مات جيورجيو أرماني «ملك الموضة» عن عمر يناهز 91. ترك إرثاً غنياً غيّر به وجه الموضة الرجالية والنسائية على حد سواء. بوفاته ترك فراغاً عميقاً، ليس في عالم الموضة فحسب؛ بل داخل إمبراطوريته الخاصة أيضاً.
فهو لم يترك أبناء ولم يعيَّن خليفة له في حياته. هذا الفراغ كشف إلى أي حد كانت قوته تحمل في طياتها نقطة ضعفه. كان مهووساً باستقلاليته، وظل يُشرف على كل صغيرة وكبيرة حتى آخر نفس؛ من الحملات الإعلانية إلى طريقة تصفيف شعر العارضين قبل صعودهم إلى منصة العرض ومشيتهم.

هذا ما صرح به متحدث رسمي منذ عام تقريباً عندما تغيَّب أول مرة عن حضور عرضه الخاص بالأزياء الرجالية في ميلانو - يونيو (حزيران)، وثانية في عرضه الخاص بخط الهوت كوتور «أرماني بريفيه» الأخير في شهر يوليو (تموز) بباريس.
كانت هذه التصريحات من باب طمأنة محبيه بأن وعكته الجسدية لم تؤثر على قدراته الفنية، إلا أنها أكدت تمسكه برؤيته الخاصة التي بناها من الصفر وخوفه عليها من الآخر. أتقن كل شيء، بما في ذلك غمره الجميع بمحبته وكرمه، إلا أنه لم يُتقن فن التخلي، ولم يستطع تسليم المشعل لأحد غيره في حياته، خصوصاً أن إمبراطوريته تقدر حالياً بالمليارات، نحو 2.3 مليار يورو (2.7 مليار دولار) سنوياً، وتعدت الأزياء إلى العطور ومستحضرات التجميل والأثاث والفنادق والمطاعم.

كل هذه النجاحات تحققت بفضل سيطرته الكاملة على شؤون «مملكته» من الناحيتين الإبداعية والاستثمارية. في تصريح حديث له مع جريدة «فاينانشال تايمز» البريطانية، قال في هذا الصدد: «لا أدري إن كانت كلمة مدمن على العمل مناسبة، لكني أومن بأن العمل الجاد ضروري لتحقيق النجاح». وأضاف: «الشيء الوحيد الذي أندم عليه في الحياة، هو شعوري بأنني قضيت أوقاتاً طويلة في العمل، ولم أقضِ ما يكفي من الوقت مع الأصدقاء والعائلة».
المراقبون ينظرون إلى هذا «الإدمان» على العمل من زاوية مختلفة: عدم القدرة على تفويض السلطة، والخوف على ما بناه من الصفر. منذ عقود، بدأت هذه التساؤلات حول من سيخلفه تتردد في أوساط الموضة، ومعها بعض الانتقادات للمصممين الكبار عموماً. فإيطاليا كانت قد بدأت تعاني من «شيخوخة مبكرة» بسبب افتقادها لمصممين شباب يضخونها بدماء جديدة. لم يرد أرماني على هذه الانتقادات بشكل مباشر حينها؛ فقد كان قليل الكلام مع وسائل الإعلام.

كان ردّه بليغاً، إذ أنشأ «مؤسسة جيورجيو أرماني» عام 2016، لتأكيد اهتمامه بمشاريع عامة وثقافية وتعليمية وأعمال خيرية، ثم تعاون مع غرفة الأزياء الإيطالية، بتوفير مساحة «أرماني-تياترو Armani/Teatro» لدعم المواهب الناشئة. فهي منصة مهمة يقدمون فيها عروضهم، ويُعرِّفون بأعمالهم لصناع الموضة العالميين. وفي عام 2024، خصص منحة دراسية لطلبة الماجستير. لسان حاله من خلال هذه المشروعات الهادفة كمن يقول إنه سيعمل كل ما في جهده لدعم الشباب والاعتراف بقدراتهم... لكن بعيداً عن داره.

فقط مؤخراً وبعد إلحاح عن مستقبل الدار، صرَّح بأن خطته للخلافة «تتضمن انتقالاً تدريجياً للمسؤوليات التي كنت أتولاها دائماً إلى الأشخاص الأقرب إليّ، مثل ليو ديلّوركو، وأفراد عائلتي، فأنا أود أن تكون عملية الخلافة طبيعية، لا لحظة من القطيعة أو الانفصال».
تجدر الإشارة إلى أن وصيته تشمل ليو ديلوركو، وهو مساعده الإبداعي منذ عام 1977 ورئيس قسم تصميم الأزياء الرجالية، وشقيقته روزانا وابنتا أخيه، سيلفان وروبرتا وابن أخته أندريا كاميرانا. كل واحد منهم سيتولى مسؤوليات مهمة. وصية صمَّمها لتحديد الصلاحيات وضمان استمرار التناغم بين كل الأطراف. كما يُذكر أن جثمانه مسجى منذ يوم السبت الماضي في المقر الرئيسي لمجموعة أرماني، للسماح لمحبيه بإلقاء نظرة الوداع عليه قبل تشييعه لمثواه الأخير في جنازة خاصة غداً (الاثنين).

ومنذ يوم السبت وطوابير طويلة خارج مثواه لإلقاء نظرة أخيرة على مصمم أحب الأناقة وأعطاها كل شيء. كان جون إلكان، سليل عائلة أنييلي الإيطالية العريقة، وزوجته لافينيا، من أوائل الزوار الذين وصلوا لتقديم واجب التعزية، علماً بأن إلكان، الذي يرأس شركة «إكسور» الاستثمارية التابعة لعائلة أنييلي، سبق وناقش اندماجاً محتملاً مع أرماني عبارة عن تكتل إيطالي للسلع الفاخرة، يضم شركة «فيراري»، المصنعة للسيارات الرياضية المملوكة لـ«إكسور». إلا أن المحادثات لم تُسفر عن أي نتيجة. من بين الزوار أيضاً كان رئيس بلدية ميلانو؛ جوزيبي سالا، الذي قال إن المدينة التي انتقل إليها أرماني مع عائلته بعد الحرب العالمية الثانية، تدين له بالكثير، وإنها ستُعلن الحداد العام يوم غد (الاثنين). وأضاف سالا: «سيكون من المستحيل نسيانه... أعتقد أن إرثه الأكبر لميلانو هو إيمانه العميق بالعمل بوصفه وسيلة لتحقيق الذات».
















