في تشكيلتها لربيع وصيف 2024.. «ديور» تدعي التقشف وتُبطن الأناقة

تشكيلة تلعب على التناقض وتعتمد على تعويذات ساحرة

الشعارات النسوية والمناهضة للرأسمالية لم تسرق شيئاً من حرفية الدار (إ.ب.أ)
الشعارات النسوية والمناهضة للرأسمالية لم تسرق شيئاً من حرفية الدار (إ.ب.أ)
TT

في تشكيلتها لربيع وصيف 2024.. «ديور» تدعي التقشف وتُبطن الأناقة

الشعارات النسوية والمناهضة للرأسمالية لم تسرق شيئاً من حرفية الدار (إ.ب.أ)
الشعارات النسوية والمناهضة للرأسمالية لم تسرق شيئاً من حرفية الدار (إ.ب.أ)

سبع سنوات هو عدد الأعوام التي قضتها الإيطالية ماريا غراتسيا كيوري في دار «ديور» بوصفها مصممة إبداعية. قبلها ظلت القيادة الفنية بيد مصممين كان من بينهم إيف سان لوران ومارك بوهان وجيانفرانكو فيري وجون غاليانو وراف سيمونز الذي تسلمت منه المشعل. دخولها باعتبارها أول امرأة للدار الفرنسية كان نقطة فارقة في تاريخ «ديور» والموضة على حد سواء. أمر فهمت أبعاده كيوري منذ البداية، وركزت عليها في كل عروضها باحتفالها بنساء مبدعات أو مؤثرات من كل أنحاء العالم. تستحضر أحياناً روحهن وإيحاءاتهن، وأحياناً أخرى تتعاون معهن من خلال تصميم ديكورات العرض.

إطلالات كثيرة بدت وظيفية (ديور)

في تشكيلتها الأخيرة لربيع وصيف 2024، نبشت في كتب التاريخ؛ بحثاً عن نوع جديد من النساء يغذي هذا الجانب. حرصت على أن يكون نوعاً غير مستهلك وغامض في الوقت ذاته. أثمر بحثها عن الساحرات... بالمعنى الحرفي للكلمة والمعنى الإيجابي أيضاً. ساحرات غير اللواتي صورتهن لنا قصص الأطفال وأفلام هوليوود بقبعات عالية وقشة وملابس فضفاضة وسوداء، وإن كان اللون الأسود حاضراً بقوة. لكن المراد منه كان جمالياً وعملياً؛ لأن ساحرات ماريا غراتسيا نساء مستقلات قويات، متمرِّدات وعالمات ضليعات في علوم الأعشاب والنباتات. بعبارة أخرى، كن بلسماً يداوي الجروح والنفوس في عالم ذكوري لم يرد الاعتراف بمهاراتهن، بل حاربهن بشراسة. بتذكيرنا بهذا الجانب نجحت ماريا غراتسيا في إعادة الاعتبار لهن. أضفت على ملامحهن الجمال، وعلى ملابسهن نقشات مطعَّم بعضها بعناصر من الطبيعة.

إيحاءاتها المستمدة من الفن المتقشف لم تؤثر على صورة الدار القائمة على الأناقة والفخامة (ديور)

في البيان الصحافي الذي وزعته الدار على وسائل الإعلام، جاء أن «هؤلاء الساحرات أمينات على المعرفة المرتبطة بالأرض، ينقلنَ علم النباتات ويُعبّرنَ عن احترامهنّ العميق لإيقاع العالم الطبيعي». أما كيف ترجمت ماريا غراتسيا هذا الوجه الساحر في تشكيلتها، فبالعودة إلى أسلوب «من القرون الوسطى وتصميم هندسيّ، تأخذ فيها السترة طابعاً ذكوريّاً، وتشهد بعض الأقمشة على تجربة مادية من ذاكرة الزمن، ومعرفة عميقة بأعمال الفنان الإيطالي ألبرتو بوري»، حسب قولها. هذه التجربة المادية تُفسرها أقمشة نُسجت بطرق تجعلها تبدو قديمة وباهتة، تظهر منها تمزقات وشقوق، وأحياناً حروق. أمّا لوحة الألوان فتشتمل على التدرجات اللونيّة للرماد والبابونج والأسود، إلى حد حوّل طبعة «ميل فلور» Mille - fleurs، وهي وردة تعدّ واحدة من رموز «ديور» الجميلة، إلى نمط داكن نوعاً ما. تستمر قصة الساحرات في شد الانتباه حيث تدخلنا ظلمة الليل. كانت الفترة التي تعملن فيها بحرية بعيداً عن أعين الناس، تُشكِل مراحل القمر والشمس وتبدّل الفصول إلى جانب نمو الأعشاب الطبية في أوقات معينة، عناصر مهمة طبعت تصاميم أيقونية مثل معاطف وتنورات مستديرة.

طبعات الدار اكتسبت هي الأخرى غموضاً وضبابية (ديور)

لكن لولا الحبكة السردية التي شرحتها الدار في بيانها الصحافي بأنها مستمدة من الساحرات، لما خطر الأمر ببال أحد. فالمظهر الطاغي على التشكيلة كان مستمداً من المرأة الباريسية كما تناولها وصوّرها كِتاب حقق مبيعات عالية على مستوى العالم بعنوان «كيف تكونين باريسية». هذه المرأة تنعم بما هو أكثر من الجمال: الشخصية القوية والغامضة، المستقلة ماديًا والمتمردة على الأعراف في آن واحد. ما يُعزز هذه الصورة أن ماريا غراتسيا قامت بما تقوم به في كل عرض، وهو التعاون مع فنانة في مجال ما، تساعدها على خلق حوار ذهني أو فلسفي أو فني. كان التعاون هذه المرة مع إيلينا بلانتوني، المتخصصة في الفنون البصرية، والتي استعملت العرض، بوصفها منصة لشن هجوم على المفاهيم الرأسمالية وكيف تُؤثر سلباً على المرأة ومسيرتها.

بصمات «ديور» لم تغب تماماً (خاص)

من خلال سينوغرافيات تتوالى فيها شعارات تصب كلها في المعنى نفسه مثل «الرأسمالية لن تأخذها إلى حيث تريد حقاً»، و«ليست هي... لم تعد كما كانت في السابق»، وغيرها من لوحات تُعبر عن رفضها للأفكار النمطيّة التي تحصر النساء في صور مُحدّدة، توالت الإطلالات والاقتراحات التي لم تتجاهل فيها المصممة أن الرأسمالية جزء مهم في عملية بيع الموضة، الراقية تحديداً. البيان الذي وزعته الدار أشار إلى أن التشكيلة «أبصرت النور نتيجة التأمّل في معنى الحاضر. وهو حاضر يحث على التعايش ما بين الماضي والمستقبل بشكل متناغم». لكن هذا التناغم كان أساسه تناقض كبير بين الشعارات الثائرة على الوضع الحالي بمفهومه الرأسمالي، الذي ندّدت به إيلينا بلانتوني، وما تقوم عليه الموضة من حاجة لبيع منتجات باهظة الثمن لرأسماليين.

رغم الشعارات المناهضة للرأسمالية ظلت الأنوثة الناعمة سلاحاً مهماً في يد ماريا غراتسيا تشيوري (ديور)

وسط هذا التناقض الذي يفسح المجال أمام العديد من التفسيرات، تواصل ماريا غراتسيا استكشاف العلاقة بين الأنوثة والنسوية، بدافع قناعتها أنّ لدى الموضة مسؤوليّة متزايدة في عصرنا اليوم لمساعدة المرأة على إدراك قيمتها والاحتفال بهويّتها.

حتى الدينم عولج بطرق جعلته يبدو باهتاً (ديور)

وهو ما جسدته في تصاميم مريحة وغير مقيدة، تراقصت في الكثير من الإطلالات على النعومة والضبابية، وبدت فيها مجموعة من الإطلالات متآكلة من الحواف أو ممزقة بعد أن تمت معالجتها لتبدو بالية، تستحضر لنا روح الفنان الإيطالي ألبرتو بوري، أحد رواد حركة الفن المتقشف الذي اعتمد على المواد الرخيصة، لكن هذا الجانب لم يؤثر على صورة «ديور» القائمة على الأناقة والفخامة.

لمسات الدار الكلاسيكية طُعمت بلمسات عصرية لا تعترف بزمان أو مكان (ديور)

فالحرب على الرأسمالية تبقى مجرد شعارات، وعلامات الفقر مجرد فكرة للنقاش. أما التصاميم التي ستطرح في ربيع وصيف 2024 فستستعيد كما قالت الدار «العلاقة التي تربط بين الجسم والملابس ويتم تحديدها في سياق العصر الحالي، بدلاً من أن تقتصر على وقتٍ محدّد أو على الحنين إلى الماضي». أي أنها لا تعترف سوى بالأناقة التي تتحدى كل الأزمنة والسياسات؛ لأن قانون الإغراء فيها أقوى من أي شيء.


مقالات ذات صلة

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

لمسات الموضة حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

مع اقتراب نهاية كل عام، تتسابق المتاجر والمحلات الكبيرة على التفنن في رسم وتزيين واجهاتها لجذب أكبر نسبة من المتسوقين إلى أحضانها.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق في عقدها الثامن اختار إريك جدّته «مانيكان» تعرض تصاميمه (حساب المُصمّم على إنستغرام)

إريك ماتيو ريتر وجدّته هدى زيادة... جيلان يلتقيان على أجنحة الموضة

معاً؛ زوّدا عالم الأزياء بلمسة سبّاقة لم يشهدها العالم العربي من قبل. التناغُم بينهما لوّن عالم الموضة في لبنان بنفحة الأصالة والشباب.

فيفيان حداد (بيروت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)
الاقتصاد صورة تُظهر واجهة متجر دار الأزياء الإيطالية «فالنتينو» في وسط روما (أ.ف.ب)

للمرة الأولى منذ الركود العظيم... توقعات بانخفاض مبيعات السلع الفاخرة عالمياً

من المتوقع أن تنخفض مبيعات السلع الفاخرة الشخصية عالمياً في عام 2025 لأول مرة منذ الركود العظيم، وفقاً لدراسة استشارية من شركة «بين».

«الشرق الأوسط» (روما)
لمسات الموضة في الدورة الأولى من رئاسة زوجها اعتمدت ميلانيا عدة إطلالات أنيقة كان لدار «دولتشي أند غابانا» نصيب كبير فيها (خاص)

هل حان الوقت ليصالح صناع الموضة ميلانيا ترمب؟

قامت ميلانيا بالخطوة الأولى بدبلوماسية ناعمة بإعلانها أنها امرأة مستقلة ولها آراء خاصة قد تتعارض مع سياسات زوجها مثل رأيها في حق المرأة في الإجهاض وغير ذلك

جميلة حلفيشي (لندن)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
TT

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

انتهى عرض إيلي صعب في الرياض، أو الأحرى احتفالية «1001 موسم من إيلي صعب» بمرور 45 على انطلاقته في بيروت، ولم تنته ردود الأفعال. فالعرض كان خيالياً، شارك فيه باقة من نجوم العالم، كان القاسم المشترك بينهم إلى جانب نجوميتهم وشعبيتهم العالمية، حبهم لإيلي صعب... الإنسان.

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع. طبعاً تقديم العرض الضخم بدعم الهيئة العامة للترفيه ضمن فعالية «موسم الرياض 2024» كان له دور كبير في إنجاح هذه الفعالية. فقد توفرت كل اللوجيستيات المطلوبة لتسليط الضوء على أيقونة عربية لها تأثير كبير على الساحة العربية والعالمية، نذكر منها:

1-أول عربي يقتحم باريس

عرضه لخريف وشتاء 2024 ضمن عروض «الهوت كوتور» كان لوحة رومانسية من «ألف ليلة وليلة» (إيلي صعب)

هو أول من وضع الموضة العربية ضمن الخريطة العالمية بوصفه أول مصمم عربي يخترق العالمية وينافس كبار المصممين بأسلوب شرقي معاصر. استقبلته باريس بالأحضان ودخل البرنامج الرسمي لـ«هوت كوتور» من باب الفيدرالية الفرنسية للموضة كأول مصمم عربي مُبدع. فالصورة المترسخة في أذهان خبراء الموضة العالميين عن المصممين العرب في الثمانينات من القرن الماضي أنهم مجرد خياطين يقلدون إصداراتهم. كان عز الدين علايا الاستثناء الوحيد قبله.

2-احترام المرأة العربية

من تشكيلته لخريف وشتاء 2024... أزياء تتميز بالرومانسية وسخاء التطريز (إيلي صعب)

هو من فتح عيون الغرب، ليس على قدرة المرأة العربية الشرائية فحسب، بل وعلى تأثيرها على المشهد الإبداعي، بالتالي رد لها اعتبارها. فرغم أنها ومنذ السبعينات تُنعش قطاع «الهوت كوتور» كزبونة متذوقة ومقتدرة، فإنها لم تحصل على الحظوة نفسها التي كانت تتمتع بها مثيلاتها في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً. نجاحه في الثمانينات وبداية التسعينات يعود إلى هذه المرأة، التي أقبلت على تصاميمه، وهو ما استوقف باقي المصممين، وفتح شهيتهم لدخول «الهوت كوتور» ومخاطبتها بلغة أكثر احتراماً. دار «فيرساتشي» مثلاً أطلقت خطها في عام 1989، فيما أطلق جيورجيو أرماني خطه «أرماني بريفيه» في عام 2005 إلى جانب آخرين وجهوا أنظارهم شرقاً متسابقين على نيل رضاها.

3- ارتقى بمهنة التصميم

تحول إلى مدرسة قائمة بذاتها، كما تخرج على يده العديد من المصممين الشباب الذين نجحوا (إيلي صعب)

نجاحه غيّر النظرة إلى مهنة تصميم الأزياء في الوطن العربي، من المغرب الأقصى إلى الشرق. بدأ الجميع يأخذها بجدية أكبر، فلا المجتمع بات يراها قصراً على المرأة أو على الخياطين، ولا الرجل يستسهلها. أصبحت في نظر الجميع صناعة وفناً يحتاجان إلى صقل ودراسة وموهبة.

4-قدوة للشباب

من تشكيلته لـ«هوت كوتور خريف وشتاء 2024» (إيلي صعب)

تخرج على يده العديد من المصممين الشباب. كان قدوة لهم في بداية مشوارهم، ثم دخلوا أكاديميته وتعلموا على يده وفي ورشاته. كلهم يشهدون له بالإبداع ويكنون له كل الاحترام والحب. من بين من هؤلاء نذكر حسين بظاظا ورامي قاضي وغيرهم كثيرون.

5-اقتناع برؤيته الفنية

لم يغير جلده أو أسلوبه رغم كل التحديات. كان له رؤية واضحة تمسك بها وكسب (رويترز)

أكد للجميع أنه يمتلك رؤية خاصة لم يغيرها في أي مرحلة من مراحل تطوره. حتى الانتقادات التي قُوبل بها في باريس في البداية، واجهها بقوة وتحدٍ، ولم يخضع لإملاءاتهم لإرضائهم أو لتجنب هجماتهم الشرسة على شاب عربي يتكلم لغة فنية جديدة في عُقر دارهم. بالعكس زاد من جرعة الرومانسية وسخاء التطريز، وأعطاهم درساً مهماً أن الرأي الأول والأخير ليس لهم، بل للمرأة عموماً، والسعودية تحديداً. كانت خير مساند له بحيث أدخلته القصور والبلاطات، وجعلته ضيفاً مرحباً به في أعراسها ومناسباتها المهمة.