدى أكثر الأشجار شهرةً في بريطانيا. وأول من أمس أعلنت شرطة نورثمبريا التي تتولى الأمر أنها لا تزال تحقق في هذا العمل التخريبي، وأنها قد أوقفت رجلاً ستينياً.

البوليس يجري تحرياته في مكان الشجرة المقطوعة (رويترز)

وللتأكيد على جدية الشرطة في الأمر، ولتهدئة غضب الشعب، قالت المحققة فيني مينديز من شرطة نورثمبريا إن «التدمير المتعمد لمعلم عالمي وكنز محلي، قد نتج عنه فيضان من الغضب والرعب والصدمة في شمال شرق البلاد وأبعد من ذلك. أتمنى أن يثبت القبض على الشخص الثاني جديتنا في التعامل مع الأمر، وأننا ملتزمون بالعثور على المسؤولين عن ذلك وتقديمهم للعدالة»، وأشارت مينديز إلى أن التحقيقات ستستمر حتى بعد القبض على المتهم الثاني موجهة رسالة للمواطنين بالتواصل مع الشرطة إذا كان لديهم أي معلومات بخصوص القضية.

 

شجرة روبن هود

وحسب منظمة «ناشونال تراست» المخولة إدارة الأماكن الطبيعية التاريخية، فقد تم زرع الشجرة بين 1860 و1890، وتعرف باسم «شجرة روبن هود» بسبب ظهورها في فيلم «روبن هود أمير اللصوص» 1991. وأصبحت «سيكامور غاب» من بين أكثر الأشجار التي تُلتقط صور لها، وبعد الحادث تدفقت الصور على مواقع التواصل، وعلى صفحات الصحف البريطانية، وعلى أرض الواقع قام الكثيرون بزيارة مكان الشجرة المقطوعة وترك البعض الزهور أمامها للتعبير عن شعورهم.

لقطة من فيلم «روبن هود» وتبدو فيه شجرة «سيكامور غاب» (وارنر بروذرز)

ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية لقطات من المشاعر الجياشة لبعض من كانت الشجرة معلماً مهماً في حياتهم، فقال مدير هيئة متنزه نورثمبرلاند الوطني توني غيتس: «أشعر بإحساس فعلي بالخسارة». وأضاف: «لقد ذرف الناس الدموع، وتلقينا عبر شبكات التواصل الاجتماعي وموقعنا الإلكتروني رسائل من أشخاص تأثروا بقطع الشجرة». وعبر موقع «إكس» (تويتر سابقاً)، أبدت منظمة «ناشونال تراست» المعنية بحماية التراث شعورها بـ«الصدمة والحزن»، وعبّر عدد كبير من الأشخاص بينهم أعضاء في مجموعات تمارس المشي لمسافات طويلة، عن خشيتهم وذكرياتهم السعيدة قرب الشجرة، أكان في الموقع أو عبر وسائل التواصل. وقال راين نوتمان، وهو عامل تقني يبلغ 40 عاماً، لوكالة الصحافة الفرنسية: «إنه لأمر مخزٍ أن يُقدم شخص على تخريب هذا المنظر الطبيعي الجميل». بدورها، قالت سيدة على «فيسبوك»: «كنت في مطلع العام أمارس الحياكة على قمة التله بينما كان زوجي وابني يتسلقان الجدار بجوار الشجرة». وروى رجل أنّه عرض الزواج على شريكة حياته أمام سفح «سيكامور غاب». ولفت توني غيتس إلى أنّ البعض وضع رفات تابعة لأحبائهم المتوفين في محيط الشجرة.

رجل وامرأة يلقيان نظرة على الشجرة المقطوعة (رويترز)

وعلى المستوى المحلي، قام صاحب حانة شهيرة بالقرب من موقع الشجرة بتخصيص مبلغ مالي مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن الحادث، وبادر رجال أعمال آخرون بالتبرع بمبالغ أخرى للمساعدة في عملية البحث عن المجرمين. وإلى جانب الخسارة الشخصية التي يشعر بها السكان وزوار المنطقة يبدي أصحاب المحال والحانات في المنطقة القلق من أن يؤثر قطع الشجرة على تجارتهم. في بريطانيا اليوم حيث أصبحت قضايا المناخ والحفاظ على الطبيعة أسلحة في يد السياسيين، حيث بدأ حزب المحافظين الحاكم في التخلي عن التزاماته بحماية الطبيعة، يمثل قطع الشجرة رمزاً لمعارك بين دعاة الحفاظ على الطبيعة وبين من يريدون الاستفادة المادية من الأراضي الشاسعة. ولكن قد يكون هناك فصل آخر في قصة شجرة روبن هود، إذ يبحث الخبراء في «ناشونال تراست» الآن الخيارات المختلفة؛ إما لنقل شجرة مماثلة من مكان آخر لتشغل مكان الشجرة المقطوعة أو تركها تنمو مرة أخرى.



«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.