تيم والز «ابن الريف الأميركي» يبحث عن تحالف جديد للديمقراطيين

هاريس اختارت «نائباً» يحتاجه حزبها منذ عقود

TT

تيم والز «ابن الريف الأميركي» يبحث عن تحالف جديد للديمقراطيين

المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)
المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)

حين ترشح تيم والز لمجلس النواب الأميركي في عام 2006، حقق مدرس الثانوية الوافد الجديد إلى عالم السياسة، بشهرة محدودة وموارد مالية ضعيفة، مفاجأة مدوية: هزم منافسيه المخضرمين في الحزب الديمقراطي، قبل أن يطيح النائب الجمهوري جيل جوتكنيخت الذي شغل المقعد لست فترات.

باختياره مرشحاً لمنصب نائب الرئيس مع كامالا هاريس، يأمل الديمقراطيون بتكرار شيء من تجربة والز التي قامت على حملة متجذرة في ارتباطها العميق بمجتمعات الريف الأميركي، ودعم المتطوعين، والحملات المكثفة من باب إلى باب.

كما يراهنون عليه للحفاظ على الزخم الذي اكتسبوه منذ انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، فبجانب قدرات الرجل الخطابية وشخصيته المحبّبة، قد تلعب جذوره المتواضعة نسبياً دوراً في تمكين الديمقراطيين من كسب أصوات بعض الولايات المتأرجحة، ولا سيما ولايات ما يسمى اليوم «الجدار الأزرق»، بل قد تكون مؤشراً على تحوّلات كبيرة داخل الحزب الديمقراطي.

المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس تيم والز يصعد إلى المسرح للتحدث ضمن المؤتمر الوطني الديمقراطي (إ.ب.أ)

ولد تيموثي (تيم) جيمس والز عام 1964، في بلدة ويست بوينت بولاية نبراسكا، ونشأ فيها على المذهب الكاثوليكي. وهو من عائلة تتحدر من أصول ألمانية وسويدية وآيرلندية. الأم فيها دارلين روز ريمان سيدة منزل، أما الأب جيمس والز فكان مدرّساً ومدير مدرسة، ومحارباً قديماً في الجيش الأميركي، خدم إبان الحرب الكورية. وفي عام 1867، هاجر جدّ والز الأكبر، سيباستيان، من كوبنهايم في دوقية بادن الكبرى بألمانيا، إلى الولايات المتحدة، وكانت إحدى جداته سويدية، وله جدة أخرى آيرلندية.

بعد المدرسة الثانوية، خدم تيم والز في الحرس الوطني للجيش لمدة 24 سنة، درس خلالها لفترة في جامعة هيوستن بولاية تكساس، وعمل في أحد المصانع. ولاحقاً، تخرّج في كلية تشادرون ستيت، وهي كلية جامعية صغيرة في ريف ولاية نبراسكا، قبل أن ينتقل إلى ولاية مينيسوتا عام 1996. وقبل الترشح للكونغرس، عمل مدرّساً لمادة الدراسات الاجتماعية بإحدى المدارس الثانوية ومدرباً لكرة القدم.

عام 2006، قرّر والز الترشح لعضوية مجلس النواب الأميركي، بعد إبعاده هو وبعض الطلاب عن إحدى فعاليات حملة جورج بوش «الابن» عام 2004، بمجرد اكتشاف المنظّمين أنهم ديمقراطيون. وبالفعل، فاز يومها عن دائرة الكونغرس الأولى في مينيسوتا، متغلباً على منافس جمهوري شغل المنصب لـ6 فترات. ثم أعيد انتخاب والز لمجلس النواب 5 مرات قبل انتخابه حاكماً لمينيسوتا عام 2018، وثانية عام 2022.

طاقة جديدة

عموماً يندر أن يغيّر المرشحون لمنصب نائب الرئيس معادلات المعركة الرئاسية بشكل جذري. لكن والز، منذ اليوم الأول لاختياره، بدا أنه يمنح الديمقراطيين دفعة جديدة من الطاقة. وهذا ما أظهرته ردود الفعل بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، حين حصدت منشوراته على منصة «تيك توك»، خلال ساعات من اختياره، أكثر من 43 مليون مشاهدة، جاءت نسبة 69 في المائة منها من مقاطع فيديو أنتجها منشئو محتوى «تقدميون» و28 في المائة جاءت من منشئي محتوى مستقلين سياسياً، وفقاً لشركة «كريدو آي كيو» المتخصصة في تحليل وسائل التواصل الاجتماعي.

هاريس ووالز في فعالية انتخابية بويسكونسن يوم 7 أغسطس (رويترز)

وبين ليلة وضحاها، تحوّل والز من شخصية «مغمورة» إلى اسم مألوف... في ظاهرة شبّهها البعض بجائحة «فيروسية».

يقول البعض إن الديمقراطيين، لعقود من الزمن، كانوا - كما يبدو - بحاجة إلى شخص مثل والز يستطيع التأكيد عملياً أن الطبقة العاملة البيضاء في الريف ليست كتلة واحدة. يضاف إلى ذلك تبيان أن وسط هذه الطبقة توجد أقلية كبيرة من العقلاء الذين يظلون، حتى في ظروفهم الاقتصادية الضعيفة، رافضين التأثر بالمحرّضين الذين يلقون باللوم على المهاجرين... بينما يجمعون ثروات الشركات.

شراكة سياسية جديدة

حقاً، عدّ كثيرون اختيار هاريس لوالز مراجعة «عميقة» أجراها الديمقراطيون بهدف تشكيل شراكة جديدة سترسم مسيرة الحزب الديمقراطي، ليس لانتخابات 2024 فقط، بل ربما مستقبله أيضاً.

فخلال العقود الأخيرة، لم يحظ الحزب الديمقراطي بجاذبية مباشرة عند الطبقة العاملة الريفية البيضاء، وغالباً ما شدّد مرشحوه على أنهم يمثلون مصالح «الطبقة الوسطى» التي تتمركز في المدن والمناطق الساحلية. إذ كانوا بالكاد يتطرقون إلى أبناء «الطبقة العاملة» المقيمين في الضواحي والأرياف وما يعانونه، جرّاء التحولات التكنولوجية والاقتصادية والإنتاجية، التي دفعت بهم إلى «الفقر».

في المقابل، منذ ذلك الوقت، ومع تحوّل هذه الطبقة إلى أهم كتلة سكانية «متأرجحة»، عمل الجمهوريون على استمالتها عبر خطاب شعبوي تجييشي، مستغلّين ظروفها الاقتصادية الصعبة، لقلب ما كان يسمى «ولايات الجدار الأزرق» - أو «ولايات الصدأ» – وانتزاع أصواتها من الديمقراطيين.

كامالا هاريس وتيم والز في أريزونا (أ.ف.ب)

وبالفعل، عندما صعد والز مع هاريس إلى منصة الحملة الانتخابية في بنسلفانيا، إحدى ولايات الجدار الأزرق، كانت المرة الأولى منذ زمن بعيد التي يتكلّم فيها سياسي ديمقراطي قيادي عن الطبقة العاملة والفقر في البلاد. وكان واضحاً أنه لا يريد إضاعة الفرصة في استغلال جذوره الطبقية والاجتماعية، لتقديم صورة جديدة عن التحالف الذي يطمع الديمقراطيون اليوم ببنائه.

بين الريف والمدينة

لقد بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً. فوالز كان من الديمقراطيين القلائل الذين انتقدوا الحزب بصدق وصراحة عندما وصفه إبان فترة عضويته في مجلس النواب الأميركي بأنه بات «حزب المدن والساحل».

وبالتالي، تظهر هاريس الآن كأنها، وحزبها، تردّ من جهة اليسار على الحزب الجمهوري الذي انزاح أكثر نحو اليمين، آيديولوجياً واجتماعياً وعرقياً، وعبّر عنه جزئياً في مؤتمره الوطني، حين اختار إلى جانب دونالد ترمب، نائبه جي دي فانس، الآتي من أصول لا تختلف كثيراً عن أصول والز. فهاريس أرادت والز إلى جانبها كشخص من ولاية زراعية في الغرب الأوسط، يستطيع أن يتكلم بثقة وأصالة عن الحقائق التي تعتقد أن ترمب ونائبه فانس لن يتكلّما عنها.

الديمقراطيون يرون أن أميركا الريفية الحقيقية متنوعة، على الرغم من كل العنصرية الصاخبة وكراهية المثلية الجنسية والشوفينية التي يتّسم بها الحزب الجمهوري اليوم، والتي بفضلها هيمن على الانتخابات خارج المناطق الحضرية.

كذلك يؤمن الديمقراطيون بأن أرياف البلاد مليئة بالمهاجرين والملوّنين والمثليين والمتحولين جنسياً والسكان الأصليين، حتى المغايرين جنسياً، الذين يعيشون مع البيض، ويعملون معاً بسعادة.

واستطراداً يعدّون أن الحقوق الإنجابية، وتشريع الماريغوانا القانونية، والمدارس العامة، والإجازات الطبية والعائلية مدفوعة الأجر، والتحقق من خلفية شراء الأسلحة، تحظى بدعم كثير من الناخبين عبر الخطوط الحزبية، حتى الأرياف التي تصوت للجمهوريين، وأن للمزارعين ومربّي الماشية ومشرفي الأراضي مصلحة حاسمة في معالجة تغير المناخ، ولو لم يستخدموا اللغة ذاتها التي يستخدمها الناشطون في مجال البيئة.

سجلّ محفّز للديمقراطيين

أيضاً يرى العديد من المشرّعين الديمقراطيين أن كل ما يجسّده سجل والز منذ بدأ حياته السياسية، يمثّل توازناً يمكن أن يساعد ويعزز جاذبية الحزب. إذ صوّت في مجلس النواب بشكل دائم، كديمقراطي معتدل، ثم بصفته حاكم ولاية وقّع على مشاريع القوانين التقدمية لتصبح قانوناً.

كامالا هاريس ووالز في ميشيغان (إ.ب.أ)

ومع أن والز يقتني السلاح، لكنه شدد على أن سكان ولايته - التي يحكمها منذ عام 2019 - يؤمنون أيضاً بـ«قوانين خفض العنف المسلح ذات المنطق السليم». موضحاً: «أنا محارب قديم، وصياد، وأمتلك السلاح. لكنني أيضاً أب، ولسنوات طويلة كنت مُدرِّساً. أعرف أن قواعد السلامة الأساسية المرتبطة باستخدام السلاح ليست تهديداً لحقوقي، فالأمر مرتبط بالحفاظ على سلامة أطفالنا».

ثم إن والز عمل ضمن تحالف من الحزبين، على تمرير تفويضات لمساعدة المزارعين، وعلى ضمان احتفاظ أعضاء الحرس الوطني برعايتهم الصحية عند الاستجابة لحالات الطوارئ في الولاية، رداً على الحملة التي شنت ضده بعد الاحتجاجات التي اندلعت عندما قتل شرطي أبيض الرجل الأسود جورج فلويد.

نصير للفقراء

أكثر من هذا، مرّر والز تشريعات واسعة النطاق، أثارت حماسة الديمقراطيين وغضب الجمهوريين، حين وقّع على قانون حماية الإجهاض، وأكبر ائتمان ضريبي للأطفال في البلاد، ووجبة إفطار وغداء مجانية في مدارس معينة، وإجازة عائلية وطبية مدفوعة الأجر «التي لا يستطيع أي فقير أن يرفضها». كما وقّع على أمر تنفيذي يحمي رعاية التحوّل بين الجنسين.

وفي هذا الصدد، عدّد ديمقراطيون، عملوا سابقاً معه، كياسته ودرايته وذكاءه الحاد بين الأسباب التي تسهّل تواصله مع الناس عبر الخطوط الحزبية. وسرعان ما أثبت ذلك فعلياً، بعد تكراره وصف الرئيس السابق دونالد ترمب وزميله في البطاقة الجمهورية فانس بأنهما أناس «غريبو الأطوار»، ليتحول الوصف إلى اتجاه (ترند) ينتقدهما بوصفهما لا يمثلان القيم الأميركية.

وهكذا، من نافل القول إن اختيار والز أدى إلى إنعاش آمال الديمقراطيين في التمسك بساحات معركة «الجدار الأزرق» الحاسمة والمناطق المتأرجحة، أي ولايات مينيسوتا وويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا. وعبر تمتعه وهاريس بتأييد كاسح من التيار اليساري في الحزب ربما ضمنا ألا تتكرر هزيمة هيلاري كلينتون عام 2016، التي تُعزى إلى إحجام ناخبيه، وخصوصاً الشباب منهم، عن تأييدها.

وهذا ما يراه السيناتور «التقدمي» بيرني ساندرز الذي قال: «أعتقد أن الديمقراطيين كانوا ضعفاء للغاية في أرياف ولاية بنسلفانيا وفي جميع أنحاء هذا البلد. وأعتقد أن والز سيكون رصيداً حقيقياً آتياً من ولاية ريفية للفوز بالدعم الذي تحتاجه في بنسلفانيا وفي جميع أنحاء الغرب الأوسط وأجزاء أخرى من البلاد».

وللعلم، مع أن مينيسوتا، موطن فالز، لم تصوّت للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية منذ عام 1972، فاز ترمب بمقاطعات ريفية فيها، وبولايات ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا عام 2016، التي تعد مهمة لانتصار هاريس بعد أن قلبها بايدن في 2020.

السياسة الخارجية

يعد تيم والز يعد من أنصار ما يطلق عليه «المعسكر الواقعي» في السياسة الخارجية، وهو يدعم التعاون العالمي، وبخاصة مع الشركاء الأوروبيين، والاستثمار في العولمة كنموذج اقتصادي لنشر الرخاء وتحويل الصراع إلى تنافس. ويرى أن «العلاقة مع الصين لا ينبغي أن تكون على شكل خصومة»، وأن ثمة كثيراً من «مجالات التعاون» بين البلدين. ويؤيد بقوة مواصلة أميركا دعم أوكرانيا في «حربها الدفاعية» ضد روسيا.

أخيراً، بالنسبة للشرق الأوسط، يلتزم والز بالدفاع عن إسرائيل، لكنه يرفض تحوله إلى رخصة للتعدّي على حقوق المدنيين الفلسطينيين، ولذا يدعم حل الدولتين، لينعكس موقفه هذا بتراجع نسبة «غير الملتزمين» في الولايات المتأرجحة. ويُذكر أنه عارض حرب العراق ودعا إلى سحب القوات الأميركية منه، وطالب باستخدام الدبلوماسية في سوريا بدلاً من التورط في حربها الأهلية. وعارض الضربات الأميركية الجوية هناك في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ودعم الاتفاق النووي مع إيران.


مقالات ذات صلة

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (رويترز)

كتاب جديد: فريق بايدن ناقش إخضاعه لاختبار إدراكي قبل تنحيه عن الانتخابات

كشف كتاب جديد أن كبار مساعدي الرئيس الأميركي السابق جو بايدن درسوا بجدية فكرة إخضاعه لاختبار إدراكي، العام الماضي، استعداداً لإعادة ترشحه للانتخابات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس (رويترز) play-circle

«صدّقت الضجة الإعلامية»... كامالا هاريس «صُدمت تماماً» من الخسارة أمام ترمب

صُدمت نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس من هزيمتها أمام الرئيس دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد أن «صدقت» الضجة الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس (رويترز) play-circle

تقرير: أوباما عمل ضد هاريس خلف الكواليس في انتخابات 2024

كشفت التقارير عن أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يؤيد ترشيح الديمقراطيين لنائبة الرئيس آنذاك كامالا هاريس، وذلك في أعقاب انسحاب بايدن من السباق.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرد على أسئلة وسائل الإعلام في البيت الأبيض يوم 25 مارس 2025 (إ.ب.أ)

ترمب يطالب بإثبات الجنسية الأميركية للسماح بالتصويت في الانتخابات

وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس (الثلاثاء) أمراً تنفيذياً من شأنه أن يلزم الناخبين بإثبات أنهم مواطنون أميركيون.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
TT

«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)

بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إحدى قمم جبل الشيخ التي احتلها جيشه للتو، وأعلن عن بقاء إسرائيل في هذا المكان لفترة طويلة. وبعد ثلاثة شهور، في مارس (آذار) 2025، عاد إلى هناك ليقول: «لقد غيّرنا وجه الشرق الأوسط». أثار هذا التصريح ردوداً ساخرة من خصومه نتنياهو، الذين تساءلوا إن كان التغيير في صالح إسرائيل أم ضد مصالحها؟ لكن جوقة أنصاره النشيطين على الشبكات الاجتماعية احتفلوا بـ«الانتصار الكامل». أما أجهزة الأمن، ففتحت الجوارير وأخرجت الخرائط القديمة، التي أُعدت وفق خطط لتمديد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. ولا غرابة؛ فإسرائيل تعِد خطط هيمنة واحتلال بعيدة المدى لكل دولة من «دول الجوار». وفي الحكومة الحالية أحزاب لا تكتفي بتلك الخطط، بل تريد أكثر. وهذه وإن بدت أحزاباً صغيرة ومتطرفة، فإنها ذات تأثير كبير على نتنياهو وعلى السياسة الإسرائيلية. وهي التي تمنع التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وإلى صفقة تنهي ملف المحتجزين، وهي التي تمنع تنفيذ اتفاق وقف النار في لبنان، وتفرض «أمراً واقعاً» يمهد لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.

خطط التوسع الإسرائيلية، بالمناسبة، لا تقتصر على اليمين، بل تأتي أيضاً من الأجهزة الأمنية وأيضاً تحظى بدعم القيادة السياسية.

بعضها خطط جديدة، لكنها مستنبطة من التاريخ، حين كانت الحركة الصهيونية تخطّط لبسط حدود الدولة «من النيل حتى الفرات»، والعَلم الإسرائيلي الذي يتألف من خطين أزرقين تتوسطهما «نجمة داوود» يرمز إلى هذه الحدود. إلا أنهم عندما «تواضعوا»، اكتفوا بضم مقاطع من الجنوب السوري والجنوب اللبناني والغور الأردني (شرقي النهر) وحتى غزة ومقاطع من سيناء المصرية.

الفكرة

معهد «مسغاف» للأبحاث وضع في مارس (آذار) الماضي، خطة لإسرائيل الجديدة، أطلق عليها اسم «إسرائيل 2.0».

هذا ليس مجرد معهد دراسات، بل هو تابع لنتنياهو. وأُسس فقط عام 2023، ويترأسه مئير بن شبات، الذي عمل مستشار الأمن القومي في الحكومة وكان «رجل المهمات الخاصة» عند لنتنياهو ومبعوثه إلى الدول العربية والغربية.

يقول المعهد في مقدمة المشروع «هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليس أقلّ من جرس إنذار لدولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي. يدور الحديث عن حدث يغيّر قواعد اللعبة ويُلزم الدولة والمجتمع لإعادة التفكير السريع واستيعاب الضرورة في التكيّف والتغيير. على دولة إسرائيل أن تشهد عملية إعادة تنظيم شاملة، إلى جانب تغيير الأسطورة القومية وتكييفها مع الظروف المتغيرة. إسرائيل، التي كانت قائمة حتى السابع من أكتوبر، بروح التقاليد السيادية اليهودية على مرّ الأجيال، لنحو ثمانية عقود – عليها الآن أن تتجدّد، أن تُحدّث نفسها، وأن تعيد صياغة هويتها من جديد استعداداً للعقود المقبلة. من نواحٍ عديدة، يجب اعتبار هذه الحرب حربَ نهوض، حيث ينبثق من وسط الظلمة الشديدة نور كبير وتنبعث دولة جديدة، من بين الأنقاض».

كيف يرون النهوض؟

النهوض يعني أنه «لا بدّ من بلورة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها ضمن إطار سياسي واسع النطاق قدر الإمكان، أي بمشاركة المعارضة في الكنيست، مع تنسيق منظومة تفاهمات استراتيجية شاملة قدر الإمكان مع الولايات المتحدة. ويجب أن تتضمن، بالضرورة، اتفاقات في القضايا الرئيسة التالية: القضاء على الخيار النووي الإيراني، والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا بشأن البنية الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط وتقاسم المصالح في سوريا، ووضع حد لخرق مصر لاتفاقية السلام، واستغلال الفرصة التاريخية للعمل بمزيد من الاستقلالية، الحزم والمبادرة من أجل التأثير في رسم ملامح منطقة الشمال الإسرائيلية مستقبلياً. وبجانب العمليات العسكرية الناجحة لتدمير ما تبقّى من الجيش السوري، وتعزيز الوجود الإسرائيلي على الحدود مع سوريا، ينبغي التحرّك سياسيّاً لضمان ألّا يُشكّل النظام القادم في سوريا تهديداً لأمن إسرائيل».

أيضاً، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل اليوم منصب وزير ثان في وزارة الدفاع، أيضاً نشر «خطة الحسم» (مجلة «هشيلواح») عام 2017، وأوضح أنه يرى في الأردن «دولة فلسطينية».

وفي بداية الحرب تحدث نتنياهو نفسه عن ضرورة «إعادة هندسة الوعي العربي» ليتقبلوا إسرائيل، كما حصل مع اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية وكذلك مع الألمان. إذ كره اليابانيون جيشهم وكره الألمان النازيين، وراح الشعبان يشيدان بالولايات المتحدة «التي خلصتهم من أعباء هذا الإرث»، وإسرائيل القوية الممتدة على النطاق الواسع الحالي (أي أيضاً في سوريا ولبنان)، هي أقصر الطرق لتحقيق هذه القناعة».

الترجمة العسكرية

الجيش من جهته، تلقف أجواء الحكومة، وأعلن تعديل عقيدته الحربية في ضوء الإفادة من تجربة «7 أكتوبر»، فقرّر أن هجوماً على إسرائيل شبيهاً بهجوم «حماس» في ذلك اليوم، يمكن أن يُشَن من جميع «دول الجوار». ولذا؛ ثمة شكوك وقلق إزاء جميع الجبهات، وبناءً عليه ستكون حماية أمن إسرائيل بالاعتماد على الذات، وبتعزيز آلية الانتقال من الردع والدفاع، إلى الدفاع الهجومي، أي الهجمات الاستباقية.

كذلك تقرّر إنشاء ثلاث «دوائر أمنية» مع «دول الجوار»:

- الدائرة الأولى، «خط دفاع» قوي داخل الحدود الإسرائيلية مع حشود قوات وحفر خط دفاع على طول الحدود وتوفير شبكة إلكترونية محبوكة.

- الدائرة الثانية، «حزام أمني» داخل «أرض العدو» على طول الحدود يحظر دخول أي إنسان إليه من دون ترخيص إسرائيلي («حزام أمني» كهذا موجود في الجنوب اللبناني وفي سوريا وفي غزة).

- الدائرة الثالثة، إعلان «منطقة منزوعة السلاح» في عمق الدولة المجاورة (في سوريا حُددت من دمشق وحتى الجنوب والغرب، وفي لبنان من نهر الليطاني وجنوباً، وفي غزة كل القطاع). وبدأ بشكل عملي تطبيق الخطة.

هكذا مهّد الجيش الطريق للقيادة السياسية اليمينية كي تتخذ القرارات السياسية التي تبين أن إسرائيل غيّرت نهجها، وتريد لنفسها مكانة مؤثرة في دول الجوار. وهي تفعل هذا على النحو التالي:

آثار غارة إسرائيلية استهدفت موقعاً في محافظة حماه السورية (آ ف ب)

سوريا

بالنسبة لسوريا، عادوا لفتح الجوارير القديمة ليستلوا المشروع الصهيوني العتيق للسيطرة على أرض الجولان السوري ومنابع المياه فيها. ذلك المشروع طرحته القيادة الصهيونية عام 1919، إبان «مؤتمر فرساي»؛ في محاولة لتعديل «اتفاقيات سايكس بيكو». وعام 1925، طرحت الصهيونية فكرة تقسيم سوريا (ولبنان) إلى دويلات، بحيث تكون «جارة» إسرائيل العتيدة من الشرق دولة درزية. واشترت الحركة الصهيونية 450 ألف دونم من أراضي الجولان؛ تمهيداً لتطبيق الفكرة. ويوم 9 يناير (كانون الثاني) من 2025، قال مسؤول إسرائيلي كبير لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «العالم يعمي أبصاره عن رؤية الخطر الكامن في النظام السوري الجديد؛ فقيادته، رغم ما تبديه من رغبة للتقرّب إلى الغرب، تعدّ جزءاً أصلياً من الجهاد الإسلامي العالمي. والرسائل الإيجابية في التعامل مع مصالح الغرب وحتى إسرائيل جزء من مخطط بعيد المدى (تتمسكن لتتمكّن)، وعندما تتمكّن ستظهر حقيقتها المعادية لإسرائيل وللغرب. قد يستغرق الأمر سنة أو سنتين أو 10 – 20 سنة، لكنها لن تحيد عن أهدافها الاستراتيجية».

ويوم 8 مارس (آذار)، أعلن نتنياهو، وفق صحيفة «معاريف»، أن الجيش الإسرائيلي «لن يسمح لقوات الهيئة بالتمركز في أي منطقة جنوب دمشق، وسيحافظ على نفوذه هناك حتى توقيع اتفاق إسرائيل - سوري دولي ينهي حالة العداء ويؤسس السلام التام معنا، بكل ما يتطلب هذا من ضمانات لأمننا». وهنا بيت القصيد. إذ يكشف نتنياهو عن أن الضغط على سوريا اليوم يرمي إلى الوصول إلى «اتفاق سلام» ينهي حالة الحرب، وحالة الـ«لا حرب ولا سلم». وحتى ذلك الحين، يدير نتنياهو مفاوضات مع تركيا لتقاسم النفوذ بينهما على سوريا.

إنه يريد سحب اعتراف من إدارة الحكم الجديدة في سوريا ومن تركيا بأنها - أي تل أبيب - كانت صاحبة التأثير الأكبر لسقوط نظام بشار الأسد، وبالتالي تطلب مكافأتها على ذلك. وعندما اكتفى أحمد الشرع بالإعلان أنه غير معني بالحرب ويلتزم باتفاق فصل القوات من عام 1974، قرّرت إسرائيل مخاطبته بلغتها المألوفة: الحديد والنار. فشنّت أكثر من 500 غارة حربية على مواقع الجيش السوري ودمرت «نحو 85 في المائة من قدراته الدفاعية»، كما زعمت. وواصلت شن الغارات من مطار حمص حتى قلب دمشق واحتلت كل قمم جبل الشيخ و400 كلم مربع من الأراضي الواقعة شرقي الجولان المحتل من سنة 1967.

البروفسور آفي برئيلي، المؤرّخ في جامعة بن غوريون بالنقب، يقول: «إن أقل ما يمكن أن تقبله حكومة بنيامين نتنياهو من سوريا اليوم هو تقاسم النفوذ مع تركيا». ويتابع في صحيفة «يسرائيل هيوم» (عدد الثلاثاء) إن «المصلحة الواضحة لإسرائيل هي تجنب الصراع المباشر مع تركيا، الآن طبعاً، ما دام لا يزال التهديد الإيراني قائماً، ولكن أيضاً في المستقبل. لا نريد أن نواجه دولة قوية وعضواً في (ناتو). كما أن للولايات المتحدة مصلحة في منع صراع بين حليفين رئيسين لها، تأمل من خلالهما تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومن أجل تجنب الصراع، يتطلب الأمر تقسيماً واضحاً: تركيا والنظام الذي أنشأته في دمشق سيتفهمون وجودنا وتأثيرنا في الشام وجبل الدروز، ولن يثيروا ضدنا السُّنة في محافظة درعا كما حدث أخيراً؛ بينما ستتجنب إسرائيل دعم الأكراد السوريين، أعداء تركيا، في الشمال والشرق. هذا التقسيم الواضح بين تركيا وإسرائيل في سوريا هو مفتاح استقرار المنطقة».

ولكن بنيامين نتنياهو، كان قد ألمح لأمر آخر هو «جلب» سوريا بقيادتها الجديدة الى «اتفاقيات إبراهيم». والهدف ليس التوصل إلى السلام القائم على احترام حدود وموارد كل دولة للأخرى، بل انتهاز الفرصة التي تبدو فيها سوريا في أضعف أحوالها كي يضم أكبر قدر من الأراضي السورية لإسرائيل بدءاً بالجولان الغربي وحتى الجنوب.

حكومة تل أبيب مقتنعة بأن «العرب لا يتألمون ولا يشعرون بنتائج هجماتهم البدائية إلا إذا أخذت منهم أرضاً». وبالإضافة للأراضي التي يسيطرون عليها اليوم يتكلم الإسرائيليون عن «محور داوود»، من جنوب الجولان وحتى التنف، ومن هناك إلى دير الزور والحدود مع كردستان العراق، وتريد إسرائيل السيطرة عليه في حال غادر الأميركيون المنطقة.

الجيش الإسرائيلي أعلن تعديل عقيدته

الحربية بعد «7 أكتوبر» خوفاً

من هجوم واسع

لبنان

لا يختلف الموقف من لبنان كثيراً عن الموقف من سوريا. فبحسب الرسالة المذكورة إلى فرساي طلبت الصهيونية قبل أكثر من 100 عام ضم الجنوب اللبناني من الليطاني إلى تخوم الدولة العبرية العتيدة. وعندما طرحت فكرة «الدولة الدرزية» عام 1925، قصدت تفتيت الطائفة العربية عملياً، وهي التي كانت موحّدة مع عرب الشام تحت قيادة زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، وهو الدرزي الذي سارت وراءه وتحت قيادته جميع الطوائف. وعام 1946 اقترحت مجدداً إنشاء دولة درزية، وأوضحت أنها تقصد ضم العرب الدروز من لبنان ومن سوريا معاً. ولما أفشلت القيادة الدرزية ذلك المخطط، راحت تخطط للبنان أن يكون «دولة مسيحية» منسلخة عن بقية الطوائف. وتدخّلت بعمق في السياسة اللبنانية، حتى قبل حراك الثورة الفلسطينية في لبنان.

وإبّان الحرب الأهلية تحوّلت إسرائيل لاعباً فاعلاً ونشطاً. وحتى عندما انسحبت إسرائيل من لبنان، بشكل أحادي الجانب، عام 2000، لم تترك لبنان لحاله، بل واصلت التدخل والعبث بشؤونه الداخلية. ولعل أكبر مثل لعمق هذا التدخل، هو جمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختراق من «الموساد» لأدق المواقع والأطر، وعلى رأسها «حزب الله»، والتي مكَّنتها من القيام بعملية الاغتيال الجماعي لنشطائه بواسطة أجهزة الاتصال المفخخة وتصفية قياداته العليا والوسطى، من حسن نصر الله ونازلاً. وهي تحتل راهناً تسع مناطق في الجنوب اللبناني «لفترة طويلة»، إلى حين تقتنع بأن الجيش يسيطر على المنطقة.

الأردن

على الرغم من اتفاقيات السلام والتنسيق الأمني مع الأردن منذ عام 1994، لم يتنازل اليمين الإسرائيلي عن حلمه تحويل الأردن دولة فلسطينية بدلاً من أن يكون المملكة الهاشمية. وطموحه هو أن تطرد إسرائيل أكبر عدد من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة إليه. وهو لا ينفي ذلك، بل يتحدث عنه علناً ويجعله جزءاً من مشروعه السياسي الرسمي.

مصيبة

إن مصيبة إسرائيل أنها تؤمن بأن قوتها العسكرية تجعلها قادرة على تحقيق هذه الطموحات. ولقد انتقد هذا التوجه، حتى البروفسور أفرايم عنبار، مدير المعهد الأورشليمي للاستراتيجية والأمن، الذي يعتبر معقلاً للعقائديين اليمينيين، وقال في دراسة نُشرت مطلع الشهر الحالي: «قدرة إسرائيل أو جهات فاعلة من خارج المنطقة، وحتّى قوى عظمى، على هندسة دول في الشرق الأوسط سياسيّاً قدرة محدودة جدّاً. لقد فشلت إسرائيل عند دخولها إلى بلاد الأرز في عام 1982 في محاولة لتغيير الحكومة في لبنان. ولم تنجح الولايات المُتّحدة، التي تملك جيشاً ضخماً وموارد هائلة، على فرض نظام ديمقراطيّ موالٍ للغرب في أفغانستان والعراق. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الاتّحاد السوفياتيّ، الذي عمل في أفغانستان عسكريّاً».
وأخيراً، يقول اللواء احتياط يسرائيل زيف، المعلّق في «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، إن «العجلة تدور. بينما يصرّ نتنياهو على الحرب، يعيد العالم ترتيب الشرق الأوسط من دوننا... لقد فاتنا القطار».