إن ما يعيشه العالمُ من تقلبات سريعة، جعلت من دولة أفريقية فقيرة وهامشية مثل مالي، في قلب كثير من المعادلات التي تشغل بال صناع القرار في العالم؛ وذلك ما يلقي بكثير من الضباب على الأحداث المتسارعة التي يعيشها هذا البلد، وتكاد تعصف بمنطقة غرب أفريقيا عموماً. في مالي، ذات التاريخ العريق والتنوع العرقي والثقافي والنسيج الاجتماعي المعقد، تصعبُ قراءة الأحداث بسبب تعدد المشاهد وتناقضها؛ فالجيشُ لا يتوقف عن إعلان انتصاراتٍ مدويةً على المجموعات الإرهابية، بفضل السلاح الروسي والتركي، بينما تبثّ الجماعات الإرهابية يومياً صوراً ومقاطع فيديو لانتصاراتها على الجيش، وغنائمها من أسلحة ومعدات، وما بحوزتها من جنود أسرى.
وسط الحرب التي تدور في مالي على جبهات عدة، يُرغمُ السكان المحليون الغارقون في الفقر على الفرار من قراهم بحثاً عن مكان آمن، لتتشكل أزمة إنسانية صامتة في عدد من مخيمات اللجوء على أطراف الحدود مع موريتانيا والجزائر.
تتكرر المشاهد ذاتها تقريباً في النيجر وبوركينا فاسو، حيث تسيطر التنظيمات الإرهابية وشبكات التهريب على مناطق واسعة من البلدين، وبدأت تزحفُ نحو دول أخرى في غرب أفريقيا.
وهناك، تتقاطعُ خطوط تنافس دولي حادّ بين روسيا وأوروبا، وبين الولايات المتحدة والصين، وكذلك دول أخرى مثل الهند وتركيا تبحثُ هي الأخرى عن موطئ قدم في أرض غنية بالموارد، وعن صفقات سلاح تغذي حرباً متعددة الأطراف.
حربٌ بلا نهايات واضحة
خلال الأسبوع الماضي، قدّم «تحالف دول الساحل» (النيجر ومالي وبوركينا فاسو) عرضاً لحصيلة عمليات عسكرية مشتركة نفذها على الشريط الحدودي ضد خلايا تنظيم «داعش في الصحراء الكبرى»، وخاصة في منطقتي دوسو وتيلابيري بالنيجر. وتزامنت هذه العمليات العسكرية في النيجر، مع عمليات جوية وبرّية في موبتي ونارا داخل مالي، حيث توجد معسكرات تدريب «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التابعة لتنظيم «القاعدة»، والتي تحاول منذ أسابيع عدة فرض حصار على العاصمة المالية باماكو عبر إغلاق طرق وطنية أمام حركة شحن البضائع، وخاصة الوقود.
كانت الحصيلة الرسمية «عشرات القتلى» في صفوف الإرهابيين وتدمير مواقع لوجيستية، مقابل «خسائر بشرية محدودة» في صفوف الجيوش، وهو ما وصفته دول الساحل بأنه استمرار لما سمته «الضغط المستمر» على شبكات الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة.
بيد أن مشهد «النصر» الميداني سرعان ما يتبدد أمام «مرونة» العدو وتكتيكات الكرّ والفرّ. فمن جهة، يُعلن العسكريون فتح الطرق وإسناد قوافل شحن البضائع وصهاريج الوقود الآتية من ميناء داكار، عاصمة السنغال، ومن جهة أخرى تعيد الجماعات ترتيب صفوفها في الجغرافيا الوعرة، وتهاجم في مواقع غير متوقعة، وتنشر مقاطع فيديو للوقود المحترق والبضائع وهي متناثرة على الطريق الوطني قبل الوصول إلى باماكو.
بمرور الأيام توسّعت دائرة الاشتباك، وتحولت المعارك من الغابات والثكنات العسكرية، إلى المحاور الطرقية الرئيسة. وهذا تحول استراتيجي سرعان ما أسفر عن نقص وقود حاد في باماكو، وتزايد الطوابير أمام المحطات، وارتفاع الغضب الشعبي، وهكذا بدأت هجمات «القاعدة» تصيب هدفها بزعزعة يقين الشارع وثقته في الجيش.
اليوم هدف المعركة حسم هوية المسيطر على «الطريق»، وهذا انعكاس لمشهد أكبر يتمثل «حرب الممرّات الاستراتيجية» في منطقة غرب أفريقيا، حيث يحتدم الصراع لتأمين المواني وسلاسل الإمداد بالمعادن.
صراع عالمي
واقع الأمر، أنه يستحيل فصل ما يجري في منطقة الساحل، عن «حرب كبرى» على النفوذ في العالم. إذ كتب عالم الاجتماع فرنسوا بوليه أنّ القارة الأفريقية انتقلت من هامشيةٍ طويلة إلى قلب منافسةٍ جيوسياسية تستهدف النفوذ الدبلوماسي والموارد والأسواق، وأنّ «حرب الممرات الاستراتيجية» باتت عنواناً لسباق تأمين سلاسل الإمداد بالمعادن النادرة بين الصين ومشروعها الضخم «الحزام والطريق»، وأوروبا بمشروعها الخاص «البوابة العالمية» Global Gateway، والولايات المتحدة التي غيرت سياساتها تجاه القارة وباتت تعملُ تحت ظل إدارة دونالد ترمب بمنطق «صفقات ثنائية مشروطة»، وروسيا التي دخلت القارة وهي تحملُ معها «صفقات سلاح غير مشروطة».
بوليه رأى في مقال نشره هذا الأسبوع، أن محرّك كل هذه الصراعات قد يكون - بنسبة كبيرة - دخول العالم في مرحلة «تحول طاقوي» يحتاج إلى الكوبالت والنيكل والليثيوم أكثر مما يحتاج إلى الشعارات. وهذه معادن توجد بوفرة في أرض أفريقيا المكسوَّة بالفقر والجهل والمرض، وتحكمها، غالباً، أنظمة فاسدة وغير ديمقراطية.
هذه «الاندفاعة الجديدة» نحو أفريقيا - وفق بوليه - تحمل في آنٍ واحد فرصاً ومخاطر: قد تُسهم في «تعزيز مكانة القارة»، لكنها قد تعيد أيضاً إنتاج تبعياتٍ جديدة ما لم تُترجم إلى اندماجٍ قاريٍّ وقيمةٍ مضافة محلية.
على الأرض، تتلاقى خطوط النزاعات المحلية مع حسابات العواصم البعيدة، حيث إنَّ كلَّ عمليةٍ عسكرية ضد رتلٍ من الدراجات النارية في تخوم محافظة تيلابيري بالنيجر، تتجاوب في مكانٍ ما مع اجتماع خبراء سلاسل توريد المعادن في موسكو أو بكين أو واشنطن. وكلُّ خليةٍ نائمة تُستهدف في موبتي (مالي)، قد ترتبطُ بما يجري على طاولة صفقات المواني والممرات والسكك الحديدية الممتدة بين الأطلسي والهندي.
منابر إعلامية أوروبية وفرنكوفونية لطالما احتكرت «سردية أفريقيا» تواجه
اليوم منافسة قوية من قنوات روسية وصينية وتركية وإيرانية
الصعود الروسي
منذ سنواتٍ، تتقدّم روسيا كلاعبٍ أمنيٍّ «سريع الاستجابة» لسد فراغٍ خلّفه إخفاقٌ فرنسيٌّ كبير وغير مسبوق في إقناع الرأي العام المحلي بفاعلية التدخلات العسكرية الفرنسية، رغم تكلفتها الباهظة، التي وصلت خلال عشر سنوات (2013 - 2023) إلى قرابة مليار يورو سنوياً.
وهنا، يلفت فرنسوا بوليه، إلى أنّ «انجذاب» مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى الفلك الروسي يشكّل أكبر اختراقٍ دبلوماسي لموسكو على حساب باريس. وهو اختراق جاء نتيجةً مباشرةً لتعثّر «الحرب على الإرهاب» بقيادة فرنسا في منطقة الساحل، وتآكل شعبية الوجود العسكري الفرنسي، الذي لعبت عليه آلة إعلامية قوية غذّت مشاعر الغضب في الشارع، والرغبة المتزايدة في «السيادة»، وإنهاء إرث طويل من «الاستعمار».
إلى جانب ذلك، راكمت موسكو اتفاقات تسليحٍ وتدريبٍ وتعاونٍ أمني، واستخدمت «بطاقة سوريا» لتسويق خبراتها العسكرية والأمنية لعدد من الدول الأفريقية، مع تفويضِ جزءٍ من التنفيذ إلى تشكيلات شبه رسمية، مثل مجموعة «فاغنر» في البداية، ثم «فيلق أفريقيا» أخيراً. إلا أن عالم الاجتماع الفرنسي يحذّر من المبالغة في تقدير النفوذ الروسي بالنظر إلى هشاشة الروابط الاقتصادية بين روسيا وأفريقيا، وخشية العواصم الأفريقية من خسارة التمويل الغربي الكبير، الذي يمثل جزءاً مهماً من الموارد التي لا يبدو أن هذه الدول - الغارقة في الأزمات الاقتصادية - مستعدة للاستغناء عنه.
أما أوروبا، فتسعى إلى تعويض التراجعين العسكري والدبلوماسي في أفريقيا، عبر ضخّ استثماراتٍ في البنية التحتية والترويج لقيم «سيادة القانون» و«حقوق الإنسان»، لكنّ هذا الخطاب يصطدم بوقائع سياسات الهجرة ودعم أنظمةٍ استبدادية على الأرض.
والمفارقة هنا، أنّ منابر إعلامية أوروبية وفرنكوفونية لطالما احتكرت «سردية أفريقيا»، تواجه اليوم منافسة قوية من قنوات روسية وصينية وتركية وإيرانية، تُخاطب الجمهور بلغاته المحلية وبخطاب «مناهِض للغرب»، مع توجه واضح نحو برامج تدريب للصحافيين وتمويلٍ شبكي للمؤثرين؛ ما ساهمَ في تعزيز كراهية الغرب في الشارع الأفريقي.
ترمب... الصفقات أولاً
على الضفة الأخرى من الأطلسي، تتبدّل الأدوات الأميركية لترسم ملامح نمط جديد من العلاقات مع القارة الأفريقية، وخاصة دول غرب أفريقيا.
إذ في زمن «أميركا أولاً»، تمضي إدارة ترمب في «إعادة تنظيمٍ هيكلية» لدبلوماسيتها، متراجعةً عن بعض أدوات «القوة الناعمة»، مثل «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي شكَّل إغلاقها صدمة كبيرة لعدد من دول القارة الأفريقية.
ترمب فضَّل مقاربة جديدة تقوم على «الصفقات»، وعقد اتفاقيات ثنائية تضمنُ في النهاية وصول الشركات الأميركية إلى المعادن النادرة، ومشاريع ممراتٍ ولوجيستياتٍ، كمشروع ربط «حزام النحاس» في الكونغو الديمقراطية بميناء لوبيتو في أنغولا؛ بهدف منافسة المشاريع الصينية العملاقة في المنطقة.
هُنا يشير بوليه إلى أن استراتيجية ترمب «تراهن على تموضعٍ جديد في حرب الممرات»، ولكنه يشير إلى أن هذه الاستراتيجية تُكملها في مواضع أخرى «خطط تعاونٍ استخباري وتدريبٍ وتسليحٍ مشروط مع عواصم الساحل».
حقاً، «الواشنطن بوست» ذكرت قبل أيامٍ أنّ واشنطن كثّفت أخيراً تعاونها الاستخباري مع حكومة مالي، رغم أن الأخيرة أصبحت محسوبة بشكل لا جدال فيه على روسيا، وذكرت الصحيفة أن وفداً أميركياً برئاسة مسؤول مكافحة الإرهاب رودي عطا الله، زار باماكو وأكد جهوزية واشنطن لتقديم المعلومات والتدريب والعتاد.
للعلم، مالي واحدة من أغنى دول أفريقيا بالذهب، مع مؤشرات على وجود احتياطي غير مستغل من النفط والغاز واليورانيوم والمعادن النادرة. وهذه ثروات لن يتركها الأميركيون بسهولة لروسيا والصين، ولكن ما يحاوله الأميركيون إعادة تعريف «الثمن السياسي» للصفقات على شكل «شراكات أمنية مقابل اصطفافاتٍ في محافل دولية أو تسهيلاتٍ في سلاسل توريد المعادن والسلع».
حلبة حقيقية
لكن الصراع في غرب أفريقيا والساحل لا يقتصر على الأوروبيين والأميركيين والروس والصينيين، بل ثمة قوى صاعدة أصبح لها حضور لافت، ودخلت الحلبة بقوة، محاولة إيجاد مكانة لها وسط الكبار، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي أصبحت من أكبر المستثمرين في القارة، وتنافس بقوة الاستثمارات الصينية.
تركيا أيضاً وسّعت اتفاقياتها العسكرية وصفقاتها الدفاعية في القارة، وتلقى طائراتها المسيّرة رواجاً كبيراً بين الدول الأفريقية، وخاصة دول الساحل التي صارت تعتبرها سلاحاً لا يُستغنى عنه في مواجهة الإرهاب.
ثم هناك الهند التي تفاخر بإدماج الاتحاد الأفريقي في «مجموعة العشرين» إبّان رئاستها، وتقدم نفسها على أنها ثاني أكبر شريك تجاري لأفريقيا، متقدمة على الولايات المتحدة وفرنسا، وتسعى لموازنة النفوذ الصيني، الغريم التقليدي.
وأخيراً ظهر دور أوكراني - لا يزالُ ضعيفاً، لكنه بدأ يلفتُ الانتباه - تلعبه سفارات عدة في بعض العواصم الأفريقية، كشفت التقارير عن علاقات تربطها بأطراف مسلحة، وخاصة المتمردين الطوارق في مالي، حصلت على أسلحة وتدريب ومعلومات استخباراتية استخدمتها ضد القوات الروسية والجيش المالي.
ورغم ضعف إمكانيات أوكرانيا، حاولت كييف استخدام «سلاح الغذاء» ومواجهة نفوذ موسكو في أفريقيا بمخازن الحبوب وسط أزمة غذاء تهدد مناطق واسعة من القارة، حيث التقى نائب وزير الاقتصاد الأوكراني دينيس باتشليك وفداً من «برنامج الأغذية العالمي» وناقش معه مبادرة «حبوب من أوكرانيا». كان في صلب النقاش موضوع توسيع المبادرة لتشمل دولاً أفريقية جديدة، وهي التي تشملُ حتى الآن 18 دولة أغلبها في أفريقيا، حصلت على منتجاتٍ أوكرانية تتجاوز الحبوب إلى الزيت والدقيق.
الرسالة السياسية هنا صريحة. فكييف الغارقة في حربها تبحث عن «نافذة نفوذٍ إيجابي» في أفريقيا، عبر دبلوماسية الغذاء ونزع الألغام وتثبيت حضورٍ في ملفٍ حساسٍ للشارع الأفريقي، المشكك بنيّات المجتمع الدولي.
تعدد الشركاء
وبينما يحتدم الاصطفاف، وتبدو الحدود واضحة بين المعسكرين «الشرقي» والغربي»، تحاولُ بعض العواصم الأفريقية أن تجد صيغةً وسطاً، من خلال «تعدد الشراكات»، وتحاشي حصر نفسها في «صف واحد»، وهو ما يعتقدُ الخبراء أنه «توجه ذكي» في ظل انفتاح السوق الأفريقية على عروضٍ متباينة من أوروبا، والولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وتركيا، والهند، والإمارات واليابان، ومجيء هذه العروض في الوقت ذاته «يمنح القادة الأفارقة هوامش مناورةٍ أوسع لإعادة التفاوض على شروط العلاقة مع العالم».
ولكن هامش المناورة والرغبة في الاقتناص من الجميع، قد يصبح في أي لحظة «فخاً خطيراً»، فيتحول شعار «تنويع الشركاء» إلى «تبعية متعددة»، حيث يذهب الخبير الجنوب أفريقي باتريك بوند إلى أبعد من ذلك حين يقول إن حتى المشاريع التي تقترحُ نظاماً عالمياً جديداً أكثر عدالة لم تكن تجسد العدالة التي تتطلع لها القارة. وضرب الخبير الجنوب أفريقي المثال بمشروع «البريكس» الذي قال إن «بعض مشاريعه في مجال البنية التحتية ليست من أجل أفريقيا، بل هي مشاريع لتسريع استخراج الموارد لصالح شركات الدول المُمَوِّلة».


