الدين... العامل المهيمن على الاستقطاب السياسي الأميركي

الإيفانجيليون تمسّكوا بـ«الرئيس القوي»... من ريغان إلى ترمب

فرانكلن روزفلت (غيتي)
فرانكلن روزفلت (غيتي)
TT

الدين... العامل المهيمن على الاستقطاب السياسي الأميركي

فرانكلن روزفلت (غيتي)
فرانكلن روزفلت (غيتي)

بعدما حسم السباق الرئاسي الأميركي لهذا العام بأنه سيكون نسخة معادة لانتخابات 2020، بين الرئيس الديمقراطي جو بايدن ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، طرح مجدداً التساؤل عن عناصر القوة السياسية والحزبية والجماهيرية التي يراهن عليها الطرفان لتحقيق الفوز في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وفي حين يظل الاستقطاب الحزبي العامل المهيمن - الذي يبدو غير قابل للتغيير في السياسة الأميركية - تشير معظم التحليلات والإحصاءات إلى أن الديمقراطيين والجمهوريين أصبحوا، في المتوسط، متباعدين آيديولوجياً اليوم أكثر من أي وقت مضى في السنوات الخمسين الماضية. وهم حين يتفقون، فغالباً ما يكون ذلك نتيجة للاعتقاد المشترك بأن ليس لديهم سوى القليل من القواسم المشتركة. وكذلك، مع أن الفجوة التي تفصل بينهما تحجب في بعض الأحيان الانقسامات وتنوّع وجهات النظر الموجودة داخل الائتلافين الحزبيين، فإن تلك الفجوة تعود إلى تاريخ يحفر بعيداً منذ بدايات تشكل «الدولة - الأمة»، خلال نقاشات الأميركيين لمسألة دور الدين في سياسة الدولة وهويتها، وعن «التحالف المقدّس» بين الدين والسياسة في أميركا.

منذ الأيام الأولى لقيام الولايات المتحدة، وحتى اليوم، يستمر النقاش حول مسألة دور الدين والجماعات الدينية في سياسة الدولة. ففي عام 1789؛ أي بعد تسلم الرئيس المؤسس جورج واشنطن منصب الرئاسة، أعلن واشنطن تكريس يوم خاص لتقديم الشكر والصلاة؛ «لأن الله أنعم على الولايات المتحدة بحكومة جمهورية»، وهو ما يتطلب من الأمة التعبير عن امتنانها. ولكن، بعد 12 سنة، جاء الرئيس الثالث توماس جفرسون ليلغي هذا الاحتفال، مستنداً إلى التعديل الدستوري الأول الذي عدّه جفرسون «جداراً فاصلاً بين الكنيسة والدولة».

مع هذا، لا يوجد تقريباً اليوم أي مظهر من مظاهر الحياة السياسية إلا ويكاد يتأثر بالدين، وبأن «الله موجود في كل مكان». ذلك أن الشعار الرسمي للدولة هو «نضع ثقتنا في الله»، وجرى طبع هذه العبارة على العملة الورقية الرسمية للبلاد، كما أنها مثبتة خلف منصة رئيس مجلس النواب الأميركي، ومحفورة أيضاً فوق مدخل مبنى مجلس الشيوخ.

أيضاً، لا يزال قَسَمُ الولاء الرسمي أن البلاد هي «في عهدة الله»، لا بل أعيد إحياء «اليوم الوطني للصلاة» مع كل أول يوم خميس من شهر مايو (أيار)، بالإضافة إلى إقامة «صلاة الإفطار الوطنية»، عند كل أول يوم خميس من شهر فبراير (شباط). ثم إنه مع كل خطاب موجه إلى الشعب الأميركي يختتمه رئيس البلاد عادة بالطلب من الله إغداق بركته على أميركا. وعلى الرغم من محاولات إظهار الطابع العلماني، فهذه التقوى ليست كلها مسكونية تماماً؛ إذ أن الغالبية من الأميركيين ما زالوا يرون أن الولايات المتحدة «دولة مسيحية».

توماس جفرسون (غيتي)

سر التقوى الدينية

من جهة ثانية، بمعزل عن توجّه الشعب الأميركي اليوم، من المؤكد أنه لم يكن في نيّة مؤسسي أميركا الأوائل قيام دولة دينية، وكانوا على اتفاق مع اقتناع جفرسون الذي فصل بين الكنيسة والدولة. لكن ما الذي يفسّر كل هذه التقوى الدينية في السياسة الأميركية التي تهيمن راهناً على الحزبين الجمهوري والديمقراطي؟

إذا دققنا في فترات تاريخية طويلة فسنجد أن الدين يكرّر تأثيره على المشهد السياسي الأميركي عن طريق ثلاث خطوات مهمّة:

- الأولى، عندما بادر «المبشّرون» إلى استنكار وشجب ظاهرة اتساع موجة العلمانية والديانات المزيفة، بالإضافة إلى سياسات الحكومة المشجعة لها، وهو ما تسرّب أيضاً إلى التيار السائد في الثقافة العامة والإعلام والتي تنذر الشعب الأميركي بأن عليه أن يغير سلوكه وإلا فسيدفع الثمن في الجحيم.

- الثانية، حين يبادر سياسي متنفذ كالرئيس الأميركي، على سبيل المثال، إلى تلبية الدعوة الدينية والاندفاع نحو قيادة حملة «تبشير» بأفكار المصلحين الدينيين داخل كتلته السياسية. ورغم رؤية كثيرين أن القادة السياسيين نماذج أخلاقية لا يمكن التعويل عليها أو الاعتماد على مصداقيتها، تضطر الكنائس للعودة إلى القول إن الحياة الدينية المكرّسة من أجل المبادئ الأساسية تقبع اليوم في محيط غير ملائم من عالم السلطة والقوة، وتهيمن عليه النفعية السياسية.

- الخطوة الثالثة، تأتي بعد إنجاز بعض الأهداف والإخفاق في تحقيق بعضها الآخر، أو حتى إهمالها، لتبدأ الحركة الدينية الطابع في التفكك، كما هو الحال مع كل ائتلاف. هذا ما جرى مع تكتل «حفلة الشاي» الذي عُد في العقدين الماضيين، الممثل الرسمي للتيار اليميني المتشدّد الذي مهد الطريق للشعبوية المزدهرة في هذه الأيام.

دور الإيفانجيليين

هنا يبرز دور الإيفانجيليين البروتستانت، أكبر جماعة دينية وأكثرها تأثيراً في السياسة الأميركية، الذين جاؤوا إلى «الأرض الجديدة» هرباً من الاضطهاد الديني والمذهبي الذي عانوا منه في دولهم الأوروبية الأصلية.

أساساً «الإنجيلية» في الديانة المسيحية تعني «تعليم الإنجيل ونشره». إلا أنها كلمة باتت في مصطلحها «الإيفانجيلي» الحالي تعبر عن طائفة لها معتقدات وتفسيرات دينية خاصة، ظهرت خلال القرن الثامن عشر، بعد انتشار تبنّي بعض الكنائس والحركات البروتستانتية هذا الاسم لتمييزها بالتزمت الديني عن غيرها. وحقاً، تتمتع هذه الكنائس اليوم بانتشار واسع في الولايات المتحدة، إذ ينتمي إليها أكثر من ربع الأميركيين (80 مليون شخص تقريباً). ومنذ عقود، يدعم الإيفانجيليون عموماً، مرشحي الحزب الجمهوري؛ لكونهم «ملتزمين أكثر دينياً»، وفق الاعتقاد السائد. ووفق مركز «بيو» للأبحاث ظهر هذا جلياً في الدعم الكبير الذي حظي به الرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات عامي 2016 و2020، ويتوقع أن يستمر لصالح الجمهوريين في انتخابات هذا العام أيضاً. وللعلم، بينما حصل الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن» على 78 في المائة من أصوات أتباع الطائفة في انتخابات عام 2004، وجون ماكين على 74 في المائة في انتخابات 2008، وميت رومني على 78 في المائة في 2012، حصل ترمب على 81 في المائة.

سر التمسك بترمب

إلا أن أحد أكثر الأشياء الاستثنائية حول السياسة الأميركية الحالية، وأكثر التطورات اللافتة في التاريخ السياسي الحديث، هو التمسك المخلص للمحافظين الدينيين بدونالد ترمب، الذي فاز بأربع أخماس أصوات المسيحيين الإيفانجيليين البيض، بحسب «بيو».

ومع أن خلفية ترمب ومعتقداته هي أبعد من أن تتناسب أو تتفق مع النماذج المسيحية التقليدية للحياة وتأدية الدور القيادي فيها، (إذ كان يؤيد فيما مضى حق المرأة في الإجهاض الجزئي، ويتفاخر بالتحرّش بالنساء، ويواجه اليوم 91 تهمة قضائية في أربع قضايا جنائية)، يتمسك الإيفانجيليون بتأييده بوصفه «رئيساً قوياً» يستطيع تحقيق أهدافهم.

ولقد وجد زعماء الجماعة المتحالفون معه «باباً مفتوحاً» في البيت الأبيض، حيث يحتشدون للدفاع عنه في ظل تزايد دور الجماعات اليمينية المتشددة ضمن التحالف المهيمن على الحزب الجمهوري، وتصاعد المخاوف من تراجع حصة البيض من غالبية السكان.

التحولات الآيديولوجية حدثت مع التحولات الجغرافية والديموغرافية

دونالد ترمب... وسط مناصريه من اليمين المسيحي المتشدد (غيتي)

الائتلاف الجمهوري المحافظ

مركز «بيو» يشرح أن المجموعات الأربع التي تشكّل ما يسمى بـ«الائتلاف الجمهوري» تضم ثلاث مجموعات متشددة من المحافظين هي: محافظو الإيمان والعَلَم، والمحافظون الملتزمون، واليمين الشعبوي، في حين يشكل ما يسمى اليمين المتناقض مجموعة أصغر وأقل محافظة.

المجموعة الأولى - أي محافظو الإيمان والعَلَم - محافظة بشدة في جميع المجالات، وتؤمن بأن على السياسات الحكومية دعم القيَم الدينية، وأن التسوية في السياسة مجرد «بيع ما تؤمن به». أما المجموعة الثانية فتعبّر عن وجهات نظر محافظة في جميع المجالات، ولكنها أقل تشدداً إلى حد ما فيما يتعلق بقضايا الهجرة ومكانة أميركا في العالم. ومن جانبها، تتكون المجموعة الثالثة من اليمينيين الشعبويين التي يعد أفرادها وأتباعها من بين الأقل تعليماً والأكثر احتمالاً للعيش في المناطق الريفية، وهي تنتقد بشدة كل من المهاجرين والشركات الأميركية الكبرى.

بعد هؤلاء، تأتي المجموعة الرابعة - أي ما يسمى اليمين المتناقض - وهذه رغم أن لديها آراء محافظة حول حجم الحكومة والنظام الاقتصادي وقضايا العرق والجنس، فهي أقل محافظة وتشدداً؛ إذ تفضل غالبية فيها الإجهاض القانوني، وتقول إن الماريغوانا يجب أن تكون قانونية للاستخدام الترفيهي والطبي. كذلك، فهي مختلفة أيضاً في وجهة نظرها إزاء دونالد ترمب؛ إذ في حين صوتّت غالبيتها لصالحه في عام 2020، يقول معظم ناخبيها الآن إنهم يفضلون ألا يستمر في كونه شخصية سياسية رئيسة.

في المقابل، ترى غالبية 63 في المائة من المجموعات الثلاث المتشددة أن على الحزب الجمهوري ألا يقبل بالمسؤولين المنتخبين الذين ينتقدون ترمب علانية. كذلك يقول 6 من كل 10 منهم إنهم يحبّون القادة السياسيين الذين يؤكدون أن ترمب هو الفائز الشرعي في انتخابات عام 2020. واليوم، تهيمن هذه المجموعات المتشددة الثلاث على 85 في المائة من البيض غير اللاتينيين، وما يقرب من 6 من كل 10 هم من الرجال، وهم أيضاً من بين الأشخاص الأكثر احتمالاً للعيش في المجتمعات الريفية. ثم إنه قال ما يقرب من 4 من كل 10 منهم إنهم لم يحصلوا على لقاح «كوفيد - 19». وأفادت غالبية كبيرة من هذه المجموعة (74 في المائة) بأنها تحصل على الأخبار السياسية من قناة «فوكس نيوز»، وغيرها من وسائل الإعلام اليمينية.

 

قواسم مشتركة

مما سبق ذكره، يتّضح أن المجموعات الأربع مع الجمهوريين في التصنيف السياسي، من خلال تفضيلات مشتركة لدور أصغر للحكومة الفيدرالية (خفض الإنفاق الحكومي)، وجيش أميركي قوي، ورفض الرأي القائل بأن البلاد بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لمعالجة اللا مساواة العرقية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعديد من القضايا الأخرى، وخاصة وجهات النظر المتعلقة بالعدالة الاقتصادية والهجرة والسياسة الخارجية، توجد اختلافات صارخة بينها. ومع أن هذه المجموعات متفقة عموماً على أهمية تأمين حدود الولايات المتحدة، تبقى لديها وجهات نظر مختلفة تماماً حول مدى عمق مشكلة الهجرة غير الشرعية في البلاد، وكذلك حول نهج البلاد تجاه الهجرة القانونية.

وبالتالي، مع أن الإيفانجيليين يشكلون القوة الرئيسة لهذا الائتلاف، يصح التساؤل... عن كيف تحوّل هؤلاء من جماعة كان لها اعتبارها النسبي وحركتها المؤثرة، إلى مجموعة تسعى إلى الحماية السياسية تحت جناح رئيس غير تقليدي عبر تاريخ الذاكرة الحية مثل ترمب؟

 

تحالف رجال الأعمال ورجال الدين

يقول كيفين كروس، مؤلف كتاب «كيف اخترعت الشركات المساهمة أميركا المسيحية؟»، إن جذور هذه المسألة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي؛ إذ واجه قادة رجال الأعمال المحافظون صعوبة في الرد على برنامج «العقد الجديد» (أو الصفقة الجديدة) الذي وضعه الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت، لمواجهة أسوأ تدهور اقتصادي كانت تمرّ به الولايات المتحدة في تاريخها. وتضمن ذلك البرنامج إنشاء مؤسسات من قبل الحكومة الفيدرالية مهمتها الرعاية الاجتماعية، وتقديم المعونة إلى المحتاجين وكبار السن. يومذاك، وجد أولئك المحافظون اليمينيون أن القضايا الأخلاقية هي أكثر إثارة لحماسة الجماهير من القضايا الاقتصادية. وتضافرت جهود رجال الأعمال مع رجال الدين اليمينيين واتفقوا على مخطط «الإحياء الروحي» الذي يهدف إلى «تحرير» الأميركيين من زحف مبدأ «مصلحة الجماعة تتقدم على مصلحة الفرد».

وبالفعل، صبّت هذه الجهود في خانة الدفاع عن أرباب العمل معادة أي توجه يدافع عن العدالة الاجتماعية، وأيضاً عملت على «تسييس» الديانة المسيحية أو وضع المؤسسة الدينية في خانة الدفاع عن المؤسسة السياسية.

هذا ما حصل بعد انتخاب الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1952، مع أن أيزنهاور أعاد ترتيب هذه الحركة بصيغة مسكونية عالمية تستجيب لإجماع أميركي وتوحيد الأمة إبان «الحرب الباردة» في صراعها مع الاتحاد السوفياتي «الكافر». وكان أيزنهاور هو الذي دفع بالعديد من الرموز المألوفة التي عبّرت عن مثل هذا التوجه الديني في الدولة، مثل التشريعات الملزمة، التي توجب ذكر كلمة الله.

 

أميركا لم تتخل عن الدين

من جانب آخر، على الرغم من تحول معظم البلدان الغنية منذ زمن بعيد من دول متدينة في غالبيتها إلى دول علمانية، لا يزال 40 في المائة من الأميركيين يتوجهون إلى الكنائس أسبوعياً، و70 في المائة منهم يزورون الكنائس عدة مرات في السنة الواحدة. وهذا واقع يظهر مدى الحيوية التي تتمتع بها «السوق الدينية» في الولايات المتحدة. وبعكس البلدان التي توجد فيها كنائس رسمية مدعومة مالياً من قبل دافعي الضرائب، فإن المشهد الديني الأميركي كان دائماً على استعداد لاستقبال أي شخص يمكنه أن يجذب ويحشد جماعة من المصلين القادرين على المساهمة بتبرعاتهم المالية السخيّة. وهو ما حوّل البلاد إلى ساحة مزدحمة بالجماعات الدينية، مع أن دستورها لا يقرّ بوجود أي دين رسمي.

واليوم، يعكس الدين في الولايات المتحدة حالة استقطاب أكثر مما يعكس حالة إجماع. وعلى سبيل المثال، تجد كنائس الأميركيين التي هي من أصول أفريقية، ومعظمها تدعم الحزب الديمقراطي، تنظّم نقل رعاياها بالحافلات إلى مراكز الاقتراع، بينما يحذر المبشرون الإنجيليون البيض رعاياهم من أنهم سيسقطون في الخطيئة حين يعارضون القدرة الإلهية، إذا هم أعطوا أصواتهم لصالح الديمقراطيين.


مقالات ذات صلة

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جوية لمدينة هرجيسا (من منصة أكس)

«أرض الصومال»... إقليم «استراتيجي» يبحث عن هدف صعب

بين ليلة وضحاها، غزا إقليم «أرض الصومال» - «الصومال البريطاني» سابقاً - عناوين الأخبار، ودقّ ذاكرة المتابعين، إثر إعلان توقيعه مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.