كيفن مكارثي... إسقاطه زجّ أميركا بأزمة سياسية حادة

الجمهوريون في مأزق... وتنازلات قادتهم للمتطرّفين تهدّد وحدة الحزب

كيفن مكارثي... إسقاطه زجّ أميركا بأزمة سياسية حادة
TT

كيفن مكارثي... إسقاطه زجّ أميركا بأزمة سياسية حادة

كيفن مكارثي... إسقاطه زجّ أميركا بأزمة سياسية حادة

لم يتحفظ رئيس مجلس النواب الأميركي المعزول كيفن مكارثي عن انتقاد الديمقراطيين، إذ لمّح في مؤتمر صحافي بعد التصويت على عزله إلى أن رئيسة المجلس السابقة نانسي بيلوسي «ضللته» عندما وعدته بدعمه حال سعى معارضوه إلى عزله. وأردف بلهجة تملأها الخيبة: «لقد كانت في هذه الغرفة عندما وعدتني... ما حصل قرار سياسي من الديمقراطيين، وأعتقد أن ما فعلوه في السابق آذى هذه المؤسسة. تقييمي هو أنها انهارت اليوم لأنها ما عادت تستطيع القيام بواجبها. فإذا تمكن 8 أشخاص فقط من التحالف مع الحزب المعارض لفعل ما فعلوه، كيف يمكن لهذه المؤسسة أن تحكم؟».

تنازل مُذلّ لليمين

في الواقع، مع أن مكارثي حصل خلال التصويت على دعم الغالبية العظمى من النواب الجمهوريين، فإنه فشل في الاحتفاظ بمنصبه لأن الجمهوريين لا يتمتّعون في مجلس النواب إلا بغالبية ضئيلة. وبالتالي، لتمرير أي تشريع، لا يمكن للجمهوريين سوى تحمّل خسارة أصوات 5 جمهورية، لكن مكارثي خسر 8 أصوات ولم يحظ في المقابل بدعم أي نائب ديمقراطي.

مع هذا، معظم التحليلات تُجمع على أن ما حدث لمكارثي «كان نتيجة التنازلات التي قدّمها مسبقاً» لنيل «رضى» 21 نائباً من غلاة المتطرفين اليمينيين الجمهوريين وضمان الفوز بمنصب رئيس مجلس النواب. وحقاً اتهم رئيس مجلس النواب المعزول بأن قبوله بالخضوع لسيف «الابتزاز السياسي» المُسلّط عليه، كان خدمة لمصلحته الشخصية، بدلاً من التعاون مع الديمقراطيين، الذي جاء بالنتيجة على حساب «المنصب» نفسه وحساب مجلس النواب كمؤسسة، بحسب منتقديه.

كان مكارثي قال ليلة الثلاثاء عن الجمهوريين الثمانية الذين صوّتوا للإطاحة به: «ليس بوسعهم الادعاء بأنهم محافظون لأنهم غاضبون وفوضويون... إنهم ليسوا محافظين وليس من حقهم الحصول على هذا اللقب». لكنه، مع ذلك، أظهر طاعة شبه مذلّة لليمين المتطرف، حتى اللحظة التي قرّروا فيها الإطاحة به. لقد قدم لهم التنازل تلو التنازل، ثم تراجع عن بعض الأمور التي اهتموا بها أكثر من غيرها، فيما يتعلق بالإنفاق، عندما ثبت أنه من المستحيل تحقيقها في حكومة منقسمة.

اليوم، يرى البعض أن الحزب الجمهوري بات يعد فعل الشيء الصحيح انتهاكاً لا فضيلة، وعلامة على الولاء الذي لا يغتفر للمؤسسة السياسية التقليدية. ومن ثم، كانت تلك التسويات هي المشكلة الأساسية بالنسبة لمكارثي، وقد تكون كذلك لخليفته في نهاية المطاف. وباختصار، أصبح الجمهوريون في مجلس النواب، المدينون بالفضل لقاعدة ترمب المعارضة للتسويات، عاجزين عن الحكم.

عقاب ديمقراطي

على الضفة المقابلة، لعب النواب الديمقراطيون دوراً كبيراً في إطاحة مكارثي، بعدما كانوا قد فكّروا في التصويت لمصلحته. وفي النهاية، قرّروا ألا يفعلوا... فصوتوا ككتلة واحدة ضده.

السبب عبر عنه اتهامه له بالعمل ضدهم وعزلهم على طول الطريق، رغم اضطراره للجوء إلى مساعدتهم غير مرّة في اللحظات الحاسمة. ومن هذه المرّات حين وقّع اتفاقاً مع البيت الأبيض على تجنّب العجز الفيدرالي في مايو (أيار) الماضي، وحين أقرّ قانوناً مؤقتاً لتجنب إغلاق الحكومة بنهاية الأسبوع الماضي تحت عنوان «حماية الأمة»، وفق داعميه.

وما يجدر ذكره أن مكارثي كان قد وعد الديمقراطيين بمعاملة عادلة وبدور في الحكم، إلا أنه بعد ذلك دفع بتشريعات حزبية أثارت غضبهم. وأيضاً تراجع عن اتفاقاته مع البيت الأبيض، بل وأطلق بشكل منفرد - تحت ضغوط الجمهوريين اليمينيين المتطرفين - تحقيقاً لعزل الرئيس بايدن حتى قبل تقديم اللجنة النيابية المكلّفة بدراسة القضية أي أدلة جدّية.

وهنا تقول صحيفة «واشنطن بوست» إن «تحالفاً غريباً» ضم 8 جمهوريين يمينيين متطرفين وجميع الديمقراطيين في المجلس صوّت لصالح عزل مكارثي. وتضيف أن الديمقراطيين كانوا قد عرضوا عليه المساعدة، لكنه رفض ذلك، وكذلك رفض علانية دعوتهم ليكون رئيساً ائتلافياً مقابل دعمهم. ولذا، في ضوء قلة ثقتهم به، قرّروا المضي في إطاحته لأنه حسب تعبيرهم شخصية أدت إلى «تآكل الديمقراطية».

وما يستحق الإشارة، في هذا الإطار، أن حكيم جيفريز، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، كان قد حث الجمهوريين المعتدلين على الانفصال عن «المتطرفين» في حزبهم، والانضمام إلى الديمقراطيين «من أجل تحريك الكونغرس والبلاد إلى الأمام». وجاءت دعوته هذه بعد اجتماع مغلق مثير للحزب الديمقراطي، حيث لم يُسمح باستخدام الهواتف الجوّالة، وناقش الأعضاء كيفية التعامل مع التصويت الوشيك. وبالفعل، قال جيفريز للصحافيين «نحن مستعدون وراغبون وقادرون على العمل مع زملائنا الجمهوريين، لكن عليهم الانضمام إلينا».

ولاحقاً، خرج النواب الديمقراطيون من الاجتماع موحّدين في تحميل مكارثي مسؤولية:

1- استرضاء الرئيس السابق دونالد ترمب، بعد هجوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021 على مبنى الكابيتول.

2- زيارته في منتجعه بولاية فلوريدا بعد وقت قصير من ترك الرئيس منصبه.

3- محاولته إحباط جهود اللجنة المختارة بمجلس النواب المكلفة بالتحقيق في التمرد.

4- غضب الديمقراطيين عليه لتراجعه عن اتفاقه مع الرئيس بايدن في موضع رفع حد الديون.

غير أن ما دفعهم دفعاً إلى دعم إطاحته هو لومه إياهم وتحميلهم مسؤولية إغلاق الحكومة، بعد يوم واحد من تصويت جميع الديمقراطيين باستثناء صوت واحد، لمصلحة مشروع قانون إنفاق مؤقت الأسبوع الماضي.

لقد راهن الجمهوريون على احتمال إقناع الديمقراطيين خلال اجتماع «تجمّع حلّ المشاكل»، المكوّن من الحزبين، بأن التصويت لإبقاء مكارثي في منصبه أمر بالغ الأهمية لإنقاذ مجلس النواب كمؤسسة. لكن رهانهم سرعان ما تبدّد، لأن تبدّل البيئة السياسية وتصاعد الخلافات والانقسامات الحزبية خلال السنوات الأخيرة ما عادا يسمحان بالحصول على موافقة الديمقراطيين، على الرغم من اعتراف الحزبين بأهمية مجلس النواب كمؤسسة. وهكذا، بينما ردد الديمقراطيون انتقاداتهم لمكارثي، قال أحد الذين غادروا اجتماع «حل المشاكل» بصراحة: «لقد حفر (مكارثي) قبره بنفسه».

فرصة لتغيير قواعد اليمينيينعلى صعيد آخر، رغم عرض الجمهوريين على الديمقراطيين الفرصة لتغيير «القواعد» التي فرضها اليمينيون المتطرفون لإقالة رئيس مجلس النواب، حين وافقوا على دعم مكارثي بعد 15 جولة من التصويت، فقد رفض الديمقراطيون ذلك بحجة أنه لم يطلب مساعدتهم. كذلك، رفض العديد من الديمقراطيين خلال الاجتماع بين نواب الحزبين الشروط التي وعد بها الجمهوريون، بحجة أن «مكارثي تراجع في السابق عن الصفقات التي أبرمها معهم». وتطرّقوا إلى الإهانات المختلفة التي ادعوا أن مكارثي جلبها على مجلس النواب، ورفضوا مباشرة كلام حلفاء مكارثي بأنهم بحاجة إلى دعم رئيس مجلس النواب لإنقاذه.

وأوضحت النائبة الديمقراطية كاثرين كلارك، التي شاركت في الاجتماع، أن «القضايا التي يواجهها مكارثي هي القضايا ذاتها التي كانت موجودة بالفعل: انعدام الثقة، وإعطاء المطرقة للمتطرفين في تجمّعه الحزبي، وإحجامه عن الدفاع عن الديمقراطية».

وعرض رئيس التجمع الديمقراطي النائب بيت أغيلار، خلال الاجتماع المشترك، مقطع فيديو لمكارثي على برنامج «واجه الأمة» على شبكة «سي بي إس» يوم الأحد، حاول فيه إلقاء اللوم على الديمقراطيين في إغلاق الحكومة. وعدّ التهمة بمثابة تحريف لأحداث الأسابيع القليلة الماضية، عندما فشل النواب الجمهوريون في تمرير قانون تمويل الحكومة المؤقت، بدعم من الحزب الجمهوري فقط.

تبدّل البيئة السياسية وتصاعد الخلافات والانقسامات الحزبية عطّلا أي تفاهم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي

غايتز... منبوذ!

في هذه الأثناء، أثارت إطاحة مكارثي حفيظة النواب الجمهوريين الذين يخشون نشوب حرب داخل الحزب، ولذا دعموا بقاءه في منصبه، باستثناء 8 نواب يمينيين متطرفين، كانت أصواتهم كافية لإسقاطه. ذلك أنه بعد تقديم النائب اليميني المتطرف ماثيو غايتز (من ولاية فلوريدا) اقتراح عزل مكارثي واجهه العشرات من النواب الجمهوريين بصيحات الاستهجان، واتهموه بتصوير نفسه زوراً على أنه شهيد. ودافع غالبية الجمهوريين بقوة عن مكارثي مُدينين موقف غايتز، الذي منع من الجلوس مع الجمهوريين في قاعة المجلس.

هنا يمكن الإشارة إلى أنه قد يكون صحيحاً القول إن ما جرى يعكس تخبطاً سياسياً أكبر تعيشه الولايات المتحدة، لكن ما يبدو شبه محسوم وجود أزمة سياسية خطيرة في صفوف الجمهوريين. إذ لا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد الذي حدث، وليس ثمة شخصية جمهورية تبدو مستعدة لتولي المنصب أو قادرة على ذلك. لا بل هناك من يتوقع أن يحتفظ النائب باتريك ماكهنري، الذي سماه مكارثي رئيسا مؤقتا للمجلس، بمنصبه لساعات أو أيام أو حتى أشهر، إلى حين تمكُّن الجمهوريين من تقديم مرشح آخر، بعد إعلان مكارثي عزوفه عن الترشح مجدداً.

بعض التحليلات أشارت إلى أن «هيمنة» حفنة من المتطرّفين اليمينيين على تيار «المعتدلين» - الذي ما زال يشكل الغالبية في الحزب الجمهوري - تعكس هشاشة هذا التيار الذي يعجز حتى الساعة عن إنتاج برنامج سياسي واقتصادي واضح، يعيد على الأقل تقاليد «الريغانية» وإرثها.

لا، بل إن البعض ذهب إلى حد القول إن خوف مكارثي، أو غيره من «المعتدلين»، من التواصل مع الديمقراطيين كان سيؤدي إلى اتهامه بأنه صار «ديمقراطياً». وهي التهمة التي غالباً ما تُطلَق على أي جمهوري يميل إلى التفاهم مع طروحات الديمقراطيين، والعكس.

هكذا، بالضبط، خرجت النائبة ليز تشيني والسيناتور ميت رومني والسيناتور الراحل جون ماكين والرئيس جورج بوش وغيرهم من تحت «عباءة» الجمهوريين، في زمن يقود فيه حزبهم تيار «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى».

وللتذكير، عندما وضع الرئيس الأسبق رونالد ريغان - الذي لا خلاف على يمينيته - الأسس التي قادت إلى فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة، والتغلب على منافسة اليابان الاقتصادية في بداية الثمانينات، كان برنامجه يومذاك أقرب إلى الديمقراطيين منه إلى الجمهوريين، سواءً على مستوى السياسة الخارجية أو الداخلية.

بطاقة شخصية

- ولد كيفن مكارثي قبل 58 سنة في مدينة بيكرسفيلد بولاية كاليفورنيا، والتحق بجامعتها (كاليفورنيا ستايت - بيكرسفيلد) أثناء عمله كرجل إطفاء، وقد أصبح رئيسا لمجلس النواب بعد واحدة من المعارك التاريخية التي شهدها انتخاب رئيس جديد للمجلس.

- شغل قبل ذلك منصب زعيم الأقلية في مجلس النواب من 2019 إلى 2023، وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب من 2014 إلى 2018.

- تخلّى عن أول محاولة له لترؤس المجلس عام 2015، عندما ترشّح ليحلّ محل رئيس مجلس النواب المستقيل جون بوينر، بسبب اعتراضات أعضاء «تجمّع الحرية» اليميني المتشدد نفسه الذي عارضه اليوم.

- انتخب نائباً في مجلس نواب ولاية كاليفورنيا من 2002 إلى 2006. وفي ذلك العام انتخب لعضوية مجلس النواب الأميركي، ثم زعيماً للغالبية الجمهورية ليحل محل المنتهية ولايته إريك كانتور، الذي هُزم في انتخاباته التمهيدية عام 2014.

- كان مكارثي مدافعاً ثابتاً عن الرئيس السابق دونالد ترمب. وبعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020، أيد مكارثي رفض ترمب الاعتراف بفوز بايدن وشارك في جهود قلب النتائج، وصوّت على سبيل المثال لقلب نتائج انتخابات ولاية بنسلفانيا.

- بعد ذلك، أدان الهجوم على مبنى الكابيتول يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2020، ملقيا باللوم على ترمب عن أعمال الشغب، وقال إن انتخابات 2020 كانت شرعية. غير أنه تراجع لاحقاً عن هذه التعليقات وتصالح مع ترمب.


مقالات ذات صلة

أميركا: «تيك توك» يجمع البيانات ويتلاعب بالمحتوى

الولايات المتحدة​ علم الولايات المتحدة وأعلاه شعار التطبيق الصيني «تيك توك» (رويترز)

أميركا: «تيك توك» يجمع البيانات ويتلاعب بالمحتوى

فصل جديد من الرفض الأميركي للتطبيق الصيني «تيك توك» انطلاقاً من كونه «يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
آسيا وزير الخارجية الصيني وانغ يي في لاوس (أ.ف.ب)

تحذير صيني للفلبين من نشر صواريخ أميركية

حذر وزير الخارجية الصيني وانغ يي الفلبين من نشر الصواريخ الأميركية متوسطة المدى، قائلاً إن هذه الخطوة قد تغذي التوترات الإقليمية وتشعل سباق تسلح.

«الشرق الأوسط» (بكين)
حصاد الأسبوع كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

الولايات المتحدة​ 
ترمب ونتنياهو قبل بدء اجتماعهما أمس (د.ب.أ)

نتنياهو يستكمل «مظلته» الأميركية بلقاء ترمب

بلقائه الرئيس الأميركي السابق، وربما اللاحق، دونالد ترمب، أكمل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمس، مظلته الأميركية، التي شملت وقفة في الكونغرس

هبة القدسي (واشنطن) نظير مجلي (تل أبيب)
الولايات المتحدة​ 
بايدن وهاريس في فيلادلفيا 3 فبراير 2023 (أ.ب)

بعد دعم أوباما... هاريس تقترب من الترشيح الديمقراطي

اقتربت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس من انتزاع ترشيح الحزب الديمقراطي رسمياً لخوض سباق الرئاسة أمام دونالد ترمب، بعد التأييد الذي حظيت به علناً من الرئيس.

علي بردى (واشنطن) هبة القدسي (واشنطن)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».