برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح
TT

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

فاز برناردو أريفالو يوم 20 أغسطس (آب) بالجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة في غواتيمالا متغلباً على منافسته ساندرا توريس بفارق كبير، ومن المقرر أن يقسم اليمين الدستورية ويتولى منصبه رسمياً يوم 14 يناير (كانون الثاني) المقبل، ليغدو الرئيس الـ52 لكبرى دول أميركا الوسطى. المرشح الفائز، الذي يقود حزب «سيمييا» – أي البذرة – المحسوب على يسار الوسط، ومنافسته توريس ليسا شخصيتان طارئتان على المشهد السياسي في غواتيمالا. إذ إن أريفالو ابن رئيس جمهورية سابق هو خوان خوسيه أريفالو، بينما توريس، مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» (أيضاً يسار الوسط) زوجة رئيس سابق للجمهورية، وخاضت الجولة الثانية الحاسمة من المعركة محاولة استقطاب أصوات اليمين. ومن جهة أخرى، فإن غواتيمالا «جارة» المكسيك من الشرق، وشريكتها في كونها مهد حضارة شعب المايا العريقة قلّما عرفت الاستقرار السياسي لفترات طويلة، بل كانت على الدوام في طليعة الدول المتأثرة بالاستقطابات الآيديولوجية والتجارب الديكتاتورية والعنف السياسي والحسابات الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما إبان حقبة «الحرب الباردة».

ليس سهلاً أن تكون سياسيا في غواتيمالا... البوابة الشمالية لدول أميركا الوسطى الممتدة من حدود المكسيك غرباً إلى حدود كولومبيا شرقاً. والدولتان هما أكبر الدول الناطقة بالإسبانية في العالم. فهذه الدولة التي تعتز بأنها مهد حضارة شعب المايا، إحدى أعظم حضارات أميركا القديمة، عاشت مسيرة سياسية مضطربة، وكانت من الدول الأميركية اللاتينية التي شعرت بوطأة استقطابات «الحرب الباردة»، وبالأخص بعد «الثورة الكوبية» بقيادة فيديل كاسترو. ولئن كانت مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية قد رسمت لسنوات عديدة ملامح الصراعات السياسية في دول كفنزويلا (النفط) وبوليفيا (القصدير) وتشيلي (النحاس)... فإنها عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية كانت قوة فاعلة ومؤثرة في حياة غواتيمالا.

ولكن، ما إن انحسر تأثير «الحرب الباردة» حتى بزغت في عدد من دول أميركا اللاتينية، بشمال القارة وجنوبها ووسطها، ظاهرة الحركة «الإيفانجيلية» (أو «الإنجيليون الجدد») البروتستانتية المتشددة التي تغلغلت عبر العقود الأخيرة في أكبر خزّان بشري مسيحي كاثوليكي في العالم. وبالفعل، كان «الإنجيليون الجدد»، بفضل التزام أصواتهم وإمكاناتهم المالية قوة حقيقية أسهمت في فوز الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد السابق جاير بولسونارو بالانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة في البرازيل – كبرى دول العالم التي تدين بالمسيحية الكاثوليكية. والحقيقة أن هذه الحركة استفادت كثيراً ليس فقط من دعم الجماعات «الإيفانجيلية» المتشددة في الولايات المتحدة، بل أيضاً اجتذبت دعماً لا بأس به من قوى اليمين التقليدي الذي نفر من ميل تيار من رجال الإكليروس في دول أميركا اللاتينية إلى معسكر اليسار بتأثير من قساوسة يؤمنون بـ«التديّن الثوري». وحالياً في دول عديدة منها كولومبيا وغواتيمالا لـ«الإنجيليين الجدد» صوت مسموع ونفوذ كبير.

برناردو أريفالدو... سيرة ذاتية

ولد سيزار برناردو أريفالدو دي ليون، وهذا هو اسمه الكامل، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958 في مدينة مونتيفيديو، عاصمة جمهورية الأوروغواي، لعائلة سياسية غواتيمالية بارزة مع أنها تنتمي أصلاً إلى الطبقة الوسطى. إذ إن أباه خوان خوسيه أريفالدو كان سياسياً ومثقفاً وطنياً وإصلاحياً تولى رئاسة الجمهورية في غواتيمالا بين عامي 1945 و1951. ولقد عاش أريفالدو الأب منفياً خارج البلاد بعد الانقلاب اليميني الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي آيه) عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية عام 1954. وإبان سنوات نفيه أنجب من زوجته الثانية مارغاريتا دي ليون ابنه برناردو، الرئيس المنتخب، في مونتيفيديو.

غير أن مكوث العائلة في الأوروغواي لم يطل كثيراً، إذ غادرت تلك البلاد عندما كان برناردو دون الثانية من عمره، ومن ثم أمضى الطفل عدة سنوات متنقلاً مع العائلة بين فنزويلا والمكسيك وتشيلي، ولم يعد إلى غواتيمالا إلا بعد بلوغه الخامسة عشرة من العمر. وفي أرض الوطن تلقى تعليمه في إحدى المدارس الكاثوليكية الخاصة في العاصمة غواتيمالا سيتي. وفيما بعد تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة العبرية في إسرائيل حيث حصل على بكالوريوس آداب في علم الاجتماع، وتابع دراساته العليا ليحصل على درجة دكتوراه في الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوترخت في هولندا.

أما على مستوى حالته الاجتماعية، فإن أريفالدو تزوج ثلاث مرات، وأنجب 6 أولاد وبنات. زواجه الأول كان عام 1983 من سيدة أرجنتينية لكنهما تطلقا عام 1992. وبعدها تزوّج من زميلة له في السلك الدبلوماسي الغواتيمالي وأنجب منها ابنتين. أما زوجته الحالية منذ 2011 فهي لوكريسيا بينادو.

مع السلك الدبلوماسي

خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي التحق برناردو أريفالدو بوزارة خارجية بلاده وانضم إلى السلك الدبلوماسي، وخدم بين عامي 1984 و1986 بوظيفة سكرتير أول وقنصل في السفارة الغواتيمالية لدى إسرائيل، وفيما بعد أصبح وزيراً مفوضاً ومستشاراً بين 1987 و1988.

عام 1988 عاد إلى بلاده حيث عيّن نائب مدير للدراسات الاستراتيجية والتخطيط في وزارة الخارجية. وترقّى بعد ذلك ليشغل منصب مدير السياسات الخارجية الثنائية بين 1990 و1991، ثم مدير العلاقات الدولية الثنائية بين 1992 و1993، ثم العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية بين 1993 و1994.

تلك المسيرة في العمل الدبلوماسي انتهت بقرار تعيينه نائباً لوزير الخارجية حتى عام 1995، لكنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع، إذ سرعان ما عيّن سفيراً لدى إسبانيا، وفي ذلك العام قدّم أوراق اعتماده إلى ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول عام 1996. وفي وقت لاحق من العام ذاته استقال من المنصب وغادر وزارة الخارجية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أريفالدو يجيد، فضلاً عن الإسبانية التي هي لغته الأم، كلاً من الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والعبرية.

الأبحاث... ثم السياسة

المحطة التالية في مسيرة أريفالدو، في أعقاب تركه السلك الدبلوماسي، كانت الأبحاث، إذ شغل منصب عضو مجلس إدارة مركز الأبحاث الإقليمية لأميركا الوسطى ورئيساً له. ومنذ عام 1999 تولى عدداً من المهام في منظمة «إنتربيس» الدولية للترويج لصنع السلام الدائم وحفظه، وغطى نشاطه دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبجانب مهام حفظ السلام عمل أريفالدو مستشاراً لعدة منظمات بينها الأمم المتحدة ومعهد السلام في الولايات المتحدة وجامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية، ناهيك من كتابته مجموعة من الكتب في مجالات تخصصه، في التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والدبلوماسية.

إلا أن طموحات الدبلوماسي والباحث وابن الزعيم السياسي لم تتوقّف عند هذا الحد، بل انخرط في العمل السياسي المباشر بعدما دفعته الأوضاع في غواتيمالا إلى التحرك الجاد. وفعلاً شارك عام 1915 في المظاهرات الشعبية المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية اليميني - المتهم بالفساد - أوتو بيريز مولينا. وخلال فترة قصيرة التقى جمهرة من المثقفين والليبراليين الإصلاحيين وأسسوا معا حركة «سيمييا» (البذرة) التي كانت قد أبصرت النور بوصفها تجمعا فكريا، وتحوّلت بعد ذلك إلى حزب سياسي عام 2017.

وحقاً، خلال الانتخابات الرئاسية عام 2019 كان أريفالدو المرشح المحتمل الأبرز لخوض الانتخابات باسم الحركة، قبل أن يحجم عن الترشح، وتسمي الحركة زميلته ثيلما آلدانا، المدعية العامة السابقة رئيسة المحكمة العليا، غير أن آلدانا نفسها منعت لاحقاً من الترشح. في المقابل، حول أريفالدو أنظاره إلى الكونغرس (المجلس التشريعي)، فتقدم بترشحه وانتخب على القائمة الوطنية، وتسلم مقعده في مطلع عام 2020، وفي هذه الأثناء قاد الكتلة البرلمانية لحركة «سيمييا» في الكونغرس، قبل أن يصار إلى انتخابه أميناً عاماً للحركة في العام الفائت 2022 خلفاً للأمين العام السابق صامويل بيريز ألفاريز.

المعركة الفاصلة على طريق الرئاسة

يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2023 أعلنت حركة «سيمييا» ترشيحها برناردو أريفالدو في انتخابات رئاسة الجمهورية، واختارت معه زميلته كارين هيريرا لمنصب نائب الرئيس. وبالفعل، يوم 16 فبراير (شباط) أقرت اللجنة العليا للانتخابات ترشح أريفالدو وهيريرا رسمياً وانطلقت على الأثر الحملة الانتخابية للحركة.

طوال الحملة التي لقب فيها مناصرو أريفالدو مرشحهم بـ«العم بيرني»، تشبيهاً له بالسيناتور الأميركي اليساري بيرني ساندرز، ركّز المرشح الرئاسي أولوياته أمام جمهور الناخبين على مكافحة الفساد الحكومي وانعدام الأمان، وضرورة العمل على خلق فرص عمل وتشجيع سياسات بيئية نظيفة تتعامل بجدية مع التغير المناخي. أما آيديولوجياً، فيعد أريفالدو نفسه وريثاً لنهج أبيه الإصلاحي التقدمي، وكذلك جاكوبو آربنز الوزير اليساري السابق في حكومة أبيه الذي صار رئيسا للجمهورية قبل أن يطيحه انقلاب 1954. والواقع أنه وصف نفسه مراراً بأنه «ديمقراطي اجتماعي» مؤمن بالنظام الجمهوري الديمقراطي، وقال إنه يؤمن بأن تضمن الدولة العدالة الاجتماعية والملكية الخاصة في آن معاً، وأعرب عن اهتمامه بتعزيز الأمن الاجتماعي.

مع هذا لم تجتذب شعارات أريفالدو كثيرا من الحماسة الجماهيرية عند انطلاق الحملة، إذ إن أحد استطلاعات الرأي المبكرة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي وضعه في المرتبة ما قبل الأخيرة بين حشد المرشحين المتنافسين، وبنسبة تأييد لا تزيد على 0.7 في المائة. إلا أن وضعه تحسن ببطء في استطلاعات مايو (أيار) ويونيو (حزيران) وارتفعت نسبة تأييده إلى ما يقرب من 2 في المائة.

وجاءت الجولة الأولى من الاقتراع، وفيها تمكن من احتلال المرتبة الثانية - وسط دهشة أجهزة إعلام عالمية كبرى واستغرابها - وبذا دخل الجولة الثانية الحاسمة ضد مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» ساندرا توريس الزوجة السابقة للرئيس السابق الراحل آلفارو كولوم. وليس هذا فحسب، بل نجحت حركة «سيمييا» بكسب نسبة عالية من الأصوات أهلتها لتصبح ليس ثالث أكبر الأحزاب في الكونغرس، بل أيضاً في «برلمان أميركا الوسطى» والمجلس المحلي للعاصمة غواتيمالا سيتي.

قوى اليمين حاولت التعطيل لكنها فشلت

قوى اليمين، وعلى رأسها حزب «فاموس» الحاكم - عبر الرئيس المنتهية ولايته أليخاندرو غياماتي - بوغتت بهذه النتيجة، فسعت إلى تأجيل تثبيتها وإقرارها بحجة وجود تلاعب وتزوير لمصلحة أريفالدو، بل وطالبت بإعادة عملية الاقتراع. وأذعن القضاء لمطالبات اليمين، جزئياً، إذ طلب إجراء مراجعة للنتائج المشتبه بها، وأجريت المراجعة خلال الأسبوع الأول من يوليو (تموز) الماضي، غير أنه بعدما تأكد أن لا صحة لحجج قوى اليمين، رفضت المحكمة العليا المطالبات وأقرّت اللجنة العليا للانتخابات النتائج رسمياً. وبالتالي، أتاح هذا القرار تنظيم انتخابات الجولة الثانية.

في هذه الأثناء، خارج غواتيمالا أثارت مواقف اليمين الشرس - والمتعوّد على التعطيل ولو باعتماد العنف – غضبة دولية واسعة بعدما وصلت إلى المطالبة بتعليق قانونية وضع حركة «سيمييا» وإلغاء أهليتها. وشملت هذه الغضبة حتى الكونغرس الأميركي إلى جانب قيادات بارزة في أميركا اللاتينية وإسبانيا. بل، وبلغ الأمر بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى حد مناشدة الرئيس جو بايدن فرض عقوبات على كل من «يهدّد الديمقراطية» في غواتيمالا.



المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات

لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
TT

المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات

لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)

لم يتوقع أي طرف من الفاعلين الرئيسيين في الصراع الروسي الغربي، في أوكرانيا وحولها، اختراقات كبرى في جولة المفاوضات المباشرة الأولى من نوعها منذ ثلاث سنوات. إذ ذهبت الوفود إلى إسطنبول، تسبقها سجالات حادة حول مستوى التمثيل، وأجندة الحوار المنتظرة، وسقف التقدم الذي قد يسمح للبعض بالحديث عن نجاح محدود. ومع أن الضغط المباشر الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترمب على الطرفين الروسي والأوكراني لعب دوراً حاسماً في انعقاد الجولة الخاطفة، لكنها لم تستمر سوى ساعتين. وأثمرت اتفاقاً محدوداً على تبادل الأسرى، وتفاهماً على العودة إلى طاولة المفاوضات بـ«ورقتي عمل»، يحدد كل طرف فيها رؤيته لآفاق السلام. بيد أن هذه النتيجة ليست كافية لإعلان انطلاق مسار السلام في أسوأ أزمة سياسية وعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، زلزت أوروبا ورمت بثقلها على العالم كله.

لقد اتضح أن وعود الرئيس دونالد ترمب الانتخابية بوقف الحرب الأوكرانية في 24 ساعة، لم تكن خيالية فقط، بل عكست تجاهلاً مريعاً لأبعاد الصراع وتعقيداته الكثيرة.

كذلك أظهر اللقاء المحدود مستوى التباعد، الذي خلقته الحرب خلال السنوات الثلاث الماضية بين الروس والأوكرانيين، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على صعيدي البُعدين النفسي والإنساني أيضاً، لدرجة أن الوفدين اللذين يتقن كلاهما جيداً اللغة الروسية تكلما بالإنجليزية عبر مترجمين.

ثم إن الأهم من ذلك برز مع اتضاح مستوى التباين في أولويات الطرفين، إذ مقابل «شروط بوتين» للوصول إلى تسوية شاملة ونهائية، التي وصفها الأوكرانيون بأنها «تعجيزية»، هدفها إحباط أي تقدم محتمل، أصرّ الجانب الأوكراني على التمسك بورقة الهدنة المؤقتة التي تحظى بدعم أوروبي كامل.

شروط بوتين

بوتين كان قد أعلن قبل أسبوع أنه مستعد لمفاوضات «من دون شروط» رداً على طلب مُلِحّ من جانب قادة أوروبيين، وبدعم أميركي، بإعلان هدنة مؤقتة لمدة شهر، ولكن في الواقع جرت جولة المفاوضات بشروط وضعها بوتين بنفسه. فهو حدّد «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن تجاوزها عند التطرق إلى أي حوار مباشر مع الأوكرانيين، أولها أنه لا كلام مسبقاً عن هدنة، وأي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون نتيجة الحوار، وليس مقدمة له.

أيضاً، بوتين اختار مكان وزمان عقد المفاوضات. وبالذات، في إسطنبول في القصر الرئاسي الذي استضاف المفاوضات قبل 3 سنوات، ليقول للأوكرانيين: رفضتم عروضاً سابقة هنا، والآن تعودون للمكان ذاته وأنتم أضعف ونحن أقوى. لكن شروط بوتين، التي يمكن وصفها بأنها تشكل «استراتيجية التفاوض» الروسية لا تقتصر على ذلك.

إذ إن المفاوضات الحالية تنطلق من المكان نفسه الذي توقفت فيه المفاوضات في مارس (آذار) 2022، ولكن مع مراعاة التغيرات الميدانية التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية.

المغزى الواضح أنه لا مكان للكلام عن تراجع روسيا عن ضم 4 مقاطعات أوكرانية، فضلاً عن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والاحتمال التفاوضي قد يتعلق بالحدود الإدارية لهذه المقاطعات فقط، التي لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل عسكرياً. والمقصود أن هامش المناورة يراوح عند خطوط التماس الحالية، وتستحيل تماماً العودة إلى حدود عام 1991 عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي.

الشرط الثاني الرئيسي لبوتين اتضح مع رفض أي وجود لأوروبا على طاولة الحوار. وتمسك وزير الخارجية برفض التكلم مع الأوروبيين الذين يواصلون «السعي إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو». وهذه العبارات أوضحتها لاحقاً الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عندما قالت إن موسكو ترفض بحزم مشاركة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في المفاوضات، انطلاقاً من مواقف هذه العواصم في الدعم العسكري لكييف.

هنا يقول مقرّبون من الكرملين إن بوتين يرفض أي مشاركة لأوروبا في جولات التفاوض، وإن عرضه للمفاوضات اقتصر على قبول رعاية تركية أميركية.

طبعاً، يدرك الكرملين أن الحضور الأوروبي سيكون مطلوباً في مرحلة لاحقة عند التطرق إلى ملفات الأمن في أوروبا وقضايا التسلح في إطار اتفاقية سلام شاملة، لكن رفض المشاركة الأوروبية حالياً هدفه الضغط لتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، ورفض أفكار أوروبية حول هدنات مؤقتة يمكن استخدامها لتسريع عمليات التسليح وإعادة تأهيل الجيش الأوكراني. وأيضاً، رفض الحضور الأوروبي مرتبط بأهمية إفشال أي افكار قد تؤسس لاحقاً لطرح فكرة وجود قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، وهو أمر ترفضه موسكو بشكل قاطع.

الشرط الثالث المهم لبوتين هو ضمان موضوع حياد أوكرانيا المستقبلي، ورفض إعادة تسليح جيشها. وهنا يقول الرئيس الروسي إنه يريد وثيقة مكتوبة وموقعة بهذا الشأن. وهذا يتعارض مع المطالب الأوروبية بضمانات أمنية مستقبلية، ومع تعهدات أميركية بمواصلة حماية مصالح أوكرانيا.

الخطاب التفاوضي الصارم للروس، الذي تجسد في الجلسة الخاطفة، بمطلب انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي ضمّتها روسيا ولم تنجح لتاريخه في السيطرة عليها عسكرياً بالكامل، تعاملت معه أوكرانيا وأوروبا بأنه مطلب للاستسلام. وأصرّت على أولوية الهدنة المؤقتة لتمهيد الطريق لأي جولات تفاوضية حقيقية في المستقبل.

الرئيس الروسي فاديمير بوتين (آ ب)

تباين أولويات مع واشنطن

لكن تباين الأولويات لم يظهر في الشقّ المتعلق بالعلاقة الروسية الأوكرانية، والرؤية المطروحة لشكل التسوية المحتملة فقط. بل ظهر أيضاً في آلية تعامل كل من موسكو وواشنطن مع ملف التسوية ومع أولويات الحوار الروسي الأميركي كله. واتضح هذا مع انطلاق جولة المفاوضات. ففي حين ركّز ترمب على أهمية عقد لقاء سريع «يدفع عملية السلام في أوكرانيا»، فضّل الكرملين التأكيد على ضرورة «إطلاق تحضيرات وإعداد دقيق لقمة شاملة تبحث كل الملفات المطروحة على الطاولة، وبينها الوضع في أوكرانيا».

وجاء ردّ الكرملين سريعاً على دعوة ترمب لعقد لقاء عاجل مع بوتين. فأعرب الرئيس الأميركي عن قناعته بأن «العالم سيصبح أكثر أماناً خلال أسبوعين إلى 3 أسابيع» بمجرد ترتيب اللقاء المنتظر مع بوتين. لكن الكرملين رأى أن «مثل هذه اللقاءات يتطلب تحضيراً واسعاً وإعداداً دقيقاً»، وبدا أن التباين بين الطرفين ينحصر برؤية كل طرف للأهداف المتوخاة من القمة المنتظرة طويلاً. وفي حين ركّز ترمب على ملف أوكرانيا وقضايا الأمن، رأى الكرملين وجوب أن تكون القمة شاملة، وتناقش كل الملفات المطروحة على أجندة الطرفين.

أكثر من ذلك، وجّهت موسكو رسالة مباشرة لترمب بأن حضوره الشخصي عملية التفاوض «ليس ضرورياً، بل قد يأتي بنتائج عكسية». وقلّل روديون ميروشنيك، سفير المهام الخاصة في الخارجية الروسية، من أهمية تدخل ترمب بشكل مباشر في ملف التسوية في أوكرانيا. وأوضح السفير المكلف بإدارة ملف «الانتهاكات وجرائم نظام كييف» أن موسكو «تثمن عالياً رغبة إدارة الرئيس الأميركي بحلّ الصراع في أوكرانيا سلمياً، لكننا نحتاج إلى تفاصيل ومناهج عملية وعمل دؤوب وجادّ، ونحن مستعدون لهذا العمل».

كذلك علق على قول إنه «من دونه لن ينجح شيء»، بالتأكيد على أنه «يمكن إجراء المفاوضات ببساطة من دون مشاركة ترمب. ولم تكن مشاركة ترمب الشخصية متوقعة، طبعاً، لأن هذه مبادرة روسية. إنها مفاوضات عمل يجب أن تُشكّل موقفاً موحداً، وأن تجد خيارات تسوية، وتصنفها، وتضعها على الورق، وتبلوِر مشاريع. مثلما حدث مع جولة المفاوضات السابقة في 2022، عندما ظهرت وثيقة معيّنة وقّع عليها الطرفان بالأحرف الأولى. ولذا، فإن فريقي التفاوض حالياً مدعوان لإنجاز هذه المهمة».

مكالمة هاتفية حاسمة

خلف هذا السجال، تظهر فكرة أميركية رفضها الروس بشدة. فواشنطن عملت لدفع «تسوية إلزامية» بطريقة ترمب، أي عبر ترتيب لقاء رئاسي أولاً، يجمع بوتين وترمب، ثم بوتين وترمب وزيلينسكي، ربما بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ما يضع إطاراً تفاوضياً إلزامياً يسبق شروط الطرفين.

لقاء من هذا النوع كان ليمنح دفعة جدية للجهود المبذولة، ويضع العملية التفاوضية على مسار لا رجعة فيه. لكن الكرملين فضّل التريث لحين اتضاح الملامح الأولية للعملية التفاوضية، بعد أن يقدم الجانبان الروسي والأوكراني رؤيتيهما لشكل الحوار وأولويات كل طرف فيه.

أمر مهم هنا، أن بوتين لو ذهب فعلاً إلى إسطنبول، فسيذهب للقاء ترمب وإردوغان، وليس للجلوس على طاولة مفاوضات مع زيلينسكي. ولقد عكس تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي وصف كلام زيلينسكي عن ضرورة حضور بوتين اللقاء، أن مستوى الفهم الروسي للعلاقة مع الرئيس الأوكراني حالياً «مثير للشفقة».

لذا، حرص ترمب بعد الجولة التفاوضية مباشرة على إجراء اتصال هاتفي حاسم مع بوتين. وسبق الاتصال تلميحات أميركية لتدابير محددة، بينها الموافقة على رزمة عقوبات قاسية اقترحها أعضاء في الكونغرس، من شأنها وضع قيود صارمة على الأطراف والبلدان التي ما زالت تنتهك العقوبات الحالية وتتعامل مع روسيا. وأيضاً لوّحت واشنطن بانسحاب أميركي من العملية التفاوضية إذا فشلت جهودها الحالية. هذا التطور دفع بوتين للموافقة على فكرة «الهدنة المؤقتة» بشروط محددة. على رأسها؛ إعداد مذكرة تفاهم توضح آليات الهدنة المقترحة، وطريقة التعامل مع الرقابة عليها.

هذه المناورة وُصفت في كييف بأنها محاولة لكسب الوقت والمماطلة. لكن ترمب تمسك بها، ودعا الطرفين الروسي والأوكراني إلى بدء المفاوضات فوراً، ومن دون وسطاء، للتوصل إلى تفاهم في هذا الشأن. ولاحقاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أنّه يتوقع أن تعرض روسيا «خلال أيام» شروطها لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا، معتبراً أنّ هذه الخطوة ستسمح لواشنطن بتقييم مدى جدّية موسكو في سعيها للسلام.

أوروبا متحفظة

في المقابل، بدا الموقف الأوروبي أكثر تحفّظاً وتشكيكاً بنيّات موسكو. وأقرّ الاتحاد الأوروبي رسمياً الحزمة السابعة عشرة من العقوبات على موسكو، مستهدفاً 200 سفينة من أسطول «الشبح». وأيضاً هاجم كيريل دميترييف، رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والمفاوض الاقتصادي الرئيس مع واشنطن، هذا القرار بالقول: «يبذل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لتعطيل الحوار البنّاء بين روسيا والولايات المتحدة».

روبيو قال إن ترمب يعارض حالياً فرض عقوبات جديدة خشية امتناع روسيا عن المجيء إلى طاولة المفاوضات. وأبلغ مصدر مطلع «رويترز» أن ترمب اتصل بزعماء أوكرانيا وأوروبا إثر مكالمته مع بوتين وأخبرهم بأنه لا يريد فرض عقوبات الآن، بل إتاحة الوقت للمباحثات.

تزامناً، أعلنت أوكرانيا أنها ستطلب من الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل بحث خطوات جديدة كبيرة لعزل موسكو، تشمل مصادرة أصول روسية وفرض عقوبات على بعض مشتري النفط الروسي. وستُقدم وثيقة أوكرانية إلى التكتل الذي يضم 27 دولة لاتخاذ موقف مستقل أكثر صرامةً بشأن فرض العقوبات في ظل الضبابية التي تكتنف دور واشنطن مستقبلاً. وستشمل الوثيقة المتضمنة 40 صفحة من التوصيات، دعوات لتبني تشريع «يسرِّع» مصادرة الاتحاد الأوروبي أصول الأفراد الخاضعين للعقوبات وإرسالها إلى أوكرانيا. ويمكن حينئذٍ للخاضعين للعقوبات المطالبة بتعويضات من روسيا.

عموماً، تظهر تحركات اللاعبين الأساسيين مستوى التباين في الأهداف والآليات المقترحة لتسوية الصراع، وتؤكد صعوبة التوصل إلى تدابير سريعة لوقف الحرب وإطلاق عملية سياسية جادة.

الضغط العسكري ومسار المفاوضات

في غضون ذلك، بدا أن الاستعدادات الجارية لتسريع وتيرة المفاوضات وتقريب احتمال إعلان «هدنة مؤقتة» تمهد الطريق لمفاوضات السلام النهائية، تجري بالتزامن مع تصعيد الطرفين الروسي والأوكراني استعداداتهما لتصعيد ميداني في حال فشلت جهود التهدئة الحالية.

كييف تزعم أن موسكو تواصل حشد آلاف الجنود على طول الحدود بالقرب من منطقتي سومي وخاركيف، مع توقع محاولة توغل واسعة في المنطقة. ووفق خبراء عسكريين، وضعت موسكو خططاً لإنشاء «منطقة عازلة» على طول الحدود مع المنطقتين اللتين شكَّلتا نقطة انطلاق مهمة للقوات الأوكرانية التي هاجمت كورسك ومناطق مجاورة ونجحت الصيف الماضي في السيطرة على أجزاء واسعة من المقاطعة الروسية، قبل نجاح الروس في طرد القوات الأوكرانية منها قبل أسابيع بعد معارك ضارية استمرت لأشهر.

وتشير مصادر أوكرانية إلى أن بوتين قد يضع بين أهدافه، في حال انهارت جهود الهدنة، محاولة فرض سيطرة مطلقة على مدينة خاركيف، التي تقول السردية الروسية إنها بين أبرز «المدن الروسية» في أوكرانيا الحالية.

وكان بوتين قد زار قبل يومين منطقة كورسك للمرة الأولى منذ إعادة فرض سيطرة الجيش الروسي عليها الشهر الماضي. والتقى حاكمها بالإنابة ألكسندر خينشتين، وممثلي منظمات تطوعية. ونقل بيان الكرملين عن خينشتين قوله إن «عملية لإزالة الألغام» تجري حالياً في منطقة كورسك، حيث «تُزال عشرات العبوات الناسفة يومياً».

هذا، وبثّ الكرملين صوراً للقاء بين بوتين ومتطوعين، حول طاولة كبيرة وهم يتناولون الشاي والسكاكر. واقترح إنشاء متحف مخصص «للأحداث التي وقعت في منطقة كورسك خلال 2024 و2025 من أجل الحفاظ على ذكرى ما جرى هنا، وذكرى بطولة المدافعين عنا»، وهي فكرة حظيت بدعم بوتين.

أيضاً، أعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة خططاً لإعادة الإعمار في المنطقة. وتجول في محطة الطاقة النووية «كورسك 2» قرب المدينة، مذكّراً بـ«ذراع روسيا النووية الطويلة» إذا تعرض أمنها ووجودها لخطر أو تهديد.

في المقابل، تقول مصادر روسية إن أوكرانيا تؤدي دورها بتحضيرات لتصعيد عسكري في حال فشل جهود التهدئة. ووفق تقارير، فإن كييف تواصل تجهيز أفواج من طائرات مسيَّرة حديثة لمهاجمة المدن الروسية. ويبدو أن الضغط العسكري من الجانبين يواكب مسار التحضير للمفاوضات، إذ تبادلت موسكو وكييف ضربات جوية خلال اليومين الماضيين، وشنّت مسيَّرات أوكرانية هجمات قوية على موسكو ومدن أخرى خلال الأيام الأخيرة، بينما تعرضت مدن أوكرانية لهجمات صاروخية ومدفعية مكثفة في الفترة نفسها.