خيارات دمشق الضيقة في «وحدة الساحات» مع لبنان

هل تعتمد «الحياد» كما في غزة أم تكرر سيناريو 2006؟

لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)
لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)
TT

خيارات دمشق الضيقة في «وحدة الساحات» مع لبنان

لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)
لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)

هل يدعم النظام السوري «حزب الله» اللبناني في حال وسعت إسرائيل حربها على غزة لتشمل لبنان بعدما توعدته بـ«صيف ساخن»؟ هل يكرر النظام ما قام به خلال حرب يوليو (تموز) 2006 بدعم الحزب عسكرياً ولوجيستياً ومالياً، أم سيتخذ موقف «الحياد» كما فعل تجاه حرب غزة؟ هل تستجيب دمشق لـ«ضغوط إيرانية هائلة» بفتح جبهة الجولان وتنخرط بالحرب في إطار «وحدة الساحات» بقيادة طهران أم تواصل موقف النأي بالنفس؟

يبدو البحث عن إجابات هذه الأسئلة ملحّاً في ظل الترقب الشديد لما قد يحدث في جنوب لبنان بعد تصاعد القصف المتبادل عبر الحدود في الآونة الأخيرة من دون مؤشرات واضحة في الأفق.

وفي الوقت نفسه تتجه الأنظار لمعرفة موقف دمشق المنهمكة في مساعيها الخاصة للخروج من أزماتها العميقة وفك عزلتها، بينما يعرب مراقبون وخبراء سياسيون فيها عن اعتقادهم أنها «ستقدم دعماً لكنه لن يكون بمستوى» دعم عام 2006، لأنها «حالياً منهكة اقتصادياً وعسكرياً»، بيد أنهم يلفتون إلى أن موقف دمشق «لا يزال غير واضح حتى الآن».

دفع إسرائيلي للحرب

دخان متصاعد جراء قصف إسرائيلي على بلدة الخيام جنوب لبنان نهاية مايو الماضي (أ.ف.ب)

«فرص التسوية في جنوب لبنان تتراجع بشكل يومي»، هذا ما قاله أحد المحللين في دمشق، مفضلاً عدم كشف اسمه، مستنداً إلى ما جاء في تقييم أمني لمركز «ألما» الإسرائيلي للدراسات، قدمه تل بيري رئيس قسم الأبحاث خلال مؤتمر حول التحديات الأمنية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ونشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في العاشر من مايو (أيار) الماضي.

ويتابع: «ما قاله بيري الخبير في شؤون الشرق الأوسط، هو دفع لإسرائيل باتجاه شن حرب ضد (حزب الله) في جنوب لبنان قبل أن يباغتها هو، خصوصاً قوله إن أي اتفاق دبلوماسي لن يؤدي إلا إلى كسب الوقت حتى الغزو النهائي من قبل (الحزب) لإسرائيل والذي يقدَّر في موعد لا يتجاوز نهاية عام 2026». ويضيف: «إسرائيل ترى حالياً الفرصة مناسبة لتوجيه ضربة لـ(حزب الله)؛ لأن (حماس) غارقة في حرب غزة، وسوريا ضعيفة، وروسيا مشغولة بحربها في أوكرانيا وأميركا موجودة على الأرض في سوريا».

موقع دمشق

إزالة الأنقاض في المنطقة التي استهدفت فيها غارات جوية إسرائيلية مبنى سكنياً في حي كفرسوسة بدمشق في فبراير الماضي (أ.ف.ب)

دمشق التي كثيراً ما وُصفت بـ«رأس الحربة» فيما يطلق عليه «محور المقاومة»، لم تعلن بشكل واضح ماذا يمكن أن تُقدم لـ«حزب الله» من دعم، واقتصر موقفها على ما قاله الرئيس بشار الأسد في الرابع من مايو (أيار) الماضي خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب «البعث» بأن «كل ما يمكن لنا أن نقدمه ضمن إمكاناتنا للفلسطينيين أو أي مقاوم ضد الكيان الصهيوني سنقوم به دون أي تردد».

وبالنظر إلى تطور العلاقة بين أطراف «محور المقاومة»، فإن ما قاله الأسد يوحي بأنه لا يمكن إلا أن يدعم «حزب الله» إذا شنت إسرائيل حرباً على لبنان، لكن هذا الدعم لن يكون بحجم الدعم الذي قدمه في 2006، في حرب استمرت 34 يوماً، حين وُضع الجيش السوري في جاهزية تامة، وفتح النظام مستودعات أسلحته، كما فتح الطرقات بين سوريا ولبنان لنقل الأسلحة.

ويشرح المحلل المتابع للوضع الميداني في سوريا فيقول: «بعد انتشار الآلاف من مقاتلي (الحزب) في سوريا منذ 2011 تبلورت تدريجياً فكرة تحويل القلمون الغربي بريف دمشق إلى ظهير إقليمي للحزب، فبالنسبة له شكَّلت تجربة حرب 2006، معضلتين: الأولى ديموغرافية في نزوح سكان الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان، والثانية: لوجيستية. جرى التعامل مع المعضلة الأولى بتسهيل النظام السوري استقبال مئات الوافدين اللبنانيين في سوريا، بينما اليوم يستقبل لبنان نازحين سوريين بالآلاف، وتمثلت المعضلة اللوجيستية في قلة العمق الاستراتيجي، فجرى التعامل معها عبر التحالف الصلب مع النظام السوري».

يُذكر أن «النظام السوري حليف استراتيجي لـ(الحزب)، ويكنُّ احتراماً لمقاتليه، ومن ثم سيدعمه، لكن المشكلة في التكاليف. ففي عام 2006 كان الوضع الاقتصادي والمالي والعسكري أفضل، وكان النظام صاحب قرار، أما حالياً فليس لديه شيء، ويتدبر أمره بالمساعدات والحوالات الخارجية».

ويوضح المصدر أن هناك فرقاً كبيراً بين موقف دمشق من «حزب الله» وموقفها من «حماس» التي يرى النظام السوري أنها غدرت به منذ السنة الأولى للحرب باصطفافها إلى جانب المعارضة، ولم تشفع لها وساطة إيران و«حزب الله» لدى دمشق وزيارة قياديين منها العام الماضي العاصمة السورية.

معضلة «وحدة الساحات»

مواطن لبناني يقف أمام منزله المدمّر بغارة إسرائيلية استهدفت بلدة عدلون الجنوبية ليل الجمعة - السبت الماضي (أ.ب)

وإن كانت دمشق قد نأت بنفسها عن محور «وحدة الساحات» الذي انخرطت فيه منذ 40 عاماً في موضوع غزة، ورفضت فتح جبهة الجولان المحتل رغم الضغوط الإيرانية، فإن موقفها حتى الآن غير واضح بشأن «وحدة الساحات» مع لبنان.

فإذا كانت إيران قد أخفقت إلى حد بعيد في التعامل مع دمشق في حرب غزة، وراحت تطالبها بإيفاء ديونها البالغة 50 مليار دولار من دون أن تفلح هذه الضغوط بفتح جبهة الجولان، فكيف ستكون الحال مع جبهة جنوب لبنان لا سيما أن «حزب الله» أساسي للبلدين على حد سواء؟

ولا يخفى اليوم أن إرسالية البنزين باتت تتأخر 15 يوماً حتى تصل، بينما خلت شوارع حمص من السيارات، وشوارع دمشق تراجعت فيها حركة السير بنسبة كبيرة.

ويرى كثيرون أن «المسألة معقدة جداً». فإذا انخرط النظام بالحرب فستضرب إسرائيل الجيش السوري هذه المرة، وستحدث مزيداً من الأضرار والدمار في البنى التحتية المتضررة أصلاً؛ فغالبية الضربات الإسرائيلية الجارية حالياً في سوريا تستهدف مواقع إيران وميليشياتها وقادتها، فإذا انخرط النظام في الحرب فسيصبح الجيش (السوري) بين مطرقة الضغوط الإيرانية وسندان الضربات الإسرائيلية.

إضافة إلى ذلك، فإن إيران ليست الفاعل الدولي الوحيد على الأرض في سوريا، فهناك الولايات المتحدة وتركيا وروسيا التي مكّنت الجيش السوري من استعادة مساحات شاسعة من البلاد، لكن ذلك كان أيضاً في مرحلة ما قبل انخراط روسيا في الحرب الأوكرانية.

ومع استمرار الحرب في غزة وعمليات القصف المتبادل بين «حزب الله» وإسرائيل وارتفاع وتيرته استقبلت دمشق نهاية أبريل (نيسان) الماضي وزير الخارجية التشيكي راديك روبيش حاملاً رسالة أوروبية تتعلق بالورقة الفرنسية للتهدئة في جنوب لبنان وفق معلومات لـ«الشرق الأوسط» من دون أي مؤشرات على احتمالات تخفيف العقوبات الأوروبية والأميركية على النظام السوري، كما كان مأمولاً؛ ما يضع دمشق تحت مزيد من الضغوط العسكرية والمالية والخيارات الضيقة والصعبة.


مقالات ذات صلة

ارتفاع حصيلة الحرب في غزة إلى 41825 قتيلاً

المشرق العربي فلسطينيون يبحثون عن ناجين محتملين وسط ركام مبنى دمره قصف إسرائيلي في خان يونس (أ.ف.ب)

ارتفاع حصيلة الحرب في غزة إلى 41825 قتيلاً

أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة، اليوم السبت، مقتل 41825 شخصا منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة «حماس» قبل نحو عام.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي (إ.ب.أ)

لبحث التطورات الإقليمية... وزير الخارجية الإيراني يصل دمشق

كشف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية اليوم (السبت) أن الوزير عباس عراقجي وصل إلى العاصمة السورية دمشق.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الولايات المتحدة​ دمار هائل في خان يونس جنوب قطاع غزة نتيجة القصف الإسرائيلي (رويترز)

رسائل بريد إلكتروني تُظهر مخاوف أميركية مبكرة بشأن جرائم حرب إسرائيلية في غزة

بينما كانت إسرائيل تقصف شمال غزة بغارات جوية في أكتوبر الماضي، وتأمر بإجلاء مليون فلسطيني، وجّهت مسؤولة كبيرة في «البنتاغون» تحذيراً صريحاً للبيت الأبيض.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تحليل إخباري ترمب وهاريس في المناظرة الرئاسية ببنسلفانيا في 10 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري هل يؤثر التصعيد في المنطقة على خيار الناخب الأميركي؟

الانتقاد الأبرزالموجّه للمرشحة الديمقراطية هاريس يرتبط بتداعيات خبرتها المحدودة في السياسة الخارجية.

رنا أبتر (واشنطن)
العالم العربي وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو (أ.ف.ب)

وزير خارجية فرنسا يتوجه إلى الشرق الأوسط ويبدأ زيارته بالسعودية

يتوجه وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى السعودية في مستهل جولة تستمر أربعة أيام تنتهي في إسرائيل والضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (باريس)

معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

يبدو تنظيم «القاعدة» منذ سنوات كأنَّ صدأً قد أصاب جسده النحيل المتآكل. فقد نجح الأميركيون، ومعهم تحالف دولي واسع، في قتل قادته الكبار، بمن فيهم أسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري. اعتقلوا مئات آخرين من قادته وعناصره. فككوا خلاياه حول العالم. وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فقد ظهر لـ«القاعدة» منافس شرس من وسطه هو تنظيم «داعش» الذي سرق «بريق الإرهاب» من غريمه بسلسلة عمليات في أنحاء المعمورة.

لكنَّ هذه الصورة قد تكون «خادعة» في واقع الأمر. صحيح أن «القاعدة» يبدو عاجزاً عن شن هجمات ضخمة بحجم هجماته ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصحيح أنها تبدو أيضاً عاجزة حتى عن الإعلان عن هوية زعيمها الجديد خلفاً للظواهري، رغم مرور أكثر من سنتين على مقتله، إلا أن تقارير أممية حديثة تؤكد أن التنظيم يقوم حالياً بإعادة بناء صفوفه بعدما أقام سلسلة معسكرات تدريب ومدارس دينية في أفغانستان.

وإذا ما صحت هذا التقارير، فإن ذلك يمكن أن يثير مخاوف من أن يعيد التاريخ تكرار نفسه. فهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر تمت انطلاقاً من معسكراتها الأفغانية. وإذا أضفنا إلى ذلك خزّان الغضب الذي تغذيه الحرب الإسرائيلية على غزة، وفشل «طالبان» في توفير الحاجات الأساسية للأفغان، والأزمات الممتدة في عدد من دول الشرق الأوسط، ومتغيرات كصعود اليمين المتطرف في الغرب، تزداد احتمالات ظهور موجة جديدة من التطرف والإرهاب. فهل يمكن أن تتكرر تجربة «القاعدة» الآن في ظل حكم حركة «طالبان» بنسخته الثانية؟

تمر هذه الأيام ذكرى هجمات تنظيم «القاعدة» في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. مثّلت تلك الهجمات، بطائرات مدنية مخطوفة، أكبر هجوم إرهابي على الأرض الأميركية منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر بهاواي عام 1941 والذي أدى بالولايات المتحدة إلى دخول الحرب العالمية الثانية.

برجا مركز التجارة في نيويورك قبل سقوطهما (غيتي)

لم تَقُدْ هجمات 11 سبتمبر إلى حرب عالمية ثالثة، بالمفهوم التقليدي للحروب العالمية، لكنها أطلقت حرباً طويلة ضد الإرهاب امتدت عبر قارات العالم. بدأت تلك الحرب بغزو أفغانستان، في أواخر عام 2001، حين تمكن الأميركيون من إطاحة حكم حركة «طالبان» التي وفرت الحماية لمنفذي هجمات «القاعدة»، رافضة تسليمهم.

في صيف عام 2021، حزم الأميركيون حقائبهم وانسحبوا من أفغانستان لتعود مجدداً تحت حكم «طالبان»، بنسختها الثانية. شكّل الانسحاب هزيمة لمشروع أميركا في بناء نظام حليف لها في كابل. إذ سرعان ما انهارت حكومة الرئيس أشرف غني وجيشها الذي أُنفقت مليارات الدولارات على تسليحه، أمام قوات الحركة الإسلامية.

احتفلت «طالبان» أخيراً بمرور ثلاث سنوات على عودتها إلى السلطة. استعرضت جيشاً مزوداً بآليات وطائرات وأسلحة مختلفة تركها وراءهم الأميركيون المنسحبون أو تم الاستيلاء عليها من ثكنات الجيش الأفغاني المنهار.

لم تشكل عودة «طالبان» إلى الحكم، في الواقع، مشكلة لكثير من الدول الغربية. فرغم الملاحظات المرتبطة بتطبيقها المتشدد للشريعة الإسلامية، بما في ذلك منع تعليم الفتيات بعد بلوغهن سناً معينة، فإن هذه الحركة نجحت في الحقيقة في فرض درجة عالية من الأمن في البلاد. قلّصت إلى حد كبير مساحات الأراضي المزروعة بالأفيون، المخدر الذي كان يغزو الأسواق الغربية. حاربت خلايا تنظيم «داعش – خراسان» الذي كان يتمدد في شرق البلاد على وجه الخصوص، ويشكل تهديداً خارجياً أيضاً.

«محاسن» الحركة هذه قابلها، في الحقيقة، قلق متزايد في الغرب من أن تعود أفغانستان، في ظل حكمها الجديد، كما كانت في الماضي: مأوى لخليط من الجماعات الإرهابية أو المتشددة.

شكّل كشف الأميركيين عن وجود أيمن الظواهري في كابل، في صيف عام 2022، أحد المؤشرات العلنية على وجود قلق غربي من عودة «القاعدة» إلى أفغانستان. فخليفة أسامة بن لادن على رأس «القاعدة»، كان يعيش في حي شيربور الراقي بالعاصمة الأفغانية، تحت حماية عناصر من «طالبان». كان من الطبيعي أن تثار شكوك حول أن شخصاً بحجم الظواهري لا يمكن أن يعيش في كابل إلا بمعرفة زعيم «طالبان»، الملا هبة الله أخوندزادة، تماماً كما كان وضع أسامة بن لادن وقادة تنظيمه عندما عاشوا في ظل حكم الملا عمر، زعيم «طالبان» السابق.

لكن ليس هناك ما يؤكد، في الحقيقة، أن أخوندزادة أذن باستضافة الظواهري، بل هناك من يؤكد أنه لم يكن يعرف بذلك، رغم أن الذي قدّم المأوى له قياديون في «طالبان». وكما هو معروف، إيواء الظواهري كان يمكن أن يشكل مخالفة لتعهدات قدمتها «طالبان» للأميركيين، في اتفاق الدوحة (عام 2020)، بأنها لن تسمح لأي جهة بأن تستخدم أراضيها للتخطيط لمؤامرات إرهابية إذا انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان.

في أي حال، طويت قضية الظواهري سريعاً. ضربة واحدة من طائرة أميركية بلا طيار كانت كفيلة بالقضاء عليه على شرفة شقته بكابل، فجر 31 يوليو 2022. «طالبان» المحرجة لم تؤكد مقتل الظواهري. فتحت تحقيقاً لم تعلن نتائجه رسمياً حتى اليوم. أما «القاعدة» فقد اختارت الصمت، ربما لتجنب إحراج مضيفيها الأفغان، وربما بناءً على نصيحة منهم.

الظواهري ليس وحيداً

لم يكن الظواهري بالتأكيد القيادي الوحيد من «القاعدة» الذي يعيش في ظل حكم «طالبان»، بنسخته الجديدة. إذ تكشف تقارير عديدة لخبراء من الأمم المتحدة، مختصين بأفغانستان، عن أن هذا البلد عاد مركز جذب لجماعات متشددة، بينها «القاعدة»، رغم أن «طالبان» تسعى إلى إبعاد ضيوفها عن دائرة الضوء، في خطوة من الواضح أنها تهدف إلى تجنب الإحراج أمام أطراف خارجية قادرة على عرقلة مساعيها لنيل اعتراف دولي بحكمها.

دخان يتصاعد في كابل عقب الضربة الأميركية التي أدت إلى مقتل أيمن الظواهري في 31 يوليو 2022 (أ.ف.ب)

يكشف التقرير الأخير لفريق مراقبة العقوبات على أفغانستان التابع للأمم المتحدة، والصادر في يوليو (تموز) 2024، عن أن «طالبان» لجأت إلى فرض «قيود على حركة أفراد (القاعدة) وجماعات مرتبطة به، وأرغمتهم على التقليل من ظهورهم في أفغانستان» رغم أن «العلاقة تبقى وثيقة (بين الطرفين)». ويشير التقرير، في هذا الإطار، إلى معلومات تفيد بأن «(القاعدة) يقوم بجهود مستمرة لإعادة تنظيم صفوفه، وتجنيد (عناصر)، والتدريب في أفغانستان»، لافتاً إلى تسجيل «حركة انتقال خفيفة باتجاه أفغانستان» لأشخاص على علاقة بـ«القاعدة».

يضيف التقرير أن «النية من وراء هذه النشاطات غير واضحة، وليس واضحاً (أيضاً) تبعات ذلك على قدرات (التنظيم). لكنَّ هذه النشاطات هي سبب لقلق كبير. إن عدد الجماعات الإرهابية التي تنشط في أفغانستان لم يتراجع»، مشيراً إلى أن «القاعدة وجماعات مرتبطة بها تعد دولة (أفغانستان) أرضاً صديقة».

صبر استراتيجي

ويتضمن تقرير الخبراء الأمميين المؤلَّف من 26 صفحة، معلومات عن تعاملات «القاعدة» مع مستضيفيها الأفغان. يقول: «تبقى (القاعدة) صبورة استراتيجياً، وتتعاون مع جماعات إرهابية أخرى في أفغانستان، وتعطي الأولوية لعلاقتها المستمرة مع (طالبان). تواصل هذه الجماعة العمل سراً بهدف إظهار صورة أن (طالبان) تلتزم بنود اتفاق الدوحة بخصوص منع استخدام أراضي أفغانستان لأغراض إرهابية».

لكن التقرير يضيف: «رغم الظهور المنخفض، تنشر (القاعدة) دعاية هدفها زيادة التجنيد (في صفوفها) في وقت تعمل فيه على إعادة بناء قدراتها العملياتية. إن قدرة (القاعدة) على شن هجمات ضخمة تبقى محدودة، لكن نيّتها تبقى صلبة، تُعززها قدرات جماعات مرتبطة بها على تنفيذ عمليات خارجية. ليس هناك تغيير (منذ تقرير الفريق الأممي السابق) في وضعية ولا مكان وجود أمير (القاعدة)، كما لم يحصل تغيير في قدرات الجماعة في أفغانستان».

ومعلوم أن التقرير السابق أشار، كما هو معروف، إلى معلومات تفيد بأن «أمير (القاعدة) الفعلي، سيف العدل (المصري محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان)، موجود في إيران، في حين أن هناك قادة آخرين، بينهم عبد الرحمن الغامدي، موجودون في أفغانستان».

يقدم التقرير الجديد، في يوليو الماضي، معلومات عن أدوار تلعبها قيادات «القاعدة» الموجودة في أفغانستان. إذ يقول إن «شخصيات (القاعدة) في أفغانستان تتواصل مع أمراء حرب، مروجي دعايات، مجندين وممولين»، مضيفاً أن «مدربين ذوي خبرة سافروا إلى أفغانستان لتقوية أمن الخلايا المنتشرة هناك. تعطي (القاعدة) الأولويات للتواصل وعمليات التجنيد، خصوصاً في أوساط أولئك الذين عملوا سابقاً إلى جانبها، أو كانوا أعضاء عملانيين، قبل أغسطس (آب) 2021»، وهو تاريخ عودة «طالبان» إلى سدة الحكم في كابل.

ويورد أيضاً معلومات عن مسعى قامت به «القاعدة» لـ«إقامة تعاون مع الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية التي تُعرف أيضاً باسم الحزب الإسلامي التركستاني، ومع جماعة أنصار الله، بهدف تكثيف النشاطات وتقوية موقعها ضمن هيكلية (طالبان) العسكرية في الشمال، (تمهيداً) لتنفيذ عمليات مشتركة ونقل مركز النشاط الإرهابي إلى آسيا الوسطى». و«جماعة أنصار الله»، هنا، هي جماعة طاجيكية تُعرف أيضاً بـ«طالبان الطاجيكية»، وتتخذ من ولاية باداخشان بشمال أفغانستان مقراً لها.

ويتضمن التقرير الأممي أيضاً معلومات مفادها أن «خلايا (القاعدة) تعمل في ولايات أفغانية عدة، خصوصاً في جنوب شرقي البلاد»، مشيراً إلى أن المقرات التابعة لهذا التنظيم تتولى على وجه الخصوص «تدريب مقاتلين محليين إلى جانب ناشطين في حركة (طالبان) الباكستانية»، متحدثاً عن «رصد مواقع لقواعد تدريب جديدة وبيوت آمنة في ولايات أفغانية مختلفة، بما في ذلك معسكرات سابقة في جلال آباد، وقندهار، وفي كونار، ونورستان وطاخار».

«القاعدة»... العودة إلى أفغانستان (الشرق الأوسط)

هرمية «القاعدة»

وبالنسبة إلى هرمية «القاعدة» في أفغانستان، يقول التقرير: «تطورت كتيبة عمر الفاروق تحت قيادة أبو إخلاص المصري، مع مجيء دفعة جديدة تضم بعض المقاتلين العرب. أبو إخلاص المصري تم وقفه حمائياً (الاعتقال بهدف الحماية) من المديرية العامة للاستخبارات في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، الأمر الذي عكس قلق (طالبان) من أن أجهزة استخبارات أجنبية كانت تبحث عنه». ويتابع: «عملاء آخرون لـ(القاعدة)، بينهم مهندسا أسلحة، أُخذا أيضاً للاعتقال بهدف الحماية أو تم إخفاؤهما من السلطات الفعلية في كابل».

وحسب التقرير، رُصد «وصول عدد من أعضاء (القاعدة) العرب إلى كونار ونورستان بهدف التدريب وتسهيل الاتصال بين محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان (الملقب سيف العدل) وبين شخصيات (القاعدة) الأساسية، ومع فرع (القاعدة) في شبه الجزيرة الهندية، ومع عناصر محددة من (طالبان). كما سُجّل وجود عبد العظيم بن علي، وهو عضو ليبي في (القاعدة) ينتمي إلى مجلس شورى أبو سليم في درنة، ليخدم في وزارة الداخلية (الأفغانية)، دون أن تكون له وظيفة واضحة، وتم منحه جوازاً أفغانياً باسمَي (عبد العظيم) و(علي موسى بن علي الدرسي)».

ومعلوم أن التقرير السابق لفريق الأمم المتحدة، لشهر يناير (كانون الثاني) 2024، أشار إلى وصول ستة ناشطين جدد من أفراد «القاعدة» إلى شرق أفغانستان للالتحاق بـ«كتيبة عمر الفاروق» التي يقودها أبو إخلاص المصري، كاشفاً عن أن هذا التنظيم أقام ثمانية معسكرات تدريب جديدة في أفغانستان، بما في ذلك في غزني ولغمان وبروان وأوروزغان، بالإضافة إلى قاعدة لتخزين السلاح في وادي بانشير.

ويضيف التقرير أن حكيم المصري، ومركزه في ولاية كونار، مسؤول عن معسكرات التدريب بما في ذلك «تدريب الانتحاريين» لمصلحة جماعة «طالبان» الباكستانية. ويورد التقرير أيضاً أن لـ«القاعدة» خمس مدارس (دينية) في لغمان وكونار وننغرهار ونورستان وبروان.

تعليمات للمقاتلين العرب بتجنب كابل

وكما يبدو، يثير الكشف عن وجود كل هؤلاء القادة الأجانب في أفغانستان قلق سلطات «طالبان» التي بدأت مسعى لتنظيم وجودهم. إذ يكشف تقرير الأمم المتحدة، لشهر يوليو الماضي، أن المديرية 31 في الاستخبارات الأفغانية، وهي المديرية المسؤولة عن التنسيق مع المقاتلين الأجانب، «أبلغت كل المقاتلين العرب بتجنب كابل وإلا واجهوا الاعتقال». وأضاف أن «طالبان» طلبت، رغم تعليماتها هذه، من أعضاء «القاعدة» أن يأتوا إلى العاصمة كي يتم تسجيلهم وأخذ معلومات عنهم وفق تقنية (بيومتريك)، فإن «شخصيات رفيعة من (القاعدة)» لم تأتِ.

في أي حال، يبدو أن قضية انتقال أعضاء من «القاعدة» إلى أفغانستان لم تعد سراً، رغم جهود «طالبان» لإبقاء الأمر بعيداً عن أعين وسائل الإعلام. وكان لافتاً، في هذا الإطار، أن سيف العدل، الذي يوصف بأنه «الأمير الفعلي» للتنظيم منذ مقتل الظواهري، خرج بمقالة نشرتها «مؤسسة السحاب»، الذراع الإعلامية لـ«القاعدة»، داعياً مناصري التنظيم إلى الالتحاق بأفغانستان. حضَّ سيف العدل في مقالته التي تحمل عنوان «هذه غزة: حرب وجود وليست حرب حدود»، المسلمين الراغبين في «التغيير» أن يذهبوا إلى أفغانستان «كي يتعلموا من ظروفها ويستفيدوا من تجربة (طالبان)».

ليست دعوة بريئة بلا شك. فسيف العدل، المقيم في إيران منذ سنوات طويلة، يفكر بالتأكيد في طريقة تسمح لتنظيمه بإعادة بناء نفسه واستقطاب مزيد من المقاتلين، تماماً كما فعلت «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي عندما استخدمت أفغانستان قاعدة خلفية للتجنيد والتدريب والتخفي.

وإذا كان تقرير الخبراء الأمميين يشير إلى أن «نية (القاعدة)» لم تتغير وهي التحضير لمزيد من الهجمات الإرهابية انطلاقاً من أفغانستان»، فإن المؤكد أن «طالبان»، في المقابل، ما زالت ملتزمة، حتى الآن، تعهدها بألا تسمح باستخدام أفغانستان منطلقاً لمؤامرات إرهابية في الخارج. لا بد من الإشارة هنا أن التحضير لهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر 2001 أثار جدلاً داخل التنظيم نفسه حول جواز ذلك شرعاً دون إذن حركة «طالبان». فهل يكرر التاريخ نفسه اليوم؟

«درون» مسلحة بصواريخ مشابهة للتي استُخدمت لقتل زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في كابل (الجيش الأميركي - أ.ب)

تهديد «القاعدة» في «أدنى مستوياته»

رغم القلق من مخاطر عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، تبدو الولايات المتحدة مطمئنة إلى أن هذا التنظيم هو الآن في أضعف مراحله منذ انتقاله من السودان إلى أفغانستان عام 1996.

وقالت ناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية رداً على أسئلة «الشرق الأوسط»: «نقيّم أن قدرة (القاعدة) على تهديد الولايات المتحدة من أفغانستان أو باكستان هي ربما عند المستوى الأدنى منذ انتقال الجماعة إلى أفغانستان من السودان عام 1996».

وأضافت أن «الاهتمام الدائم والأكثر أهمية للولايات المتحدة في أفغانستان يتعلق بضمان أن هذا البلد لا يمكن أن يكون مرة ثانية منصة انطلاق لهجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة».

وعن مؤشرات عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، قالت: «نتعامل انطلاقاً من مقاربة تشمل كل الحكومة الأميركية، وبالتعاون مع الشركاء والحلفاء، من أجل منع عودة ظهور التهديدات الخارجية من أفغانستان»، مضيفةً: «نضغط باستمرار على (حركة) طالبان من أجل التزام تعهداتها في مجال التصدي للإرهاب».

وأرسلت «الشرق الأوسط» إلى وزارة خارجية حكومة «طالبان» أسئلة تتعلق بالمزاعم عن عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، لكنها لم تتلقَّ رداً مع نشر هذا التقرير.