لم يتحفظ رئيس مجلس النواب الأميركي المعزول كيفن مكارثي عن انتقاد الديمقراطيين، إذ لمّح في مؤتمر صحافي بعد التصويت على عزله إلى أن رئيسة المجلس السابقة نانسي بيلوسي «ضللته» عندما وعدته بدعمه حال سعى معارضوه إلى عزله. وأردف بلهجة تملأها الخيبة: «لقد كانت في هذه الغرفة عندما وعدتني... ما حصل قرار سياسي من الديمقراطيين، وأعتقد أن ما فعلوه في السابق آذى هذه المؤسسة. تقييمي هو أنها انهارت اليوم لأنها ما عادت تستطيع القيام بواجبها. فإذا تمكن 8 أشخاص فقط من التحالف مع الحزب المعارض لفعل ما فعلوه، كيف يمكن لهذه المؤسسة أن تحكم؟».
تنازل مُذلّ لليمين
في الواقع، مع أن مكارثي حصل خلال التصويت على دعم الغالبية العظمى من النواب الجمهوريين، فإنه فشل في الاحتفاظ بمنصبه لأن الجمهوريين لا يتمتّعون في مجلس النواب إلا بغالبية ضئيلة. وبالتالي، لتمرير أي تشريع، لا يمكن للجمهوريين سوى تحمّل خسارة أصوات 5 جمهورية، لكن مكارثي خسر 8 أصوات ولم يحظ في المقابل بدعم أي نائب ديمقراطي.
مع هذا، معظم التحليلات تُجمع على أن ما حدث لمكارثي «كان نتيجة التنازلات التي قدّمها مسبقاً» لنيل «رضى» 21 نائباً من غلاة المتطرفين اليمينيين الجمهوريين وضمان الفوز بمنصب رئيس مجلس النواب. وحقاً اتهم رئيس مجلس النواب المعزول بأن قبوله بالخضوع لسيف «الابتزاز السياسي» المُسلّط عليه، كان خدمة لمصلحته الشخصية، بدلاً من التعاون مع الديمقراطيين، الذي جاء بالنتيجة على حساب «المنصب» نفسه وحساب مجلس النواب كمؤسسة، بحسب منتقديه.
كان مكارثي قال ليلة الثلاثاء عن الجمهوريين الثمانية الذين صوّتوا للإطاحة به: «ليس بوسعهم الادعاء بأنهم محافظون لأنهم غاضبون وفوضويون... إنهم ليسوا محافظين وليس من حقهم الحصول على هذا اللقب». لكنه، مع ذلك، أظهر طاعة شبه مذلّة لليمين المتطرف، حتى اللحظة التي قرّروا فيها الإطاحة به. لقد قدم لهم التنازل تلو التنازل، ثم تراجع عن بعض الأمور التي اهتموا بها أكثر من غيرها، فيما يتعلق بالإنفاق، عندما ثبت أنه من المستحيل تحقيقها في حكومة منقسمة.
اليوم، يرى البعض أن الحزب الجمهوري بات يعد فعل الشيء الصحيح انتهاكاً لا فضيلة، وعلامة على الولاء الذي لا يغتفر للمؤسسة السياسية التقليدية. ومن ثم، كانت تلك التسويات هي المشكلة الأساسية بالنسبة لمكارثي، وقد تكون كذلك لخليفته في نهاية المطاف. وباختصار، أصبح الجمهوريون في مجلس النواب، المدينون بالفضل لقاعدة ترمب المعارضة للتسويات، عاجزين عن الحكم.
عقاب ديمقراطي
على الضفة المقابلة، لعب النواب الديمقراطيون دوراً كبيراً في إطاحة مكارثي، بعدما كانوا قد فكّروا في التصويت لمصلحته. وفي النهاية، قرّروا ألا يفعلوا... فصوتوا ككتلة واحدة ضده.
السبب عبر عنه اتهامه له بالعمل ضدهم وعزلهم على طول الطريق، رغم اضطراره للجوء إلى مساعدتهم غير مرّة في اللحظات الحاسمة. ومن هذه المرّات حين وقّع اتفاقاً مع البيت الأبيض على تجنّب العجز الفيدرالي في مايو (أيار) الماضي، وحين أقرّ قانوناً مؤقتاً لتجنب إغلاق الحكومة بنهاية الأسبوع الماضي تحت عنوان «حماية الأمة»، وفق داعميه.
وما يجدر ذكره أن مكارثي كان قد وعد الديمقراطيين بمعاملة عادلة وبدور في الحكم، إلا أنه بعد ذلك دفع بتشريعات حزبية أثارت غضبهم. وأيضاً تراجع عن اتفاقاته مع البيت الأبيض، بل وأطلق بشكل منفرد - تحت ضغوط الجمهوريين اليمينيين المتطرفين - تحقيقاً لعزل الرئيس بايدن حتى قبل تقديم اللجنة النيابية المكلّفة بدراسة القضية أي أدلة جدّية.
وهنا تقول صحيفة «واشنطن بوست» إن «تحالفاً غريباً» ضم 8 جمهوريين يمينيين متطرفين وجميع الديمقراطيين في المجلس صوّت لصالح عزل مكارثي. وتضيف أن الديمقراطيين كانوا قد عرضوا عليه المساعدة، لكنه رفض ذلك، وكذلك رفض علانية دعوتهم ليكون رئيساً ائتلافياً مقابل دعمهم. ولذا، في ضوء قلة ثقتهم به، قرّروا المضي في إطاحته لأنه حسب تعبيرهم شخصية أدت إلى «تآكل الديمقراطية».
وما يستحق الإشارة، في هذا الإطار، أن حكيم جيفريز، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، كان قد حث الجمهوريين المعتدلين على الانفصال عن «المتطرفين» في حزبهم، والانضمام إلى الديمقراطيين «من أجل تحريك الكونغرس والبلاد إلى الأمام». وجاءت دعوته هذه بعد اجتماع مغلق مثير للحزب الديمقراطي، حيث لم يُسمح باستخدام الهواتف الجوّالة، وناقش الأعضاء كيفية التعامل مع التصويت الوشيك. وبالفعل، قال جيفريز للصحافيين «نحن مستعدون وراغبون وقادرون على العمل مع زملائنا الجمهوريين، لكن عليهم الانضمام إلينا».
ولاحقاً، خرج النواب الديمقراطيون من الاجتماع موحّدين في تحميل مكارثي مسؤولية:
1- استرضاء الرئيس السابق دونالد ترمب، بعد هجوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021 على مبنى الكابيتول.
2- زيارته في منتجعه بولاية فلوريدا بعد وقت قصير من ترك الرئيس منصبه.
3- محاولته إحباط جهود اللجنة المختارة بمجلس النواب المكلفة بالتحقيق في التمرد.
4- غضب الديمقراطيين عليه لتراجعه عن اتفاقه مع الرئيس بايدن في موضع رفع حد الديون.
غير أن ما دفعهم دفعاً إلى دعم إطاحته هو لومه إياهم وتحميلهم مسؤولية إغلاق الحكومة، بعد يوم واحد من تصويت جميع الديمقراطيين باستثناء صوت واحد، لمصلحة مشروع قانون إنفاق مؤقت الأسبوع الماضي.
لقد راهن الجمهوريون على احتمال إقناع الديمقراطيين خلال اجتماع «تجمّع حلّ المشاكل»، المكوّن من الحزبين، بأن التصويت لإبقاء مكارثي في منصبه أمر بالغ الأهمية لإنقاذ مجلس النواب كمؤسسة. لكن رهانهم سرعان ما تبدّد، لأن تبدّل البيئة السياسية وتصاعد الخلافات والانقسامات الحزبية خلال السنوات الأخيرة ما عادا يسمحان بالحصول على موافقة الديمقراطيين، على الرغم من اعتراف الحزبين بأهمية مجلس النواب كمؤسسة. وهكذا، بينما ردد الديمقراطيون انتقاداتهم لمكارثي، قال أحد الذين غادروا اجتماع «حل المشاكل» بصراحة: «لقد حفر (مكارثي) قبره بنفسه».
فرصة لتغيير قواعد اليمينيينعلى صعيد آخر، رغم عرض الجمهوريين على الديمقراطيين الفرصة لتغيير «القواعد» التي فرضها اليمينيون المتطرفون لإقالة رئيس مجلس النواب، حين وافقوا على دعم مكارثي بعد 15 جولة من التصويت، فقد رفض الديمقراطيون ذلك بحجة أنه لم يطلب مساعدتهم. كذلك، رفض العديد من الديمقراطيين خلال الاجتماع بين نواب الحزبين الشروط التي وعد بها الجمهوريون، بحجة أن «مكارثي تراجع في السابق عن الصفقات التي أبرمها معهم». وتطرّقوا إلى الإهانات المختلفة التي ادعوا أن مكارثي جلبها على مجلس النواب، ورفضوا مباشرة كلام حلفاء مكارثي بأنهم بحاجة إلى دعم رئيس مجلس النواب لإنقاذه.
وأوضحت النائبة الديمقراطية كاثرين كلارك، التي شاركت في الاجتماع، أن «القضايا التي يواجهها مكارثي هي القضايا ذاتها التي كانت موجودة بالفعل: انعدام الثقة، وإعطاء المطرقة للمتطرفين في تجمّعه الحزبي، وإحجامه عن الدفاع عن الديمقراطية».
وعرض رئيس التجمع الديمقراطي النائب بيت أغيلار، خلال الاجتماع المشترك، مقطع فيديو لمكارثي على برنامج «واجه الأمة» على شبكة «سي بي إس» يوم الأحد، حاول فيه إلقاء اللوم على الديمقراطيين في إغلاق الحكومة. وعدّ التهمة بمثابة تحريف لأحداث الأسابيع القليلة الماضية، عندما فشل النواب الجمهوريون في تمرير قانون تمويل الحكومة المؤقت، بدعم من الحزب الجمهوري فقط.
تبدّل البيئة السياسية وتصاعد الخلافات والانقسامات الحزبية عطّلا أي تفاهم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي
غايتز... منبوذ!
في هذه الأثناء، أثارت إطاحة مكارثي حفيظة النواب الجمهوريين الذين يخشون نشوب حرب داخل الحزب، ولذا دعموا بقاءه في منصبه، باستثناء 8 نواب يمينيين متطرفين، كانت أصواتهم كافية لإسقاطه. ذلك أنه بعد تقديم النائب اليميني المتطرف ماثيو غايتز (من ولاية فلوريدا) اقتراح عزل مكارثي واجهه العشرات من النواب الجمهوريين بصيحات الاستهجان، واتهموه بتصوير نفسه زوراً على أنه شهيد. ودافع غالبية الجمهوريين بقوة عن مكارثي مُدينين موقف غايتز، الذي منع من الجلوس مع الجمهوريين في قاعة المجلس.
هنا يمكن الإشارة إلى أنه قد يكون صحيحاً القول إن ما جرى يعكس تخبطاً سياسياً أكبر تعيشه الولايات المتحدة، لكن ما يبدو شبه محسوم وجود أزمة سياسية خطيرة في صفوف الجمهوريين. إذ لا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد الذي حدث، وليس ثمة شخصية جمهورية تبدو مستعدة لتولي المنصب أو قادرة على ذلك. لا بل هناك من يتوقع أن يحتفظ النائب باتريك ماكهنري، الذي سماه مكارثي رئيسا مؤقتا للمجلس، بمنصبه لساعات أو أيام أو حتى أشهر، إلى حين تمكُّن الجمهوريين من تقديم مرشح آخر، بعد إعلان مكارثي عزوفه عن الترشح مجدداً.
بعض التحليلات أشارت إلى أن «هيمنة» حفنة من المتطرّفين اليمينيين على تيار «المعتدلين» - الذي ما زال يشكل الغالبية في الحزب الجمهوري - تعكس هشاشة هذا التيار الذي يعجز حتى الساعة عن إنتاج برنامج سياسي واقتصادي واضح، يعيد على الأقل تقاليد «الريغانية» وإرثها.
لا، بل إن البعض ذهب إلى حد القول إن خوف مكارثي، أو غيره من «المعتدلين»، من التواصل مع الديمقراطيين كان سيؤدي إلى اتهامه بأنه صار «ديمقراطياً». وهي التهمة التي غالباً ما تُطلَق على أي جمهوري يميل إلى التفاهم مع طروحات الديمقراطيين، والعكس.
هكذا، بالضبط، خرجت النائبة ليز تشيني والسيناتور ميت رومني والسيناتور الراحل جون ماكين والرئيس جورج بوش وغيرهم من تحت «عباءة» الجمهوريين، في زمن يقود فيه حزبهم تيار «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى».
وللتذكير، عندما وضع الرئيس الأسبق رونالد ريغان - الذي لا خلاف على يمينيته - الأسس التي قادت إلى فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة، والتغلب على منافسة اليابان الاقتصادية في بداية الثمانينات، كان برنامجه يومذاك أقرب إلى الديمقراطيين منه إلى الجمهوريين، سواءً على مستوى السياسة الخارجية أو الداخلية.
بطاقة شخصية
- ولد كيفن مكارثي قبل 58 سنة في مدينة بيكرسفيلد بولاية كاليفورنيا، والتحق بجامعتها (كاليفورنيا ستايت - بيكرسفيلد) أثناء عمله كرجل إطفاء، وقد أصبح رئيسا لمجلس النواب بعد واحدة من المعارك التاريخية التي شهدها انتخاب رئيس جديد للمجلس.
- شغل قبل ذلك منصب زعيم الأقلية في مجلس النواب من 2019 إلى 2023، وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب من 2014 إلى 2018.
- تخلّى عن أول محاولة له لترؤس المجلس عام 2015، عندما ترشّح ليحلّ محل رئيس مجلس النواب المستقيل جون بوينر، بسبب اعتراضات أعضاء «تجمّع الحرية» اليميني المتشدد نفسه الذي عارضه اليوم.
- انتخب نائباً في مجلس نواب ولاية كاليفورنيا من 2002 إلى 2006. وفي ذلك العام انتخب لعضوية مجلس النواب الأميركي، ثم زعيماً للغالبية الجمهورية ليحل محل المنتهية ولايته إريك كانتور، الذي هُزم في انتخاباته التمهيدية عام 2014.
- كان مكارثي مدافعاً ثابتاً عن الرئيس السابق دونالد ترمب. وبعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020، أيد مكارثي رفض ترمب الاعتراف بفوز بايدن وشارك في جهود قلب النتائج، وصوّت على سبيل المثال لقلب نتائج انتخابات ولاية بنسلفانيا.
- بعد ذلك، أدان الهجوم على مبنى الكابيتول يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2020، ملقيا باللوم على ترمب عن أعمال الشغب، وقال إن انتخابات 2020 كانت شرعية. غير أنه تراجع لاحقاً عن هذه التعليقات وتصالح مع ترمب.