برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح
TT

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

فاز برناردو أريفالو يوم 20 أغسطس (آب) بالجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة في غواتيمالا متغلباً على منافسته ساندرا توريس بفارق كبير، ومن المقرر أن يقسم اليمين الدستورية ويتولى منصبه رسمياً يوم 14 يناير (كانون الثاني) المقبل، ليغدو الرئيس الـ52 لكبرى دول أميركا الوسطى. المرشح الفائز، الذي يقود حزب «سيمييا» – أي البذرة – المحسوب على يسار الوسط، ومنافسته توريس ليسا شخصيتان طارئتان على المشهد السياسي في غواتيمالا. إذ إن أريفالو ابن رئيس جمهورية سابق هو خوان خوسيه أريفالو، بينما توريس، مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» (أيضاً يسار الوسط) زوجة رئيس سابق للجمهورية، وخاضت الجولة الثانية الحاسمة من المعركة محاولة استقطاب أصوات اليمين. ومن جهة أخرى، فإن غواتيمالا «جارة» المكسيك من الشرق، وشريكتها في كونها مهد حضارة شعب المايا العريقة قلّما عرفت الاستقرار السياسي لفترات طويلة، بل كانت على الدوام في طليعة الدول المتأثرة بالاستقطابات الآيديولوجية والتجارب الديكتاتورية والعنف السياسي والحسابات الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما إبان حقبة «الحرب الباردة».

ليس سهلاً أن تكون سياسيا في غواتيمالا... البوابة الشمالية لدول أميركا الوسطى الممتدة من حدود المكسيك غرباً إلى حدود كولومبيا شرقاً. والدولتان هما أكبر الدول الناطقة بالإسبانية في العالم. فهذه الدولة التي تعتز بأنها مهد حضارة شعب المايا، إحدى أعظم حضارات أميركا القديمة، عاشت مسيرة سياسية مضطربة، وكانت من الدول الأميركية اللاتينية التي شعرت بوطأة استقطابات «الحرب الباردة»، وبالأخص بعد «الثورة الكوبية» بقيادة فيديل كاسترو. ولئن كانت مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية قد رسمت لسنوات عديدة ملامح الصراعات السياسية في دول كفنزويلا (النفط) وبوليفيا (القصدير) وتشيلي (النحاس)... فإنها عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية كانت قوة فاعلة ومؤثرة في حياة غواتيمالا.

ولكن، ما إن انحسر تأثير «الحرب الباردة» حتى بزغت في عدد من دول أميركا اللاتينية، بشمال القارة وجنوبها ووسطها، ظاهرة الحركة «الإيفانجيلية» (أو «الإنجيليون الجدد») البروتستانتية المتشددة التي تغلغلت عبر العقود الأخيرة في أكبر خزّان بشري مسيحي كاثوليكي في العالم. وبالفعل، كان «الإنجيليون الجدد»، بفضل التزام أصواتهم وإمكاناتهم المالية قوة حقيقية أسهمت في فوز الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد السابق جاير بولسونارو بالانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة في البرازيل – كبرى دول العالم التي تدين بالمسيحية الكاثوليكية. والحقيقة أن هذه الحركة استفادت كثيراً ليس فقط من دعم الجماعات «الإيفانجيلية» المتشددة في الولايات المتحدة، بل أيضاً اجتذبت دعماً لا بأس به من قوى اليمين التقليدي الذي نفر من ميل تيار من رجال الإكليروس في دول أميركا اللاتينية إلى معسكر اليسار بتأثير من قساوسة يؤمنون بـ«التديّن الثوري». وحالياً في دول عديدة منها كولومبيا وغواتيمالا لـ«الإنجيليين الجدد» صوت مسموع ونفوذ كبير.

برناردو أريفالدو... سيرة ذاتية

ولد سيزار برناردو أريفالدو دي ليون، وهذا هو اسمه الكامل، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958 في مدينة مونتيفيديو، عاصمة جمهورية الأوروغواي، لعائلة سياسية غواتيمالية بارزة مع أنها تنتمي أصلاً إلى الطبقة الوسطى. إذ إن أباه خوان خوسيه أريفالدو كان سياسياً ومثقفاً وطنياً وإصلاحياً تولى رئاسة الجمهورية في غواتيمالا بين عامي 1945 و1951. ولقد عاش أريفالدو الأب منفياً خارج البلاد بعد الانقلاب اليميني الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي آيه) عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية عام 1954. وإبان سنوات نفيه أنجب من زوجته الثانية مارغاريتا دي ليون ابنه برناردو، الرئيس المنتخب، في مونتيفيديو.

غير أن مكوث العائلة في الأوروغواي لم يطل كثيراً، إذ غادرت تلك البلاد عندما كان برناردو دون الثانية من عمره، ومن ثم أمضى الطفل عدة سنوات متنقلاً مع العائلة بين فنزويلا والمكسيك وتشيلي، ولم يعد إلى غواتيمالا إلا بعد بلوغه الخامسة عشرة من العمر. وفي أرض الوطن تلقى تعليمه في إحدى المدارس الكاثوليكية الخاصة في العاصمة غواتيمالا سيتي. وفيما بعد تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة العبرية في إسرائيل حيث حصل على بكالوريوس آداب في علم الاجتماع، وتابع دراساته العليا ليحصل على درجة دكتوراه في الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوترخت في هولندا.

أما على مستوى حالته الاجتماعية، فإن أريفالدو تزوج ثلاث مرات، وأنجب 6 أولاد وبنات. زواجه الأول كان عام 1983 من سيدة أرجنتينية لكنهما تطلقا عام 1992. وبعدها تزوّج من زميلة له في السلك الدبلوماسي الغواتيمالي وأنجب منها ابنتين. أما زوجته الحالية منذ 2011 فهي لوكريسيا بينادو.

مع السلك الدبلوماسي

خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي التحق برناردو أريفالدو بوزارة خارجية بلاده وانضم إلى السلك الدبلوماسي، وخدم بين عامي 1984 و1986 بوظيفة سكرتير أول وقنصل في السفارة الغواتيمالية لدى إسرائيل، وفيما بعد أصبح وزيراً مفوضاً ومستشاراً بين 1987 و1988.

عام 1988 عاد إلى بلاده حيث عيّن نائب مدير للدراسات الاستراتيجية والتخطيط في وزارة الخارجية. وترقّى بعد ذلك ليشغل منصب مدير السياسات الخارجية الثنائية بين 1990 و1991، ثم مدير العلاقات الدولية الثنائية بين 1992 و1993، ثم العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية بين 1993 و1994.

تلك المسيرة في العمل الدبلوماسي انتهت بقرار تعيينه نائباً لوزير الخارجية حتى عام 1995، لكنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع، إذ سرعان ما عيّن سفيراً لدى إسبانيا، وفي ذلك العام قدّم أوراق اعتماده إلى ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول عام 1996. وفي وقت لاحق من العام ذاته استقال من المنصب وغادر وزارة الخارجية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أريفالدو يجيد، فضلاً عن الإسبانية التي هي لغته الأم، كلاً من الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والعبرية.

الأبحاث... ثم السياسة

المحطة التالية في مسيرة أريفالدو، في أعقاب تركه السلك الدبلوماسي، كانت الأبحاث، إذ شغل منصب عضو مجلس إدارة مركز الأبحاث الإقليمية لأميركا الوسطى ورئيساً له. ومنذ عام 1999 تولى عدداً من المهام في منظمة «إنتربيس» الدولية للترويج لصنع السلام الدائم وحفظه، وغطى نشاطه دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبجانب مهام حفظ السلام عمل أريفالدو مستشاراً لعدة منظمات بينها الأمم المتحدة ومعهد السلام في الولايات المتحدة وجامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية، ناهيك من كتابته مجموعة من الكتب في مجالات تخصصه، في التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والدبلوماسية.

إلا أن طموحات الدبلوماسي والباحث وابن الزعيم السياسي لم تتوقّف عند هذا الحد، بل انخرط في العمل السياسي المباشر بعدما دفعته الأوضاع في غواتيمالا إلى التحرك الجاد. وفعلاً شارك عام 1915 في المظاهرات الشعبية المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية اليميني - المتهم بالفساد - أوتو بيريز مولينا. وخلال فترة قصيرة التقى جمهرة من المثقفين والليبراليين الإصلاحيين وأسسوا معا حركة «سيمييا» (البذرة) التي كانت قد أبصرت النور بوصفها تجمعا فكريا، وتحوّلت بعد ذلك إلى حزب سياسي عام 2017.

وحقاً، خلال الانتخابات الرئاسية عام 2019 كان أريفالدو المرشح المحتمل الأبرز لخوض الانتخابات باسم الحركة، قبل أن يحجم عن الترشح، وتسمي الحركة زميلته ثيلما آلدانا، المدعية العامة السابقة رئيسة المحكمة العليا، غير أن آلدانا نفسها منعت لاحقاً من الترشح. في المقابل، حول أريفالدو أنظاره إلى الكونغرس (المجلس التشريعي)، فتقدم بترشحه وانتخب على القائمة الوطنية، وتسلم مقعده في مطلع عام 2020، وفي هذه الأثناء قاد الكتلة البرلمانية لحركة «سيمييا» في الكونغرس، قبل أن يصار إلى انتخابه أميناً عاماً للحركة في العام الفائت 2022 خلفاً للأمين العام السابق صامويل بيريز ألفاريز.

المعركة الفاصلة على طريق الرئاسة

يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2023 أعلنت حركة «سيمييا» ترشيحها برناردو أريفالدو في انتخابات رئاسة الجمهورية، واختارت معه زميلته كارين هيريرا لمنصب نائب الرئيس. وبالفعل، يوم 16 فبراير (شباط) أقرت اللجنة العليا للانتخابات ترشح أريفالدو وهيريرا رسمياً وانطلقت على الأثر الحملة الانتخابية للحركة.

طوال الحملة التي لقب فيها مناصرو أريفالدو مرشحهم بـ«العم بيرني»، تشبيهاً له بالسيناتور الأميركي اليساري بيرني ساندرز، ركّز المرشح الرئاسي أولوياته أمام جمهور الناخبين على مكافحة الفساد الحكومي وانعدام الأمان، وضرورة العمل على خلق فرص عمل وتشجيع سياسات بيئية نظيفة تتعامل بجدية مع التغير المناخي. أما آيديولوجياً، فيعد أريفالدو نفسه وريثاً لنهج أبيه الإصلاحي التقدمي، وكذلك جاكوبو آربنز الوزير اليساري السابق في حكومة أبيه الذي صار رئيسا للجمهورية قبل أن يطيحه انقلاب 1954. والواقع أنه وصف نفسه مراراً بأنه «ديمقراطي اجتماعي» مؤمن بالنظام الجمهوري الديمقراطي، وقال إنه يؤمن بأن تضمن الدولة العدالة الاجتماعية والملكية الخاصة في آن معاً، وأعرب عن اهتمامه بتعزيز الأمن الاجتماعي.

مع هذا لم تجتذب شعارات أريفالدو كثيرا من الحماسة الجماهيرية عند انطلاق الحملة، إذ إن أحد استطلاعات الرأي المبكرة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي وضعه في المرتبة ما قبل الأخيرة بين حشد المرشحين المتنافسين، وبنسبة تأييد لا تزيد على 0.7 في المائة. إلا أن وضعه تحسن ببطء في استطلاعات مايو (أيار) ويونيو (حزيران) وارتفعت نسبة تأييده إلى ما يقرب من 2 في المائة.

وجاءت الجولة الأولى من الاقتراع، وفيها تمكن من احتلال المرتبة الثانية - وسط دهشة أجهزة إعلام عالمية كبرى واستغرابها - وبذا دخل الجولة الثانية الحاسمة ضد مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» ساندرا توريس الزوجة السابقة للرئيس السابق الراحل آلفارو كولوم. وليس هذا فحسب، بل نجحت حركة «سيمييا» بكسب نسبة عالية من الأصوات أهلتها لتصبح ليس ثالث أكبر الأحزاب في الكونغرس، بل أيضاً في «برلمان أميركا الوسطى» والمجلس المحلي للعاصمة غواتيمالا سيتي.

قوى اليمين حاولت التعطيل لكنها فشلت

قوى اليمين، وعلى رأسها حزب «فاموس» الحاكم - عبر الرئيس المنتهية ولايته أليخاندرو غياماتي - بوغتت بهذه النتيجة، فسعت إلى تأجيل تثبيتها وإقرارها بحجة وجود تلاعب وتزوير لمصلحة أريفالدو، بل وطالبت بإعادة عملية الاقتراع. وأذعن القضاء لمطالبات اليمين، جزئياً، إذ طلب إجراء مراجعة للنتائج المشتبه بها، وأجريت المراجعة خلال الأسبوع الأول من يوليو (تموز) الماضي، غير أنه بعدما تأكد أن لا صحة لحجج قوى اليمين، رفضت المحكمة العليا المطالبات وأقرّت اللجنة العليا للانتخابات النتائج رسمياً. وبالتالي، أتاح هذا القرار تنظيم انتخابات الجولة الثانية.

في هذه الأثناء، خارج غواتيمالا أثارت مواقف اليمين الشرس - والمتعوّد على التعطيل ولو باعتماد العنف – غضبة دولية واسعة بعدما وصلت إلى المطالبة بتعليق قانونية وضع حركة «سيمييا» وإلغاء أهليتها. وشملت هذه الغضبة حتى الكونغرس الأميركي إلى جانب قيادات بارزة في أميركا اللاتينية وإسبانيا. بل، وبلغ الأمر بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى حد مناشدة الرئيس جو بايدن فرض عقوبات على كل من «يهدّد الديمقراطية» في غواتيمالا.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».