«بيربري» تكسب رهانها وتعود للعب مع الكبار

مصممها دانييل لي يغوص في إرثها ورموزها ليعيد لها انتعاشها وحيويتها

تنوعت الاقتراحات والنتيجة واحدة أن دانييل لي فهم رموز «بيربري» وأتقن استعمالها (رويترز)
تنوعت الاقتراحات والنتيجة واحدة أن دانييل لي فهم رموز «بيربري» وأتقن استعمالها (رويترز)
TT

«بيربري» تكسب رهانها وتعود للعب مع الكبار

تنوعت الاقتراحات والنتيجة واحدة أن دانييل لي فهم رموز «بيربري» وأتقن استعمالها (رويترز)
تنوعت الاقتراحات والنتيجة واحدة أن دانييل لي فهم رموز «بيربري» وأتقن استعمالها (رويترز)

كل من تابع ثاني عروض المصمم دانييل لي في الأسبوع الماضي، كان شاهداً على أن دار «بيربري» كسبت رهانها عليه. تشكيلته لربيع وصيف 2024 التي قدمها ضمن أسبوع الموضة، فاحت بنكهات بريطانية تراوحت بين القوة والنعومة، لكنها بكل أشكالها وألوانها وقصاتها، أثبتت مدى صحة المثل القائل إن «أهل مكة أدرى بشعابها». فدانييل لي بريطاني حتى النخاع، وبالتالي فهم سريعاً الثقافة العميقة التي بُنيت عليها دار عمرها أكثر من قرن من الزمن، وكانت أهم نقطة جذب فيها هي «بريطانيتها».

التحق دانييل لي بالدار في وقت حرج حدده الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما عرض بريطانيا لأزمة ثقافية وفنية لا تقل حدتها عن أزمتها الاقتصادية. الحل بالنسبة له كان واضحاً يتمثل في الرفع من جُرعة الإبداع والاعتزاز بالهوية البريطانية، وذلك بإبرازها واللعب على كل ما توفر له من رموز، «فهذا واجب ومسؤولية تقع على أكتافنا جميعاً... علينا أن نُخرج الفرح والأمل من رحم الأزمات والصعوبات»، حسب ما قاله في أحد تصريحاته.

في عام 2022، عندما اختير خليفة للإيطالي ريكاردو تيشي، هللت أوساط الموضة البريطانية، واستبشر المساهمون خيراً؛ من جهة لأنه بريطاني والمفترض فيه أن يفهم الثقافة التي تأسست عليها الدار منذ أكثر من قرن من الزمن، وهو الأمر الذي راوغ فيه سلفه الإيطالي ريكاردو تيشي، ومن جهة أخرى لأن قوته في إبداع حقائب يد وصلت أصداؤها إلى كل أنحاء العالم في الفترة التي تولى فيها نفس الدور الإبداعي في دار «بوتيغا فينيتا». فمن ينسى أنه هو من جعل حقائب صغيرة الحجم باللون الأخضر بمثابة قطع مجوهرات مرصعة بالزمرد؟ هذا تحديداً ما تأمل «بيربري» في أن ينوبها منه أيضاً. فمن بين المهمات الأساسية المطلوبة منه، أن يُبدع لها إكسسوارات تؤجج الرغبة فيها، إلى جانب أزياء تلمس المشاعر. المهمة لم تكن مستحيلة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدار لم تكن في سُبات عميق بقدر ما كانت تغفو وهي تستكين إلى إرثها واسمها العريق. كل ما قام به دانييل أنه ضخها بجرعة عصرية أعادت إليها حيويتها وانتعاشها.

المعطف الواقي من المطر ظهر بعدة أشكال وألوان (أ.ف.ب)

وهذا ما ظهر جلياً في التشكيلة التي قدمها في الأسبوع الماضي. لم يوظّف فيها كل الرموز التقليدية المألوفة فحسب، بل أبرز أخرى ظلت مُغيّبة طويلاً ولم ينتبه لها أحد في السابق.

فإلى جانب المعطف الواقي من المطر، الذي أبدع فيه أشكالاً جديدة، منها تغييره مكان الحزام بأن جعله أكثر انخفاضاً عن مستوى الخصر، استكشف جانباً أنثوياً لم يكن بنفس الوضوح من قبل. فتصاميم الدار ارتبطت بالجانب الذكوري أكثر، باستعمالها أقمشة مثل الغاباردين والجلد وما شابهه من أقمشة قوية تناسب النزهات في الهواء الطلق أو الأيام العادية، لكن في تشكيلته لربيع وصيف 2024، تراقصت الفساتين بانسيابية وشاعرية على أقمشة أكثر ترفاً ونعومة مثل الحرير.

ظهرت في العرض مجموعة مفعمة بالأنوثة للمناسبات (أ.ب)

المفاجأة الأخرى والجديدة التي قدمها لنا المصمم هنا هي درجة متوهجة من اللون الأزرق، اكتشفه بمحض الصدفة وهو يغوص في أرشيف الدار. تبين له أن جذوره قوية وأنه ظهر في الثمانينات في نسخة من شعار الدار. ما إن التقطته عيناه حتى تحرك حسه الفني والتجاري. وليس ببعيد أن يُحوّله إلى ورقة «بيربري» الرابحة، تماماً مثلما حول الأخضر إلى ورقة رابحة في دار «بوتيغا فينيتا».

اللون الأزرق كان مفاجأة للمصمم عندما اكتشفه في شعار يعود إلى الثمانينات (خاص)

ما أكده دانييل لي، البالغ من العمر 37 عاماً، أو ما يُحسب إليه، أنه ينتمي إلى شريحة من المصممين تتوق إلى التميز وتحقيق النجاح، وفي الوقت ذاته تحترم التقاليد الحرفية والموروثات الفنية. وهذا يعني أن المستقبل بالنسبة لها لا يكتمل بتجاهل الماضي كلياً. يُحسب له أيضاً أنه من جيل واقعي جسّ نبض الشارع، وأدرك أن زبون اليوم يريد قطعاً لها قصة مثيرة تتعدى القصّات المبتكرة وحدها. وهذا قد يعني قطعة واحدة لها جذور تاريخية يلعب عليها، أو إكسسواراً لافتاً يمكن أن يفتح الشهية لأحاديث شائقة، وفي الوقت ذاته يحقق أعلى المبيعات. هذه الواقعية التي تتمثل في جمعه الفني بالتجاري، كانت أهم ميزة رجّحت كفته عندما كانت «بيربري» تبحث عن خليفة لمصممها السابق ريكاردو تيشي. فالدار البريطانية، مثل غيرها، تعرف أن الأزياء لها تأثير بصري مهم يُحرك الحس الجمالي، لكن الإكسسوارات هي أكثر ما يُحرك المبيعات، إلى حد أن نجاح المصمم في العقود الأخيرة أصبح يقاس بمدى نجاحه في ابتكار حقيبة يد أو حذاء. فقطعة واحدة «تضرب» وتكسر المبيعات يمكن أن تغير مستقبله وأحوال السوق بكاملها.

المعطف الواقي من المطر بحزام منخفض على مستوى الخصر (رويترز)

وهذا ما جسّده دانييل لي في هذه التشكيلة التي بناها من القدمين إلى أعلى؛ إذ لم يكتفِ بالحقائب فيها، بل ركّز أيضاً على الأحذية. تميّزت بتفاصيل مبتكرة للغاية، ربما لقناعته بأن المرأة لا تكتفي بحذاء واحد، وربما لأن هذا الإكسسوار صفحة بيضاء يمكنه رسمها بالشكل الذي يراه من دون تعرضه لأي مقارنة مع من سبقوه. والنتيجة أن بعض تصاميمها سرقت الأضواء فعلاً من الأزياء، سواء كانت بتصميم أنثوي ناعم تناغم مع فستان من الحرير للمناسبات، أو بتصميم عملي يراعي تقلبات الطقس تم تنسيقه مع معطف من الغاباردين. المهم أن المصمم، ضمن كل هذه الحبكة السردية والبصرية التي نسجها، لم ينسَ أن الدار ترتبط بالخارج وبأنشطة متنوعة تقام في الهواء الطلق.

كان هناك توجّه جديد مفعم بالأنوثة والتفاؤل في العرض (أ.ف.ب)

لهذا لم يكن غريباً أن يختار حدائق «هايبوري» بمنطقة «إيسلنغتون» الواقعة شمال لندن مكاناً لعرضه، وإن كان هناك سبب آخر وشخصي أيضاً. فدانييل، كما صرّح، يقطن في هذه المنطقة وأراد أن يُعرّف جمهوراً أكبر عما تتوفر عليه من أماكن وروح بريطانية بحتة. في هذه الحديقة نصب خيمة ضخمة من قماش مطبوع بمربعات الدار الشهيرة. بجوارها نصب خيمة أصغر خصصها لراحة النجوم بعيداً عن عيون الفضوليين قبل دخولهم مكان العرض. كاد عددهم يضاهي عدد الحضور من نجوم موسيقى وسينما ورياضة، ومع ذلك لم يسرقوا الأضواء من التصاميم.

كانت المغنية كايلي مينوغ من بين الحضور وظهرت بمعطف من الجلد بتوقيع الدار (أ.ب)

فما إن بدأ العرض، حتى خفّ بريقهم وانتقل إلى الأزياء والإكسسوارات، ليُذكرنا بأمجاد دار قائمة على بيع الثقافة البريطانية واستقطاب الملوك والنجوم. كانت تشكيلة مفعمة بالتفاؤل والأمل تؤذن بعودة «بيربري» إلى اللعب مع الكبار بطبعاتها الأيقونية واللوغو الذي يجسد فارساً مغواراً وهو يمتطي جواده. وبينما قد يعتب البعض بأن أسعار منتجات الدار ارتفعت عما كانت عليه سابقاً، فإن نظرة واحدة لما تم تقديمه ضمن أسبوع لندن للموضة، تُبررها. قد يأخذ عليها البعض أيضاً أنها تجارية، وحتى هذا المأخذ يمكن الرد عليه بأنها ربما تكون كذلك، إلا أنها لا تفتقد الأناقة والجمال.


مقالات ذات صلة

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

لمسات الموضة صورة أرشيفية لهادي سليمان تعود إلى عام 2019 (أ.ف.ب)

​هادي سليمان يغادر «سيلين» ومايكل رايدر مديرها الإبداعي الجديد

أعلنت دار «سيلين» اليوم خبر مغادرة مديرها الإبداعي هادي سليمان بعد ست سنوات. لم يفاجئ الخبر أحداً، فإشاعات قوية كانت تدور في أوساط الموضة منذ مدة مفادها أنه…

لمسات الموضة حافظ أسبوع باريس على مكانته بثقة رغم أنه لم ينج تماماً من تبعات الأزمة الاقتصادية (لويفي)

الإبداع... فن أم صناعة؟

الكثير من المصممين في موقف لا يُحسدون عليه، يستنزفون طاقاتهم في محاولة قراءة أفكار المسؤولين والمستهلكين، مضحين بأفكارهم من أجل البقاء.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

تشعر أحياناً أن مصمميه يتلذذون بالأزمات ويستمدون منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40 مؤكداً أن الأزمات لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اكتسب الريش هذه المرة مرونة وديناميكية شبابية (آسبري لندن)

الأميرة نورة الفيصل تضخ «آسبري لندن» بالحيوية

تأمل «آسبري» أن تحقق لها هذه المجوهرات نفس النجاح المبهر الذي حققته كبسولة الحقائب في العام الماضي. كانت الأسرع مبيعاً في تاريخها الممتد لأكثر من 200 عام.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

يجمع الأناقة بروح بوهيمية، لكن للأسف لا يناسب الكل؛ لهذا يحتاج إلى بعض الحيل كي تتمكن صغيرات الحجم تحديداً من الاستمتاع به، مثلهن مثل عارضات الأزياء.

جميلة حلفيشي (لندن)

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
TT

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

هل كان يكفي الحضور المكثف للنجوم والمشاهير من أمثال عرّابة الموضة أنا وينتور، والمغني هاري ستايلز، والمغنية تشارلي إكس سي إكس، والعارضة المخضرمة جيري هول، أن يعيد لأسبوع لندن بريقه، أو يُنقذه من الركود الذي يعاني منه منذ عدة مواسم؟ الجواب وبكل بساطة أن أسبوع لندن كان ولا يزال يعتمد على نفسه. لربيع وصيف 2025 الأسبوع الماضي أكد مرة أخرى أن قوته تكمن في أبنائه وروحهم المتمردة أولاً وأخيراً.

مجموعة كبيرة من المشاهير تتوسطهم أنا وينتور حضروا أسبوع لندن بشكل مكثف (أ.ف.ب)

لا يختلف أي متابع على أن أسبوع لندن يمر منذ فترة بمرحلة عصيبة جعلته باهتاً وبارداً مقارنة بغيره. أسابيع الموضة العالمية الأخرى؛ باريس وميلانو ونيويورك، استطاعت أن تتخطى الأزمة الاقتصادية العالمية بخطوات أسرع منه. أما هو، فظل يتخبط بين شح الإمكانات وتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

حتى دار «بيربري» التي كانت تُزوِّده بما يكفي من شحنات قوة وبريق، تشهد حالياً تراجعاً كبيراً في المبيعات والإيرادات، ورغم التحاق المصمم دانييل لي بها، وكل الآمال التي عُقدت عليه ليرتقي بها إلى مصاف الكبار، برفع أسعار منتجاتها، لم يحقق الأهداف المطلوبة منه؛ ليس لأنه يفتقد الإبداع، بل فقط لأن التوقيت ليس في صالحه، إضافة إلى أن استراتيجية رفع الأسعار لم تخدمه. المشكلة أن الدار تناست أن قوتها تكمن في مخاطبتها الطبقات المتوسطة المتعطشة لدخول نادي الأناقة.

في عرض «بيربري» عاد المصمم دانييل لي إلى البدايات ولعب على وظيفية الأزياء بلغة عصرية (بيربري)

استدركت الدار الموقف. ولأن المصمم دانييل لي مشهود له بالموهبة والإبداع، وجّهت انتباهها إلى الجانبين التسويقي والإداري؛ إذ عيّنت جاشوا شولمان رئيساً تنفيذياً جديداً لها، على أمل أن يُحقق لها ما حققه في دار «كوتش» التي عمل فيها رئيساً تنفيذياً، ولا سيما أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين العلامتين. عرض الدار لربيع وصيف 2025، والذي أقيم في آخر يوم من أيام الأسبوع اللندني، أعطى إشارات قوية بالاتجاه الجديد. كانت الأزياء والأكسسوارات بنكهة تجارية، وفي الوقت ذاته عملية بالمعنى الوظيفي، تستحضر بدايات الدار. لكن دانييل لي أضفى عليها لمساته العصرية لتخاطب شريحة الشباب، من خلال القصات والتفاصيل، مثل السحابات التي ظهرت في أجزاء كثيرة والجيوب المتعددة التي لم يكتفِ بها المصمم في السترات والمعاطف، بل شملت البنطلونات التي امتدت فيها إلى أسفل الساق لتصل إلى الكاحل.

جنوح مصممي لندن للغرابة وإحداث الصدمة لم يختفِ تماماً (أ.ف.ب)

لكن ما يُحسب لأسبوع لندن دائماً هو روح التحدي التي يتحلى بها ولم تفارقه في أي فترة من فتراته. تشعر أحياناً أنه يتلذذ بالأزمات ويستمد منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40. تاريخه يشهد أنه مر بعدة تذبذبات، لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً. في معرض استعادي للأسبوع، عُلّقت مقولة كتبتها محررة الأزياء كاثرين صامويل في عام 1993 تقول: «أثبت مصممو أسبوع لندن أن الشخصية البريطانية تزيد قوة في المواقف الصعبة».

اللافت أن المعرض لا يُسلط الضوء على النجاحات والإنجازات التي حققها الأسبوع بقدر ما يركّز على الأوقات الصعبة التي أثرت عليه، بدءاً من الركود في الثمانينات، إلى أحداث 11 سبتمبر (أيلول) والأزمة المالية في عام 2008، وأخيراً وليس آخراً الأزمة الحالية. فيها كلها، أكّد أن الإبداع يولد من رحم الأزمات، وأن مصمميه لا يستسيغون الهدوء أو السكينة. شارك في الأسبوع الحالي 72 مصمماً مال بعضهم للعصري بنكهة تجارية تباينت جرعاتها، وبعضهم جنح للغرابة بشكل غير آبه للتسويق؛ لأنهم يتوجهون لشريحة معينة وقليلة.

ريتشارد كوين قدم تشكيلة حالمة وفخمة كان واضحاً توجهه فيها إلى زبونات منطقة الشرق الأوسط (أ.ف.ب)

لكن غالبيتهم شحذوا ملكاتهم الإبداعية لبث التفاؤل والأمل بأن العاصفة مهما طالت ستمر بسلام. هذه الطاقة الإيجابية ظهرت في تشكيلة ريتشارد كوين في فساتين طبعتها ورود ضخمة وتصاميم تتراقص على نغمات كلاسيكية تستحضر حفلات النجوم والنخبة في ثلاثينات القرن الماضي. بفخامتها وتطريزاتها الغنية، كان واضحاً أنه يخاطب بها زبونات الشرق الأوسط. هذه الإيجابية ظهرت أيضاً في عروض روكساندا وجي دبليو أندرسون و«توغا» وإيرديم، وهلم جرا من الأسماء.

في عرض جي دبليو أندرسون، مثلاً، تجلت في تنورات قصيرة واسعة بشكل مبالغ فيه، وفساتين قصيرة يبدو بعضها وكأنه مصنوع من قماش تم تقطيعه بالتساوي بشكل مستطيل، ثم تجميعه من جديد.

لعب المصمم إيرديم على الازدواجية بين الذكوري والأنثوي بأسلوب سردي وفني جديد (إيرديم)

روح الدعابة التي سادت عرض أندرسون، غابت في تشكيلة «إيرديم». فهو بطبعه جاد يحب التاريخ ويستقي منه دائماً قصصاً ملهمة. هذه المرة ترجم رواية «بئر العزلة» (The well of Loneliness) للكاتبة رادكليف هول، بأسلوب جمع فيه التفصيل الذكوري بالتصميم الأنثوي في تداخل يحاكي الـ«هوت كوتور». فالرواية تحكي قصة امرأة عاشت كرجل طوال حياتها. تلبس ملابسه وتصممها في شارع «سافيل رو» الشهير. والطريف أن أمرها لم يُكشف حتى مماتها. رغم أنه كان من السهل وقوعه في المحظور ويقدم ترجمة حرفية، فإن إيرديم نجح في تقديم درس عن كيف يمكن أن يكتسب التفصيل الرجالي نعومة من دون أن يُرسل أي إيحاءات معينة.

لين فرنكس... الأم الروحية للأسبوع

انطلق أسبوع لندن على يد لين فرنكس، أقوى وأشهر امرأة في عالم العلاقات العامة إلى حد أنها ألهمت شخصية بطلته إيدينا مونسون التي لعبتها باقتدار الممثلة جينفر سوندرز في مسلسل «أبسولوتلي فابيلوس» (Absolutely Fabulous)، وهو واحد من المسلسلات الناجحة لحد الآن. يمكن القول إنها من أرست قواعد مهنة العلاقات العامة في بريطانيا. ولأنها كانت تمتلك وكالة تمثل مجموعة من المصممين البريطانيين وعارضات الأزياء، راودتها فكرة تأسيس منصة تستعرض مواهبهم وقدراتهم للعالم، أسوة بأسابيع نيويورك وباريس وميلانو. وهكذا وُلدت فكرة إطلاق أسبوع لندن للموضة في عام 1984. ما إن نجحت في إقناع عملائها ومعارفها لتمويله، حتى بدأت بالبحث عن مكان مناسب، وجدته في حديقة «معهد الكومنويلث» بهولاند بارك. هناك نصبت خيمة كبيرة احتضنت أول موسم لأسبوع طبعته لحد الآن جينات شبابية تميل إلى التمرد والاختلاف الصادم أحياناً. بعد ثلاث سنوات، تغير المكان إلى ما أصبح يعرف الآن بقاعة «ساتشي» بالقرب من محطة «سلوان سكوير».

كان هذا نقلة إيجابية غيّرت مصير الموضة؛ إذ وفّر المكان مساحة أكبر، وبدأ يجذب أنظار مشاهير مثل الأميرة الراحلة دايانا، والمغني بوي جورج، وحتى مادونا أنذاك، الأمر الذي شجع على دخول ممولين جدد، ومن ثم زيادة ميزانيته.

هذا النجاح تطلب مكاناً أكبر، توفر في قاعة «أولميبيا»، ودخل خريطة الموضة العالمية بشكل رسمي. بين عامي 1988 و1989، مثلاً، شهد الأسبوع أول ظهور لكل من ناعومي كامبل وكايت موس قبل أن يسطع نجمهما للعالمية.

40 عاماً من النجاحات والتذبذبات

المصمم الآيرلندي الأصل واكب أسبوع لندن منذ تأسيسه في عام 1984 (رويترز)

لم يشهد أي أسبوع التذبذبات التي شهدها أسبوع لندن ولا عزيمته على البقاء، منذ انطلاقه في عام 1984. بدأ متواضعاً لكن جامحاً بفورة الشباب. كان كل المصممين المشاركين حديثي التخرج في معاهد تعلموا فيها أن الإبداع هو الجوهر، وكل شيء سواه يجب ألا يدخل في حساباتهم مهما كان الثمن الذي سيدفعونه. وهكذا جنّدوا جموحهم الإبداعي لدعم الأسبوع.

أعطى المصمم إيرديم درساً في كيف يمكن تنعيم التفصيل الذكوري (إيرديم)

لكن هذا الصعود سرعان ما تعرض للكبوة الأولى في التسعينات بسبب الأزمة الاقتصادية. في هذه الفترة بدأت تتسلل قوى جديدة في باريس وميلانو ونيويورك، تُرجّح الجانب التجاري أكثر، الأمر الذي وضع لندن في مأزق. لم يكن لمصمميها إلمام بهذا الجانب ولا قابلية لتقبّل فكرته. كانوا متشبّعين بفكرة أن الابتكار يأتي على حساب أي شيء آخر.

تقلُّص الميزانية لم يثنِ المسؤولين عن الاستمرار. ففي عام 1993، تم إطلاق مشروع «نيو جين»، أو الجيل الجديد، لدعم المصممين الشباب الذين لا تتوفر لهم إمكانات مادية للاستمرار، وكان من أوائل من استفادوا منه مصمم جديد اسمه ألكسندر ماكوين، وبعده كثيرون مثل إيرديم وغيره. كل من أتوا بعد لين فرنكس احترموا فكرتها أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتميز بها الأسبوع عن باقي أسابيع الموضة العالمية هي احتضان الشباب. وبالفعل لا تزال العاصمة البريطانية ولّادة للنجوم لحد الآن. لا تحتضنهم وتفتح لهم أبوابها فحسب، بل تصدّرهم أيضاً إلى باريس.

ريتشارد كوين عاد إلى الثلاثينات ليستقي منها تصاميم خاصة بالحفلات والأعراس (رويترز)

لكن شتان بين أزمات الماضي وأزمة اليوم. فهي الآن أكثر تعقيداً؛ لأنها عالمية أثرت على صنّاع الموضة في كل مكان، الأمر الذي جعل المنافسة أكثر شراسة لنيل قسط من الأرباح. كل العواصم في فترة من الفترات صارعت للبقاء والنجاح، حتى من ينضوون تحت مجموعات ضخمة مثل «إل في إم إش» و«كيرينغ» و«ريشمون». الفرق أن هؤلاء لديهم الإمكانات التي تغطي أي تباطؤ في النمو أو الخسارة لسنوات، في حين أن أغلب المصممين في بريطانيا شباب مستقلون. «روكساندا» مثلاً كانت ستُعلن إفلاسها لولا تدخل مستثمرين مؤخراً.

كيف يواجه المسؤولون الأزمة؟

بعد أربعين عاماً، كان لا بد أن يستوعب المشرفون على مجلس الموضة البريطانية أن الابتكار والأفكار الجديدة لا يكفيان. كان الحل هو تبني مفهوم الاستدامة والحث على إعادة النظر في سلوكيات الاستهلاك للحد من سلبياتها، وخصوصاً أن الجيل الصاعد الذي تُعوّل عليه مستاء من فكرة أن الموضة من بين أكثر القطاعات تلويثاً للبيئة.

من هذا المنظور افتتح الأسبوع هذا الموسم، بعروض لأزياء مستعملة بالتعاون مع منصة «إي باي» و«مؤسسة أوكسفام الخيرية» وموقع بيع السلع المستعملة الليتواني «فينتد» (Vinted)، وهو ما علّقت عليه ماريان جيبلز من موقع «فينتد» بقولها إن مواجهة الأفكار المسبقة ضرورية؛ «إذ يمكن أن تكون الأزياء المستعملة أنيقة وبأسعار معقولة».

المصممة والناشطة البريطانية كاثرين هامنيت (77 عاماً) أيضاً شاركت في هذه العروض المستدامة بأحد قمصانها الشهيرة التي تحمل رسالة: «لا مزيد من ضحايا الموضة»، بعد مرور 40 عاماً على أول عرض لها خلال أسبوع الموضة في عام 1984.