«الأوركسترا السعودية» تجربة فنية نقلت الموسيقى الوطنية لآفاق عالمية

أطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة (واس)
أطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة (واس)
TT

«الأوركسترا السعودية» تجربة فنية نقلت الموسيقى الوطنية لآفاق عالمية

أطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة (واس)
أطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة (واس)

عندما انتظم عقد موسيقيين عالميين على هامش اجتماع وزراء ثقافة دول مجموعة العشرين في الهند، لأداء (كنز الألحان «Sur Vasudha») احتفاءً بالإرث الثقافي الموسيقي لهذه الدول، ظهر قائد الأوركسترا السعودية بزيّه الوطني ولغته العربية، مشاركاً في أداء الأغنية التي وصفت العالم كعائلة واحدة، ومزجت في لوحة فنية سخية بالمشتركات الإنسانية، ألحاناً وآلاتٍ موسيقية لشعوب 20 دولة حول الأرض. من الهند، إلى فرنسا، والمكسيك، والأردن، وكثير الدول التي احتضنت عروضاً للأوركسترا السعودية، وعزفت على خشبات مسارحها الوطنية روائع من الموروث الموسيقي السعودي، تسافر الفرقة الوطنية التي تشكلت حديثاً بالأنغام والألحان السعودية إلى مختلف الآذان، في لغة موسيقية عالمية تصل الشعوب ببعضها وتذكر الإنسان بمشتركه الحضاري الواحد.

وتقدم الأوركسترا والكورال الوطني السعودي في كل ظهور دولي، مجموعة من الأغاني الفلكلورية الوطنية التراثية والطربية والحديثة، بمشاركة نحو 70 عازفاً وكورالاً سعودياً، في عرض يعكس الثقافة الموسيقية السعودية، وما تتميز به المكتبة الموسيقية من أغانٍ مميزة سجلت حضورها التاريخي، ولا تزال عالقة في أذهان المستمعين.

وفي إطار عروضها الدولية الفريدة، قدّمت الأوركسترا السعودية عروضاً غير مسبوقة مزجت فيها بين الموروث الموسيقي السعودي المتنوع والغنيّ بتجاربه، وبين ألحان من الدول المضيفة، حيث يتداول متابعون عبر مواقع التواصل نماذج من أعمال فريدة لمشاركة فرقة الأوركسترا السعودية والكورال الوطني مع الفرق الأخرى، مثل المعزوفة المتناغمة التي قدمت مع أوركسترا كارلوس تشافيز المكسيكية، وعلى أثرها ضجّ المسرح الوطني في المكسيك بتصفيق الجمهور؛ تثميناً لبراعة الأداء وعبقرية الربط بين التجربتين الموسيقيتين، وكانت التجربة بمثابة سفير فني رصين للأغنية والإرث الموسيقي في السعودية.

طارق عبد الحكيم مع ولي العهد آنذاك الأمير سلطان بن عبد العزيز في افتتاح المتحف الموسيقي بالرياض (الشرق الأوسط)

تجربة عمرها 8 عقود

لم تكن الأوركسترا السعودية وفرقة الكورال الوطني، نبتاً طارئاً من دون تاريخ، بل تعود إلى تجربة سعودية مبكرة في عام 1942 عندما كلّف وزير الدفاع السعودي آنذاك الأمير منصور بن عبد العزيز، الفنان السعودي المعروف طارق عبد الحكيم وأوائل الملحنين السعوديين بتشكيل فرقة موسيقية عسكرية في السعودية، كانت هي نواة لرحلة فنية تنامت مع الوقت وخلقت هوية موسيقية سعودية فريدة.

وقد أُوفد عبد الحكيم إلى مصر عام 1952 للبدء في الترتيبات اللازمة لتشكيل فرقة أوركسترا موسيقية سعودية، والتقى خلال رحلته العلمية والتدريبية نخبة من فناني مصر، وطوّر من خبراته ومعارفه بالاحتكاك مع القامات الموسيقية المصرية والعربية؛ الأمر الذي كان له الأثر البالغ في صوغ ذائقته وبناء مشواره الفنّي العريض. وبعودته من رحلة شملت إلى جانب مصر، لبنان، بدأ عبد الحكيم في تأسيس أول معهد لموسيقى الجيش، وتشكيل فرقة موسيقية كانت فاتحة عهد موسيقي وفني مزدهر في السعودية.

ازدهرت الموسيقى في السعودية منذ إطلاق العنان لتجارب جديدة وتطوير القطاع الموسيقي والاهتمام بالمواهب الواعدة (واس)

مرحلة جديدة بداية واعدة

وفي عام 2019، أعلنت وزارة الثقافة السعودية وفي غمرة مرحلة واعدة للقطاع الثقافي، عن تأسيس الفرقة الوطنية للموسيقى، وتطوير فريق محترف يمثّل السعودية في المحافل الدولية، ويسافر بالألحان والإرث الموسيقي السعودي عبر العالم، متوّجاً بتجربة غنيّة نحتت هويتها الموسيقية وصاغت فرادتها في بناء الألحان ومخاطبة الآذان، وانتٌدب للعمل مشرفاً عليها الفنان عبد الرب إدريس، وهو فنان مخضرم رافق التجربة الموسيقية السعودية في بواكيرها، ليكلف ببناء الفريق الوطني وتعليم أشكال مختلفة من الموسيقى العربية والعالمية، التقليدية منها والمعاصرة، ودمجها مع الموسيقى السعودية، وتيسير دعم وتطوير صناعة الموسيقى في السعودية، مع تأصيل الموروث السعودي الموسيقى وبثّه إلى العالم.

وبعد الكشف عن منظومة ثقافية جديدة في السعودية، بقيادة وزارة الثقافة التي وزعت أعباء القطاع الثقافي عبر 11 هيئة متخصصة في مجالات مختلفة، أطلقت هيئة الموسيقى في السعودية في عام 2021، استراتيجيتها لتطوير ودعم الموسيقى في المملكة وفقاً لـ«رؤية 2030» التي وضعت الثقافة ضمن أولوياتها، ورصدت مجموعة من المبادرات والخطط والبرامج التي عززت القطاع الثقافي، لتطوير الاختصاصات الموسيقية، من ملحنين ومؤلفين موسيقيين وعازفين وفنانين ومستثمرين، والارتقاء بمجال الموسيقى وتحويله صناعة موسيقية مؤثرة. ومن ضمن استراتيجيتها، بدأت الهيئة دعم توفير المنافذ التي تسمح بالوصول إلى المنتج الموسيقي السعودي بسهولة، وتعزيز حضور فرقة الأوركسترا السعودي والكورال الوطني التي استأنفت مرحلتها الجديدة، كتطور عن الفرقة السعودية التي انطلقت عام 2019.

أطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة (واس)

قوة رمزية وهوية ثقافية

وقال المايسترو عماد زارع: إن الأوركسترا والكورال الوطني، يمثّلان الموروث الموسيقي السعودي في المحافل الدولية والمنصات الفنية والموسيقية العالمية، ويعدّ دعامة رئيسية للفنانين السعوديين والعازفين والموسيقيين في مختلف الاختصاصات، مشيراً إلى أن الفرقة الوطنية وإلى جانب تمثيلها الاحترافي فنون الوطن في الخارج، فإنها تدعم الحركة الفنية من خلال اكتشاف المواهب وتبني تأهيلها بشكل احترافي من خلال برنامج معدّ خصيصاً لتطوير تلك المواهب، ودعم المجالات الفنية المتعددة، ونشر التراث السعودية في المحافل الدولية وتعزيز توجهات «رؤية السعودية 2030» التي تعدّ الثقافة بمختلف قطاعاتها قوة رمزية وهوية ثقافية وإضافة اقتصادية.

وأشاد زارع الذي قاد الأوركسترا والكورال الوطني في الكثير من المناسبات الدولية التي شاركت فيها، بجهود وزارة الثقافة منذ إطلاق استراتيجيتها في بث الحماس والتنظيم الذي ساهم في نتائج مبكرة للأوركسترا السعودية في المحافل الدولية التي شاركت من خلالها، وأضاف: «جهود وزير الثقافة الأمير بدر بن فرحان، واهتمامه الكبير بدعم تأسيس هذه الفرقة وتطوير عملها، نلمسه بوضوح في مستوى الاحتراف الذي يتمتع به أعضاء الفرقة في أداء مختلف الفنون والألوان المحلية والعربية»؛ الأمر الذي يصبّ بمجمله في مصلحة الفنان والفن السعودي عموماً، ويساهم في إيصال القيمة الفنية والتجربة الموسيقية السعودية إلى العالم، عبر لغة الموسيقى العالمية.

موسيقى السعودية وفنونها تزدهر

وازدهرت الموسيقى في السعودية، منذ إطلاق العنان لتجارب جديدة وكيانات معنيّة بتطوير القطاع الموسيقي والاهتمام بالمواهب الواعدة في المجال، حيث لم تخلُ كل فترة من إطلاق مبادرة جديدة أو افتتاح معهد موسيقي لاستقبال الراغبين في تطوير إمكاناتهم والانخراط في المرحلة الحالية المزدهرة فنياً.

وأطلقت هيئة الموسيقى منذ فبراير (شباط) 2020 أعمالها لتطوير البنية التحتية للثقافة الموسيقية في المملكة التي ستساهم في تمكين الجميع من الحصول على فرصة تعلم الموسيقى، إلى جانب عملها في اكتشاف وتنمية وتمكين المواهب الموسيقية، والسعي إلى نشر الوعي بثقافة الموسيقى في المجتمع، وتأسيس قطاع يساهم في الاقتصاد المحلي؛ وذلك من خلال خلق فرص عمل لكلا الجنسين، وإنتاج وحوكمة العروض الحية الثقافية، والتسجيلات الموسيقية ومراكز تعليم الموسيقى للهواة، وإحياء وتوثيق عروض الفلكلور والموسيقى السعودية لتنمية الحس الوطني والاجتماعي، وتطوير الهوية الثقافية الموسيقية للسعودية ونشرها إقليمياً وعالمياً والتأكيد على مكانتها القيادية في العالم العربي والإسلامي لإدراج الوعي الثقافي الموسيقي ضمن متطلبات جودة الحياة. وتنظر الهيئة إلى الموسيقى كلغة عالمية، وتصمم برامجها ومبادرتها وتنظم وتطوّر القطاع والنهوض به للوصول إلى مستويات عالمية من منطلق عبور هذا الفن إلى الشعوب والإفصاح عن مشاعرها وتاريخها، ووطنيتها وعراقة أراضيها، ومساعدتها على بناء جسور تواصل مع ثقافات العالم المختلفة.



«ضايل عنا عرض»... «سيرك غزة» يزرع البسمة على وجوه الأطفال وسط الأنقاض

الفيلم رصد «سيرك غزة الحرة» يقدم عروضاً في الشارع (الشركة المنتجة)
الفيلم رصد «سيرك غزة الحرة» يقدم عروضاً في الشارع (الشركة المنتجة)
TT

«ضايل عنا عرض»... «سيرك غزة» يزرع البسمة على وجوه الأطفال وسط الأنقاض

الفيلم رصد «سيرك غزة الحرة» يقدم عروضاً في الشارع (الشركة المنتجة)
الفيلم رصد «سيرك غزة الحرة» يقدم عروضاً في الشارع (الشركة المنتجة)

أثار الفيلم الوثائقي «ضايل عنا عرض - One More Show» اهتماماً في عرضه العالمي الأول ضمن أفلام المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46 المنعقدة في الفترة من 12 إلى 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي؛ لما أثاره من شجن لدى من شاهدوه، لقوته الإنسانية ورسالته المؤثرة التي قدمها شهادةً حية ليؤكد من خلالها قدرة الفن على المقاومة وعلى الأمل الذي يزهر رغم القهر والدمار.

الفيلم تم تصويره في غزة 2024 خلال الحرب، ويتتبع «سيرك غزة الحر» الذي أسسه مجموعة من الشباب الفلسطينيين الذين رفضوا الاستسلام لليأس رغم الإبادة الجماعية التي يشهدها القطاع، وبين الملاجئ والشوارع المهدمة وركام المباني المنهارة يواصلون تقديم عروضهم للأطفال، يذهبون إليهم في كل مكان ليمنحوهم لحظاتٍ من الفرح والأمل في ظل قسوة وبشاعة الواقع الذي يعيشونه.

الفيلم للمخرجة المصرية مي محمود، وهي ابنة الإعلامي محمود سعد، وقد عملت مساعدةَ مخرج في عدد من الأفلام، من بينها «الجزيرة» و«ولاد العم»، وقد اختارت عنوانه باللهجة الفلسطينية وهو يعني «لا يزال لدينا عرض» للتأكيد على استمرار رسالة أبطال سيرك غزة، وشارك في إخراج الفيلم المصور الفلسطيني أحمد الدنف الذي قام بتصوير الفيلم، ومن إنتاج «ريد ستار» لباهو بخش، بمشاركة «فيلم كلينك» للمنتج محمد حفظي، وتضم قائمة أعضاء «سيرك غزة الحر» كلاً من يوسف خضر، ومحمد أيمن، ومحمد عبيد «جاست»، وأحمد زَيارة «بطوط»، وإسماعيل فرحات، ومحمد الأخرس وأشرف خضر، إلى جانب مجموعة من فناني السيرك الشباب من غزة.

واستقبلت السجادة الحمراء صناع الفيلم قبل عرضه، مساء الخميس، وحملت المخرجة صورة شريكها الفلسطيني أحمد الدنف الذي تعذر حضوره من غزة، بينما حضرت شقيقته.

لقطة من الفيلم (الشركة المنتجة)

تبدأ أحداث الفيلم من حي الزوايدة وسط قطاع غزة، حيث نرى أعضاء الفرقة الذين يقيمون داخل مبنى غير مجهز، يفترشون الأرض ببعض الأغطية التي ينامون عليها، يجلس أحدهم خارج المبنى يحادث زوجته ويفتح الكاميرا ليؤكد لها أنه بخير، ثم يداعب طفله الرضيع ويعود لزملائه الذين يقاومون اليأس وينشرون البهجة بعروضهم للأطفال. يؤدون البروفات في المكان نفسه الذي يعشون فيه، ثم يستقلّون سيارة نقل، لتبدأ رحلتهم عبر شوارع المدينة المهدمة وركام المباني المحطمة، ويتوقفون عند أحد الأحياء السكنية بمنطقة خان يونس جنوب قطاع غزة، حيث يتجمع الأطفال تباعاً يصفقون ويهللون مع بدء عروضهم، وتصورهن النساء من الشرفات، لتبدأ فقرات السيرك من البلياتشو للاعب الجمباز وأغنيات الفرحة التي تبدد الخوف في نفوس الأطفال.

يصور الفيلم حياة أعضاء السيرك اليومية ومخاوفهم في ظل الحرب وغيابهم عن أسرهم، ويقول أحدهم: «في كل مرة نخرج أخاف ألا نعود»، لكن ذلك لا يوهن من عزمهم على مواصلة رسالتهم.

استقبل المسرح الكبير فريق عمل الفيلم عقب العرض، وقالت المخرجة مي محمود إنها أرادت توثيق الحياة اليومية في غزة، وكان يشغلها كثيراً كيف يعيش أهل المدينة في ظل الحرب، حتى علمت بفرقة «سيرك غزة الحر» وما تقوم به، وبمشاركة مدير التصوير الفلسطيني أحمد الدنف بدأوا التصوير.

فريق عمل الفيلم برفقة مصممة الملابس ناهد نصر الله قبل عرضه الأول بالمهرجان (الشركة المنتجة)

وأضافت مي أن «هذا الفيلم تم بدعم من طاقمه الذين عملوا دون أجر، قبل أن تنضم لنا (ريد ستار)، حيث عرضت الفيلم عليهم، ولم أقل سوى جملة واحدة (الفيلم يصور فرقة سيرك غزة الحر التي تواصل عروضها في ظل الحرب)، فوافقوا فوراً».

وكشف المنتج صفي الدين محمود مدير تطوير المشروعات بشركة «ريد ستار» عن اتفاقهم منذ البداية على تخصيص أي إيراد سوف يحققه الفيلم لدعم «سيرك غزة الحر».

وحسب الناقد طارق الشناوي، فإن «الفيلم يمس الإحساس والوجدان» مثلما يقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «لقد انطلق من نقطة مهمة وهي أن أعضاء السيرك يحاربون عدوهم بالحياة بينما هو يحاربهم بالموت، هذا هو العمق الحقيقي للفيلم الذي عكس حالة بهجة على عكس أفلام أخرى عن القضية الفلسطينية سيطر فيها الجانب الدموي بحكم أنه الواقع وبحكم إظهار وحشية الجانب الإسرائيلي»، لكن «الأعمق - وفق الشناوي - أن تؤكد قدرتك على المقاومة، ليس من خلال السلاح، لكن أن تتنفس الحياة في عز الموت وتواجههم بالفرحة»، ويشير إلى أن «المخرجة قدمت السلاح الحقيقي، وهو أن الفلسطيني سيظل يعشق الحياة».

ويلفت الشناوي إلي أن «الفيلم الوثائقي يعتمد على تلقائية الأداء من أبطاله، ولا يعتمد على ممثلين محترفين ولا يستلزم توجيههم، بل الأصل أن يتركهم المخرج يؤدون بتلقائيتهم، وهذا ما حرصت عليه المخرجة مي محمود في الفيلم».


مارتا بيرغمان: «الركض الصامت» معالجة إنسانية لـ«الهجرة غير المشروعة»

يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
TT

مارتا بيرغمان: «الركض الصامت» معالجة إنسانية لـ«الهجرة غير المشروعة»

يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)

قالت المخرجة البلجيكية، مارتا بيرغمان، إن فيلمها الجديد «الركض الصامت» انطلق من رغبة عميقة في إعادة توجيه البوصلة نحو الأصوات التي تعيش في الظل، والأقدار التي تمرّ أمام العالم بلا أثر، رغم ما تحمله من توتر إنساني لا يقلّ قوة عن الحكايات الكبرى.

موضحة أن التفكير في الفيلم بدأ من سؤال ظلّ يطاردها لسنوات وهو كيف يبدو الإنسان حين يجد نفسه بلا جذور، وبلا يقين، وبلا طريق واضح، ووجدت أن الإجابة لا تُصاغ بالحوار بقدر ما تكتبها ملامح الأشخاص، والإيقاع الداخلي للبشر الذين يعيشون حياتهم تحت وطأة الخوف.

وأضافت مارتا بيرغمان لـ«الشرق الأوسط» أن «الفيلم لا يتعامل مع الهجرة غير النظامية كعنوان سياسي أو ككتلة اجتماعية واحدة، بل كعالم مليء بالتفاصيل الفردية التي تختبئ خلفها معاناة وارتباك وأسئلة معلّقة، فالشخصيات ليست نماذج جاهزة، بل أرواحٌ تواجه مصائرها على حافة العالم، يقودها مزيج من الأمل والخوف، والإصرار على النجاة مهما كانت الطريق معتمة».

وتؤكد أن الرهان الأساسي كان تقديم الهجرة بوصفها حكاية بشرية قبل أن تكون قضية، حكاية عن الحب، وعن الأسرة، وعن التمسك بالحياة في مواجهة كل ما يهددها.

المخرجة البلجيكية (الشركة المنتجة)

وأشارت إلى أن اختيارها المزج بين العربية والفرنسية لا يعكس فقط انتماءات الشخصيات، بل يكشف كذلك طبقات المشاعر التي يحاول كل منهم إخفاءها. وتقول إن «اللغة هنا ليست وسيلة للتواصل فقط، بل مساحة يتحرك فيها الصراع الداخلي، حيث يمكن لجملة قصيرة أو صمت طويل أن يكشفا ما لا تستطيع الكاميرا وحدها كشفه».

وتدور أحداث الفيلم، الذي يُعرض عالمياً للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية للدورة 46 من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، حول رحلة سارة وآدم اللذين عبرا الحدود إلى بلجيكا بطريقة غير قانونية برفقة طفلتهما الصغيرة البالغة عامين، في محاولة لاستكمال الطريق إلى إنجلترا حيث يأملان في بناء بداية جديدة. لكن الرحلة تبدأ بالانكسار حين يجد الثلاثة أنفسهم محشورين في صندوق شاحنة مع عدد من المهاجرين.

وفي مقابل هذا الخط الدرامي، يظهر ردووان، الشرطي البلجيكي الذي أمضى عشرين عاماً في مطاردة المهرّبين على الطرق السريعة، قبل أن يواجه في تلك الليلة واقعة تغيّر نظرته للعالم ولعمله ولذاته، حين يحاول فريقه اعتراض شاحنة يُشتبه في حملها مهاجرين.

وتؤكد المخرجة أن «هذا التوازي بين خط المهاجرين وخط الشرطي لم يكن لصناعة التناقض، بل للكشف عن هشاشة الإنسان في الجهتين، فالجميع في الفيلم يركض بعضهم هرباً، وبعضهم مطاردة، وبعضهم بحثاً عن معنى»، لافتة إلى أن التوتر الخفي بين الصمت والصراخ الداخلي هو جوهر الفيلم، وأن السؤال الحقيقي الذي يطرحه العمل ليس فقط كيف ينجو الإنسان؟ بل ماذا يبقى منه بعد النجاة؟

استغرق العمل على الفيلم وقتاً طويلاً (الشركة المنتجة)

وقالت المخرجة إن «العمل مع ممثلين من خلفيات ثقافية متعددة، يتحدثون بلغتين مختلفتين ويحملون تجارب شخصية مؤثرة، خلق طاقة خاصة داخل مواقع التصوير، خصوصاً أن أغلب المشاهد اعتمدت على الانفعالات الداخلية المكبوتة أكثر مما اعتمدت على الحوار».

وعدّت مارتا «هذا التنوع الثقافي واللغوي أعاد تشكيل الإيقاع العاطفي للفيلم، ومنح الشخصيات طبقات شعورية أكثر عمقاً، خصوصاً أن كثيراً من اللحظات القوية في الفيلم لم تُكتب مسبقاً، بل وُلدت من تفاعل الممثلين مع الموقف ومع بعضهم بعضاً».

وأضافت أن تجربتها الطويلة في السينما الوثائقية كانت محورية في بناء هذا العمل الروائي؛ لأنها علمتها الاقتراب من الشخصيات الهشّة بعين متفحصة وقلب منصت. وتقول إن «سنوات عملها السابقة على أفلام تتناول المجتمعات المهمّشة، ساعدتها على تطوير حساسية خاصة تجاه القصص التي تُروى عبر الصمت، وتجاه الوجوه التي تحتاج الكاميرا إلى وقت طويل لتفك شيفرة عواطفها»، مؤكدة أن «الركض الصامت» وإن كان فيلماً روائياً، فإنه يستعير من الوثائقي صدقه وخشونته وحدّته.

وقالت إن «الاهتمام الدولي الذي حظي به الفيلم قبل عرضه العالمي الأول يشير إلى أن القصص التي تمسّ جوهر الإنسان، خصوصاً في لحظات ضعفه، باتت أكثر قدرة على عبور الحدود»، مشيرة إلى أن الفيلم، رغم ارتباطه بجغرافيا محددة، يقدم حكاية ذات امتداد إنساني واسع؛ لأن جوهره لا يتعلق فقط بالهجرة، بل بالبحث عن معنى داخل عالم يزداد قسوة، وبالسعي للاحتفاظ بما تبقى من الذات في لحظات الانكسار.

وترى بيرغمان أن «التوتر النفسي الذي يعيشه كل من أبطاله، سواء كانوا مهاجرين أو رجال شرطة، يعكس صورة أكثر تعقيداً للواقع، ويكشف أن الجميع محاصرون بشكل أو بآخر داخل حدود لا يختارونها»، مؤكدة أن العمل بالنسبة لها ليس فيلماً عن الهجرة بقدر ما هو «عن الركض الداخلي الذي يعيشه الإنسان حين يجد نفسه واقفاً بين ماضٍ لا يستطيع الرجوع إليه، ومستقبل لا يعرف الطريق إليه»، على حد تعبيرها.


خيوط تحكي... النسيج كجسر بين التراث والفن الحديث

تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
TT

خيوط تحكي... النسيج كجسر بين التراث والفن الحديث

تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)

كل منسوجة يدوية تحمل حكاية، تحمل أصواتاً وروائح موروثة، كل منها تحمل بصمة خاصة، وأيضاً لمسة عن تاريخ وثقافة مجتمع.

مثلت المنسوجات جانباً مهماً في أعمال الفنانتين السعوديتين الدكتورة أسماء الجهني وزينب أبو حسين، ومعهما يجري حوارنا عن النسيج كوسيط رئيس في الأعمال الفنية. دار الحديث حول الذاكرة والحكايات، وعن دور البيئة في تكوين رؤيتهما الفنية، وسألنا: كيف يصبح التقليدي معاصراً؟

عن الذاكرة والإلهام

نشأت الفنانة زينب أبو حسين في جزيرة تاروت شرق السعودية، حيث تتعانق البساتين مع أمواج البحر، في بيئة ريفية بسيطة، اعتادت نساؤها صنع كل شيء بأيديهن. تستحضر زينب ذكريات جدتها التي كانت تجدل السلال، ووالدتها التي وصفتها بالخياطة الماهرة، وتقول: «عندما تكبرين في بيئة تعتمد على الصناعة اليدوية، يصبح العمل اليدوي قريباً من روحك».

الفنانة زينب أبو حسين (الفنانة)

كانت الفنانة الدكتورة أسماء الجهني في طفولتها منشغلة بمراقبة حركة الإبرة وأشكال التطريز؛ إذ تتميز نساء المدينة المنورة بحرفة التطريز والكروشيه. وأيضاً امتهن بعض أفراد عائلتها حرفة السدو، مما دعاها هي أيضاً لتجربة هذه الحرف منذ الطفولة. لكن، لماذا قررت أن تجعل النسيج جزءاً من ممارستها الفنية؟

تقول الجهني: «تبحرت في عالم النسيج أثناء دراستي لمرحلة الماجستير في الولايات المتحدة، وتعلمت تقنيات تقليدية وحديثة. وعند اطلاعي على تاريخ النسيج ودوره الجوهري في مجالات مثل الطب والهندسة، استشعرت أهميته، ولمست أيضاً مرونته وقدرته على خدمة أي فكرة، وخاصة في المجال الفني». وكذلك كان لبيئة المدينة المنورة أثر على رؤية أسماء الفنية؛ فهذه المدينة المقدسة تتمتع بمكانة خاصة جعلتها حاضنة للأعراق والحكايات المتعددة. تضيف قائلة: «تنوع المجتمع المديني علمني قيمة الانتماء المتعدد وتقدير الاختلاف». طوّعت أسماء هذا الأثر في النسيج ليصبح مساحتها الخاصة التي تتعانق فيها جميع الحوارات والأفكار والحكايات.

الفنانة والباحثة د. أسماء الجهني (الفنانة)

أما زينب أبو حسين فأرادت الاستعانة بكل ما ارتبطت به في طفولتها كأداة تعبير في أعمالها الفنية، فهي تستعين بالنسيج والتطريز، مستلهمة الزخارف من نباتات جزيرة تاروت، أو مما تتذكره من زخارف على ملابس جدتها ووالدتها. وهي أيضاً تستخلص الأصباغ من المواد الطبيعية. تقول: «هذه المواد والروائح هي بمثابة آلة زمن، تعيدني لذلك الزمن الحنون». حتى حكايات أعمالها الفنية تستقيها من نساء الجزيرة المنسيات، وتتخذهن رمزاً لكل النساء، وتضيف: «أعمالي حميمية جداً، أصنعها بيدي وأنا بين عائلتي».

«أصوات منسوجة»

عبّرت الفنانة أسماء الجهني في عملها «أصوات منسوجة» عن مفهوم «المجلس» في الثقافة السعودية؛ كونه الحيز الذي يستحوذ على أهم مساحة وأكبر عناية في المنزل كمصدر للتباهي. ومن ناحية أخرى يعكس العمل كيف أصبحت هذه المجالس مساحات شبه مهجورة في البيوت، نتيجة المتغيرات التي طرأت على المجتمع السعودي. يتكون «أصوات منسوجة» من ست قطع كل منها يمثل نوعاً من المجالس، مثل مجلس النساء ومجلس العائلة ومجلس الرجال ومجلس البادية، بالإضافة إلى منسوجتين تفاعليتين. كل مجلس أو منسوجة تتضمن أصواتاً خاصة، سُجلت من مجالس حقيقية. أما المنسوجتان الإضافيتان فتتفاعلان مع أصوات الزائرين مظهرتين إضاءات متنوعة بحسب تردد الصوت، في رمزية للمساحات الصامتة التي تُخلق فيها الحياة من جديد بوجود الزوار وتفاعل الأفراد فيما بينهم. وعن الأسئلة التي يطرحها العمل تجيب: «تساءلت عن الذاكرة التي نحتفظ بها من حوارات المجالس، وشعور الانتماء الذي يتشكل داخلنا ضمن هذه المساحات. ومن خلال البحث الذي أجريته عن الأصوات والمجالس توصلت إلى أن الذاكرة متغيرة وفقاً لتغيراتنا نحن؛ بمعنى أن أصوات المجالس ليست وثيقة ثابتة، ولكن فكرة تختلف من شخص لآخر وقابلة للتطور مع الوقت».

تفصيلة من عمل «المجلس» للفنانة أسماء الجهني (الفنانة)

«عمتي والكرورو»

ومن ناحيتها، تحكي لنا الفنانة زينب أبو حسين عن فكرة عملها «عمتي والكرورو ». الكرورو هو نوع من البهار خاص بجزيرة تاروت مصنوع من ثمر الرمان المجفف، ويستخدم فقط لطهو المأكولات البحرية. تقول الفنانة: «أشعر أن هذا البهار هو نقطة التقاء بين البستان والبحر وبين الفلاحين والصيادين؛ لذا أردت توثيقه، وأردت التعبير عن شوقي لمشهد عمتي وهي تصنعه بنفسها».

يتكون العمل من سجادة من قماش الكتان المصبوغ بالحنة والمطبوع بتقنية الطباعة الحريرية بأصباغ مستخلصة طبيعياً من ورد الرمان وقشوره والزعفران والنيلة، ومطرز بزخارف مستلهمة من النخيل والبساتين. وبسؤالنا عن العبارات التي ترافق أغلب أعمالها، توضح لنا أن النصوص تأتي لتكمل باقي أحداث قصتها، وهذه العبارات إما نثرية أو شعرية، وإما تكون من كتاباتها الشخصية أو من أبيات زوجها الشاعر.

«عمتي والكرورو»... مشروع إقامة «مسك الفنية» للفنانة زينب أبو حسين (الفنانة)

بين التقليدي والمعاصر

تمزج أسماء الجهني في ممارستها الفنية بين التقليدي ممثلاً في حرفة النسيج، وبين التكنولوجيا الحديثة؛ إذ ترى أن توظيف التقنيات المعاصرة يسهم في إيصال الفكرة، ويفتح آفاقاً أوسع للإبداع. وفي المقابل، ترى أن الاستعانة بعناصر تعكس الهوية الثقافية تسهم في تعزيز أصالة العمل الفني ليغدو نتاجاً صادقاً يجمع بين عراقة الماضي وروح الحداثة. أما عن استخدام النسيج ليصبح وسيطاً تفاعلياً فتوضح: «حينها يكون المتلقي جزءاً من المعنى والفكرة، وأرى أن هذا التوجه يشكل جانباً مهماً في الفن المعاصر؛ إذ لا يكتفي العمل الفني بتعزيز المشهد البصري فقط، وإنما يمتد ليوقظ الحواس الأخرى كالسمع واللمس».

«أصوات منسوجة» للفنانة أسماء الجهني (الفنانة)

وعلى الجانب الآخر، تتمسك زينب أبو حسين بالتقنيات التقليدية في التعامل مع النسيج واستخلاص الأصباغ، وهي أيضاً تستعين بأسلوب المنمنمات في زخرفة أعمالها، وتهتم بشكل خاص بمنمنمات العصر الإسلامي الذهبي، وهذا ما يثير تساؤلاً حول مقدرة الوسيط التقليدي على حمل خطاب معاصر وعالمي.

ترى أن ألوانها المستخلصة طبيعياً تحمل خصوصية؛ فالألوان تتأثر درجاتها بتوفر المواد واختلاف المواسم، وكذلك التطريز الذي يختلف أسلوبه من منطقة لأخرى، ومن فنان لآخر. هذه التفاصيل الخاصة بأعمالها تضفي عنصر إبهار، وهي أيضاً قادرة على إثارة فضول المتلقي المعاصر من وجهة نظرها، وتضيف: «الفنان الذي يعبر بصدق عن مشاعره ستصل أعماله إلى قلوب الجميع من دون حواجز حتى وإن اختلفت اللغات. وهذا ما يدفعني باستمرار للبحث والاستكشاف ومشاركة الحكايات المحلية التي تنجح دائماً في ملامسة وجدان الناس في كل مكان».