برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح
TT

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

برناردو أريفالدو... الرئيس الجديد لغواتيمالا المتأرجحة... بين الهيمنة والديكتاتورية والإصلاح

فاز برناردو أريفالو يوم 20 أغسطس (آب) بالجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة في غواتيمالا متغلباً على منافسته ساندرا توريس بفارق كبير، ومن المقرر أن يقسم اليمين الدستورية ويتولى منصبه رسمياً يوم 14 يناير (كانون الثاني) المقبل، ليغدو الرئيس الـ52 لكبرى دول أميركا الوسطى. المرشح الفائز، الذي يقود حزب «سيمييا» – أي البذرة – المحسوب على يسار الوسط، ومنافسته توريس ليسا شخصيتان طارئتان على المشهد السياسي في غواتيمالا. إذ إن أريفالو ابن رئيس جمهورية سابق هو خوان خوسيه أريفالو، بينما توريس، مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» (أيضاً يسار الوسط) زوجة رئيس سابق للجمهورية، وخاضت الجولة الثانية الحاسمة من المعركة محاولة استقطاب أصوات اليمين. ومن جهة أخرى، فإن غواتيمالا «جارة» المكسيك من الشرق، وشريكتها في كونها مهد حضارة شعب المايا العريقة قلّما عرفت الاستقرار السياسي لفترات طويلة، بل كانت على الدوام في طليعة الدول المتأثرة بالاستقطابات الآيديولوجية والتجارب الديكتاتورية والعنف السياسي والحسابات الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما إبان حقبة «الحرب الباردة».

ليس سهلاً أن تكون سياسيا في غواتيمالا... البوابة الشمالية لدول أميركا الوسطى الممتدة من حدود المكسيك غرباً إلى حدود كولومبيا شرقاً. والدولتان هما أكبر الدول الناطقة بالإسبانية في العالم. فهذه الدولة التي تعتز بأنها مهد حضارة شعب المايا، إحدى أعظم حضارات أميركا القديمة، عاشت مسيرة سياسية مضطربة، وكانت من الدول الأميركية اللاتينية التي شعرت بوطأة استقطابات «الحرب الباردة»، وبالأخص بعد «الثورة الكوبية» بقيادة فيديل كاسترو. ولئن كانت مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية قد رسمت لسنوات عديدة ملامح الصراعات السياسية في دول كفنزويلا (النفط) وبوليفيا (القصدير) وتشيلي (النحاس)... فإنها عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية كانت قوة فاعلة ومؤثرة في حياة غواتيمالا.

ولكن، ما إن انحسر تأثير «الحرب الباردة» حتى بزغت في عدد من دول أميركا اللاتينية، بشمال القارة وجنوبها ووسطها، ظاهرة الحركة «الإيفانجيلية» (أو «الإنجيليون الجدد») البروتستانتية المتشددة التي تغلغلت عبر العقود الأخيرة في أكبر خزّان بشري مسيحي كاثوليكي في العالم. وبالفعل، كان «الإنجيليون الجدد»، بفضل التزام أصواتهم وإمكاناتهم المالية قوة حقيقية أسهمت في فوز الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد السابق جاير بولسونارو بالانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة في البرازيل – كبرى دول العالم التي تدين بالمسيحية الكاثوليكية. والحقيقة أن هذه الحركة استفادت كثيراً ليس فقط من دعم الجماعات «الإيفانجيلية» المتشددة في الولايات المتحدة، بل أيضاً اجتذبت دعماً لا بأس به من قوى اليمين التقليدي الذي نفر من ميل تيار من رجال الإكليروس في دول أميركا اللاتينية إلى معسكر اليسار بتأثير من قساوسة يؤمنون بـ«التديّن الثوري». وحالياً في دول عديدة منها كولومبيا وغواتيمالا لـ«الإنجيليين الجدد» صوت مسموع ونفوذ كبير.

برناردو أريفالدو... سيرة ذاتية

ولد سيزار برناردو أريفالدو دي ليون، وهذا هو اسمه الكامل، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958 في مدينة مونتيفيديو، عاصمة جمهورية الأوروغواي، لعائلة سياسية غواتيمالية بارزة مع أنها تنتمي أصلاً إلى الطبقة الوسطى. إذ إن أباه خوان خوسيه أريفالدو كان سياسياً ومثقفاً وطنياً وإصلاحياً تولى رئاسة الجمهورية في غواتيمالا بين عامي 1945 و1951. ولقد عاش أريفالدو الأب منفياً خارج البلاد بعد الانقلاب اليميني الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي آيه) عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية عام 1954. وإبان سنوات نفيه أنجب من زوجته الثانية مارغاريتا دي ليون ابنه برناردو، الرئيس المنتخب، في مونتيفيديو.

غير أن مكوث العائلة في الأوروغواي لم يطل كثيراً، إذ غادرت تلك البلاد عندما كان برناردو دون الثانية من عمره، ومن ثم أمضى الطفل عدة سنوات متنقلاً مع العائلة بين فنزويلا والمكسيك وتشيلي، ولم يعد إلى غواتيمالا إلا بعد بلوغه الخامسة عشرة من العمر. وفي أرض الوطن تلقى تعليمه في إحدى المدارس الكاثوليكية الخاصة في العاصمة غواتيمالا سيتي. وفيما بعد تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة العبرية في إسرائيل حيث حصل على بكالوريوس آداب في علم الاجتماع، وتابع دراساته العليا ليحصل على درجة دكتوراه في الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوترخت في هولندا.

أما على مستوى حالته الاجتماعية، فإن أريفالدو تزوج ثلاث مرات، وأنجب 6 أولاد وبنات. زواجه الأول كان عام 1983 من سيدة أرجنتينية لكنهما تطلقا عام 1992. وبعدها تزوّج من زميلة له في السلك الدبلوماسي الغواتيمالي وأنجب منها ابنتين. أما زوجته الحالية منذ 2011 فهي لوكريسيا بينادو.

مع السلك الدبلوماسي

خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي التحق برناردو أريفالدو بوزارة خارجية بلاده وانضم إلى السلك الدبلوماسي، وخدم بين عامي 1984 و1986 بوظيفة سكرتير أول وقنصل في السفارة الغواتيمالية لدى إسرائيل، وفيما بعد أصبح وزيراً مفوضاً ومستشاراً بين 1987 و1988.

عام 1988 عاد إلى بلاده حيث عيّن نائب مدير للدراسات الاستراتيجية والتخطيط في وزارة الخارجية. وترقّى بعد ذلك ليشغل منصب مدير السياسات الخارجية الثنائية بين 1990 و1991، ثم مدير العلاقات الدولية الثنائية بين 1992 و1993، ثم العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية بين 1993 و1994.

تلك المسيرة في العمل الدبلوماسي انتهت بقرار تعيينه نائباً لوزير الخارجية حتى عام 1995، لكنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع، إذ سرعان ما عيّن سفيراً لدى إسبانيا، وفي ذلك العام قدّم أوراق اعتماده إلى ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول عام 1996. وفي وقت لاحق من العام ذاته استقال من المنصب وغادر وزارة الخارجية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أريفالدو يجيد، فضلاً عن الإسبانية التي هي لغته الأم، كلاً من الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والعبرية.

الأبحاث... ثم السياسة

المحطة التالية في مسيرة أريفالدو، في أعقاب تركه السلك الدبلوماسي، كانت الأبحاث، إذ شغل منصب عضو مجلس إدارة مركز الأبحاث الإقليمية لأميركا الوسطى ورئيساً له. ومنذ عام 1999 تولى عدداً من المهام في منظمة «إنتربيس» الدولية للترويج لصنع السلام الدائم وحفظه، وغطى نشاطه دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبجانب مهام حفظ السلام عمل أريفالدو مستشاراً لعدة منظمات بينها الأمم المتحدة ومعهد السلام في الولايات المتحدة وجامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية، ناهيك من كتابته مجموعة من الكتب في مجالات تخصصه، في التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والدبلوماسية.

إلا أن طموحات الدبلوماسي والباحث وابن الزعيم السياسي لم تتوقّف عند هذا الحد، بل انخرط في العمل السياسي المباشر بعدما دفعته الأوضاع في غواتيمالا إلى التحرك الجاد. وفعلاً شارك عام 1915 في المظاهرات الشعبية المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية اليميني - المتهم بالفساد - أوتو بيريز مولينا. وخلال فترة قصيرة التقى جمهرة من المثقفين والليبراليين الإصلاحيين وأسسوا معا حركة «سيمييا» (البذرة) التي كانت قد أبصرت النور بوصفها تجمعا فكريا، وتحوّلت بعد ذلك إلى حزب سياسي عام 2017.

وحقاً، خلال الانتخابات الرئاسية عام 2019 كان أريفالدو المرشح المحتمل الأبرز لخوض الانتخابات باسم الحركة، قبل أن يحجم عن الترشح، وتسمي الحركة زميلته ثيلما آلدانا، المدعية العامة السابقة رئيسة المحكمة العليا، غير أن آلدانا نفسها منعت لاحقاً من الترشح. في المقابل، حول أريفالدو أنظاره إلى الكونغرس (المجلس التشريعي)، فتقدم بترشحه وانتخب على القائمة الوطنية، وتسلم مقعده في مطلع عام 2020، وفي هذه الأثناء قاد الكتلة البرلمانية لحركة «سيمييا» في الكونغرس، قبل أن يصار إلى انتخابه أميناً عاماً للحركة في العام الفائت 2022 خلفاً للأمين العام السابق صامويل بيريز ألفاريز.

المعركة الفاصلة على طريق الرئاسة

يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2023 أعلنت حركة «سيمييا» ترشيحها برناردو أريفالدو في انتخابات رئاسة الجمهورية، واختارت معه زميلته كارين هيريرا لمنصب نائب الرئيس. وبالفعل، يوم 16 فبراير (شباط) أقرت اللجنة العليا للانتخابات ترشح أريفالدو وهيريرا رسمياً وانطلقت على الأثر الحملة الانتخابية للحركة.

طوال الحملة التي لقب فيها مناصرو أريفالدو مرشحهم بـ«العم بيرني»، تشبيهاً له بالسيناتور الأميركي اليساري بيرني ساندرز، ركّز المرشح الرئاسي أولوياته أمام جمهور الناخبين على مكافحة الفساد الحكومي وانعدام الأمان، وضرورة العمل على خلق فرص عمل وتشجيع سياسات بيئية نظيفة تتعامل بجدية مع التغير المناخي. أما آيديولوجياً، فيعد أريفالدو نفسه وريثاً لنهج أبيه الإصلاحي التقدمي، وكذلك جاكوبو آربنز الوزير اليساري السابق في حكومة أبيه الذي صار رئيسا للجمهورية قبل أن يطيحه انقلاب 1954. والواقع أنه وصف نفسه مراراً بأنه «ديمقراطي اجتماعي» مؤمن بالنظام الجمهوري الديمقراطي، وقال إنه يؤمن بأن تضمن الدولة العدالة الاجتماعية والملكية الخاصة في آن معاً، وأعرب عن اهتمامه بتعزيز الأمن الاجتماعي.

مع هذا لم تجتذب شعارات أريفالدو كثيرا من الحماسة الجماهيرية عند انطلاق الحملة، إذ إن أحد استطلاعات الرأي المبكرة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي وضعه في المرتبة ما قبل الأخيرة بين حشد المرشحين المتنافسين، وبنسبة تأييد لا تزيد على 0.7 في المائة. إلا أن وضعه تحسن ببطء في استطلاعات مايو (أيار) ويونيو (حزيران) وارتفعت نسبة تأييده إلى ما يقرب من 2 في المائة.

وجاءت الجولة الأولى من الاقتراع، وفيها تمكن من احتلال المرتبة الثانية - وسط دهشة أجهزة إعلام عالمية كبرى واستغرابها - وبذا دخل الجولة الثانية الحاسمة ضد مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» ساندرا توريس الزوجة السابقة للرئيس السابق الراحل آلفارو كولوم. وليس هذا فحسب، بل نجحت حركة «سيمييا» بكسب نسبة عالية من الأصوات أهلتها لتصبح ليس ثالث أكبر الأحزاب في الكونغرس، بل أيضاً في «برلمان أميركا الوسطى» والمجلس المحلي للعاصمة غواتيمالا سيتي.

قوى اليمين حاولت التعطيل لكنها فشلت

قوى اليمين، وعلى رأسها حزب «فاموس» الحاكم - عبر الرئيس المنتهية ولايته أليخاندرو غياماتي - بوغتت بهذه النتيجة، فسعت إلى تأجيل تثبيتها وإقرارها بحجة وجود تلاعب وتزوير لمصلحة أريفالدو، بل وطالبت بإعادة عملية الاقتراع. وأذعن القضاء لمطالبات اليمين، جزئياً، إذ طلب إجراء مراجعة للنتائج المشتبه بها، وأجريت المراجعة خلال الأسبوع الأول من يوليو (تموز) الماضي، غير أنه بعدما تأكد أن لا صحة لحجج قوى اليمين، رفضت المحكمة العليا المطالبات وأقرّت اللجنة العليا للانتخابات النتائج رسمياً. وبالتالي، أتاح هذا القرار تنظيم انتخابات الجولة الثانية.

في هذه الأثناء، خارج غواتيمالا أثارت مواقف اليمين الشرس - والمتعوّد على التعطيل ولو باعتماد العنف – غضبة دولية واسعة بعدما وصلت إلى المطالبة بتعليق قانونية وضع حركة «سيمييا» وإلغاء أهليتها. وشملت هذه الغضبة حتى الكونغرس الأميركي إلى جانب قيادات بارزة في أميركا اللاتينية وإسبانيا. بل، وبلغ الأمر بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى حد مناشدة الرئيس جو بايدن فرض عقوبات على كل من «يهدّد الديمقراطية» في غواتيمالا.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.