اختار ويليام شكسبير نهاية سعيدة لمسرحيته الشهيرة «تاجر البندقية» تتمثل في هزيمة الجشع وانتصار التسامح. يحدث هذا حين يفشل المرابي الشرير «شيلوك» في اقتطاع رطل من لحم الشاب الطيب أنطونيو، ومن ثمّ ترتد المؤامرة إلى صدر صاحبها فيفقد العجوز الداهية ثروته بالكامل عقاباً له على إمعانه في أذى الآخرين، لكن ماذا لو كانت الحياة ليست عادلة دائماً والأمور لا تجري بهذه البساطة؟ ماذا لو كان بإمكان الأذى أن يطيل بقاءه والجشع أن ينتصر ولو مؤقتاً؟
هذه التساؤلات تمثل جوهر الرؤية الفنية التي تتبناها المسرحية المصرية «الرجل الذي أكله الورق» التي تعرض حالياً على مسرح الهناجر، ضمن فعاليات الدورة الـ30 من مهرجان «القاهرة الدّولي للمسرح التجريبي» التي تستمر حتى 8 سبتمبر (أيلول) الحالي.
البطل المعاصر هنا هو موظف يعمل في شركة رأسمالية كبرى تستغل سوء أوضاع الشباب الاقتصادية فتعطيه مرتباً هزيلاً وهي تعلم أنه سيقبل لأنه لا يملك بديلاً أفضل. لا يستطيع الشاب مجاراة مطالب زوجته الكثيرة التي تبحث عن الرفاهية والنتيجة أنه يضطر للاستدانة من دون أي قدرة على السداد.
يُفصل الشاب، جسد دوره علي الكيلاني، من العمل فيغرق في مزيد من القروض ويوافق مضطراً على توقيع عقد قانوني يبيح لـ«شيلوك» اقتطاع رطل من لحمه حال عجزه عن السداد وهو ما يحصل بالفعل.
يلجأ الجميع إلى المحكمة التي تطبّق القانون لكن المحامي ينقذ المتهم حين يفحم صاحب الدعوى ويقول إن العقد ينص على رطل واحد من اللحم ولم ينص على نزف أي قطرة إضافية من الدم وبالتالي لا يمكن تنفيذه. هذه الثغرة القانونية التي تنطوي على مزيج من الذكاء والبداهة أنقذت المتهم في النص الأصلي الشكسبيري، لكنها لا تجدي نفعاً في النص المعاصر حيث تجمد دم الشاب من كثرة الصدمات التي تعرّض لها، وبالتالي يمكن تنفيذ العقوبة حرفياً من دون التخوف من إسالة قطرة واحدة إضافية تبطله.
ويصف نقاد المعالجة الحديثة لتاجر البندقية التي قام بها مخرج العرض المصري محمد الحضري بأنها «صادمة»، وتبدو أقرب إلى «الرؤية السوداوية المتشائمة»، لكن الحضري يقول لـ«الشرق الأوسط» إننا بصدد «إرسال رسالة لتنوير عقل المتلقي وحضه على التمرد على المعطيات القاسية للعصر الحديث برأسماليته المتوحشة ولسنا بإزاء دعوة للإحباط أو الاستسلام».
ويضيف: «الأمر ليس تشاؤماً أو سوداوية بقدر ما هو رصد أمين وصريح لواقع قاس، حين تأكل الديون البطل وترهقه ساعات العمل الطويلة ضمن سياق رأسمالي متوحش، أما الرؤية السوداوية فيصح الكلام عنها إذا كان الواقع جميلاً أو رحيماً ونحن من جئنا ونظرنا إليه من منظور تشاؤمي». وتابع: «قرأت كثيراً عمّا يفعله النظام الرأسمالي العالمي في البشر وكيف ينتحر كثيرون بسبب ضغوط العمل وإرهاق ساعاته الطويلة، وبالتالي العرض واقعي للغاية».
وتلعب الإضاءة التي صممها محمود الحسيني دوراً رئيسياً في تجسيد حالة ضياع الإنسان المعاصر ووحدته وانسحاقه أمام النظام الرأسمالي، الذي يطارده بضغوط العمل التي تكاد تصل أحياناً إلى حد الاستعباد، كما جاء قفص الاتهام الذي صممه محمد طلعت وكأنه سجن لإنسان العصر الحديث.
وتتكامل عناصر الديكور محمد السباعي، والماكياج ميار محمد، والأقنعة بسنت مصطفى، لتبرز حالة العبث واللامعقول التي يعيشها الإنسان المعاصر، فقاعة المحكمة تبدو أشبه بالسيرك وملابس أعضائها لا توحي بالوقار المفترض، ما يشير إلى فكرة غياب العدالة. وظهرت محامية شيلوك، جسدت شخصيتها ماهيتاب أحمد، بشارب خفيف وملامح شيطانية في تجسيد واضح الدلالة على مدى توغل الشر بحياتنا المعاصرة إن لم نسعَ لمقاومته والتصدي له.
اللافت أن المسرحية تدور أحداثها باللغة العربية الفصحى، وهو ما يشكل تحدياً كون الممثلين من طلبة الجامعة الذين لا تتوفر لديهم خبرات تمثيلية في التعامل مع هكذا تحدّ، فهل شعر مخرج العمل بالتخوف من تلك النقطة؟ طرحنا عليه السؤال فأجاب قائلاً: «بالطبع كنت في غاية التخوّف نظراً لحداثة سن الممثلين وعمرهم الفني المحدود، لكنهم تحمسوا للغاية وقبلوا التحدي وتعاونوا مع مصحح اللغة الذي أتينا به، وكانت النتيجة إجمالاً جيدة رغم وجود بعض الأخطاء».