نساء «الخلافة» في «الهول» و«روج»... مصائر مجهولة على مد البصر

43 ألفاً غالبيتهن من العراق وسوريا ينتظرن «السجناء» وجواز السفر

TT

نساء «الخلافة» في «الهول» و«روج»... مصائر مجهولة على مد البصر

طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)
طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

على مدار سنوات، تحوَّل «مخيم الهول» إلى مدينة خيام حقيقية يعيش فيها ما يقرب من 43 ألف شخص، غالبيتهم نساء وأطفال. ويشكل اللاجئون العراقيون والنازحون السوريون أكثرية السكان، بينما تم تخصيص قسم للعائلات الأجنبية ويتحدر أفرادها من نحو 54 جنسية غربية وعربية.

ويقع «مخيم الهول» على بُعد نحو 45 كيلومتراً شرق محافظة الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، وازداد حجم سكانه من بضعة مئات، بداية إنشائه (2016)، إلى أكثر من 70 ألفاً، في سنوات سيطرة «داعش».

على بُعد 136 كيلومتراً من «الهول»، يقع «مخيم روج»، الذي يبدو للوهلة الأولى شبيهاً بسائر مخيمات النازحين واللاجئين، لكن هذه النظرة تختلف بعد الوصول إلى بوابته الرئيسية، حيث الأسوار عالية وكاميرات المراقبة ومئات الخيام المتراصة، التي تضم جهاديات وزوجات مسلحي التنظيم وبعض قادته.

وفي حين تستجدي بعض النساء سبلاً للخروج، لا يزال بعضهن متمسكاً بقناعات دفعتهن للالتحاق بمناطق التنظيم سابقاً حتى تحولت هذه المخيمات إلى محطة انتظار لا يعرف أحد فيها موعداً لرحلته.

«الشرق الأوسط» جالت على مخيمَي «الهول» و«روج»، وعادت بهذه اللقاءات والمشاهدات.

أحد الشوارع الرئيسية في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

في السوق التجارية لـ«مخيم الهول»، شرق سوريا، تتبضع نسوة عراقيات وسوريات حاجاتهن اليومية؛ خضراوات وفاكهة ومواد غذائية، كما لا بد من بعض مستحضرات التجميل. ومن تتسنَّى لها الفرصة قد تذهب لصيانة هاتفها الجوال، في حين تتعالى أصوات الباعة من وراء بسطاتهم الشعبية ومحالهم الصغيرة يروِّجون لبضاعتهم.

بعض الباعة يعرضون فساتين بلونٍ أحمر وهدايا عيد الحب وعطوراً، وكل ما كان محرَّماً خلال حكم «داعش».

وبحسب إحصاءات المفوضة السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، يعيش في «مخيم الهول» اليوم 43 ألفاً و477 فرداً. وتقدر مديرة المخيم جيهان حنان «عدد اللاجئين العراقيين بنحو 20 ألفاً، يأتي بعدهم النازحون السوريين، وهم 16 ألفاً، بينما القسم الخاص بالمهاجرات الأجانب يُقدَّر عددهم فيه بنحو 6500 شخصاً»، غالبيتهم نساء وأطفال.

التهديد والقتل متواصلان

تدير المخيم «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، وذراعها العسكرية، «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي شاركت في المعارك ضد التنظيم والقضاء على سيطرته العسكرية. ورغم الحملات الأمنية لكبح العنف، فإن التهديد والقتل متواصلان، كما شهد المخيم محاولات فرار جماعية أحبطها الأمن.

وكشفت مديرة المخيم تلقيها شكاوى من تهديدات في وضح النهار، وقالت: «رجال ملثمون يحملون الأسلحة يداهمون مراكز المنظمات ويسرقون مقتنياتها ويهددون حراسها».

واستعادت الحكومة العراقية 1400 عائلة من «مخيم الهول»، على 6 دفعات حتى نهاية 2023، لكن المشكلة أن غالبية الدول والحكومات ترفض استعادة رعاياها، رغم وجود حالات إنسانية.

نساء يعبرن الأزقة بين المنازل المسبقة الصنع في مخيم روج (الشرق الأوسط)

نساء يبحثن عن أزواجهن

«مضى على وجودي في المخيم 6 سنوات أو 7 أو حتى 10. حقيقةً لا أذكر... تعبنا من الانتظار»، بهذه الكلمات بدأت نوران حديثها الممزوج بالحسرة على السنوات التي قضتها في سوريا مرغَمة. هذه السيدة السبعينية عراقية تتحدر من بلدة القائم (غرب)، وكحال كثيرات من جيلها لم تعد تذكر تاريخ دخولها المخيم، بينما تعيش أيامها ولياليها دون اكتراث.

ودخلت هذه اللاجئة سوريا منتصف 2016 بعدما أزال التنظيم الحدود بين البلدين، وتعيش اليوم مع ابنتها الأرملة، وحفيدتها، وكان زوج الأخيرة قُتِل في المعارك شرق دير الزور. وعن رغبتها في العودة إلى العراق قالت: «إذا قالوا لي ارجعي، فسأرجع زحفاً، لأنني عشتُ المذلة والعوز».

وقالت رغد رسول، وهي لاجئة عراقية، إنها تعيش في مخيم الهول منذ 6 سنوات، وكانت غادرت مسقط رأسها صيف 2015، وتجهل مصير زوجها و4 من إخوتها المحتجزين لدى «قوات التحالف الدولي» و«قوات سوريا الديمقراطية»، منذ انتهاء معركة الباغوز قبل 5 سنوات. تقول: «زوجي وإخوتي ما أعرف عنهم شيئاً، أكبر أمنياتي أن أراهم وأسمع صوتهم مرة ثانية».

سيدات من أعمار مختلفة في مخيم روج (الشرق الأوسط)

جلست رغد بين حزم البقدونس وباقات البصل والنعناع تبيعها في السوق لإعالة أسرة من 5 أفراد، في حين بدت على وجهها تجاعيد عمرها الـ54. وقالت بلهجة عراقية: «أمان ماكو (لا يوجد أمان)، عيشة صعبة، غذائيات (ماكو)، السجناء ما ندري عنهم شيئاً، لكن أصعب شيء أن أطفالي يظلون دون مستقبل».

وتشكو غالبية اللاجئات العراقيات من عدم معرفة مصير أزواجهن أو أفراد الأسرة من الرجال المحتجَزين لدى قوات التحالف و«قسد». أزهار (32 عاماً) ترتدي السواد الذي لم يُظهر سوى عينين، وتحدثت بصوت منخفض خشية مَن يراقبها: «زوجي مفقود منذ 5 سنوات، لا أعرف إذا كان قد توفي أو لا يزال على قيد الحياة. من حقي معرفة مصيره، وأخاف كثيراً نقله للعراق ومحاكمته بتهمة (الانتماء إلى) التنظيم».

وتروي أزهار اللاجئة العراقية أنها تنقلت بين مدن سورية عدة؛ فكلما كان يُطرَد «داعش» من منطقة يقصدون أخرى، حتى انتهى بهم المطاف إلى الباغوز.

وبعد استسلام الرجال نُقِلت النساء والأطفال إلى «مخيم الهول». وقالت أزهار: «كل أهلي هنا، بينهم أبي وأمي و30 فرداً من الأسرة مع أولادي، أكبرهم عمره 18 سنة والثاني 10 سنوات».

سوريات يواجهنَ مشقة الحياة

بالإمكان مشاهدة كثير من جرحى الحرب في «الهول»، بينهم أطفال بُترت أطرافهم، ونساء على كراسيّ متحركة يدفعها أطفال، ورجال يمشون على عكازات. ورغم هذه الحالات الإنسانية القاسية، فإن هؤلاء يُصنفون بأنهم ناجون من «داعش»، ويعيشون اليوم في بيئة غير آمنة وسط الصحراء.

سيدة تبيع الحلويات لإعالة أسرتها في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

نحو 16 ألف نازح سوري في خيام وقطاعات مشتركة مع اللاجئين العراقيين يفصلهم سياج مسوّر وكاميرات مراقبة، يتحدر قسم قليل منهم من مناطق «الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرقي سوريا»، وآخرون جاءوا من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، إضافة إلى قسم يتحدر من مناطق العمليات التركية شمال وشمال غربي البلاد.

وتروي فاطمة (35 عاماً)، وهي متشحة بالسواد، أنها تتحدر من منطقة القرية التابعة لبلدة الميادين بريف دير الزور الخاضعة لسيطرة قوات النظام، وتفضِّل البقاء في المخيم على العودة بسبب غياب مصادر الدخل والوظائف واستمرار الحرب في مسقط رأسها.

تنقلت هذه السيدة وعائلتها بين مناطق عدة على مدار 10 أعوام، وتقول: «زوجي مصاب بالسرطان وفاقد الوعي، وأنا أعيل 5 أطفال. بعد الحرب بين النظام و(داعش) نزحنا إلى إدلب ثم إلى (مخيم المبروكة) برأس العين، وفي 2018 قصدنا (مخيم الهول)»، ولم تُخفِ خوفها من جرائم تنفذها خلايا موالية للتنظيم. وأكدت أنها تستدين أدوية زوجها من الصيدلية، وتبيع قسماً من سلَّتها الغذائية لسد الديون المتراكمة.

النازحة الأربعينية أماني تحدثت عما شاهدته من صور مرعبة حُفِرت في ذاكرتها؛ جثث معلقة دون رؤوس في ساحات عامة، وإعدامات ميدانية وغير ذلك، وهي اليوم تواجه عقبات كبيرة وتحديات يومية لا تنتهي. وتقول: «نعيش الخوف والقلق من المستقبل المجهول، بقاؤنا هنا ليس حلاً، كما أن عودتنا لمناطقنا تحدٍّ أكبر، تحيَّرت بنا هذه الدنيا».

بحسب القائمين على المخيم يوجد قسم كبير من النازحين لا يمتلكون وثائق وبطاقات شخصية، وهذه عقبة أخرى تقف عائقاً أمام عودتهم، فيما ذكرت مديرة المخيم، جيهان حنان، أن عودة السوريين إلى مناطقهم مرهونة بحل سياسي شامل وقرار أممي دولي، لافتة إلى أن معظم القاطنين بـ«الهول» يرفضون العودة: «لغياب حماية دولية تحفظ أمنهم وسلامتهم بعد العودة؛ فالإدارة الذاتية مع حق العودة الطوعية لأي نازح سوري كان أو لاجئ عراقي، لكن لن نضغط على أحد لإجباره على العودة».

150 جريمة قتل... وناجيات يتحدثن

في قسم منعزل بـ«مخيم الهول»، تقف مجموعة حراس من الأمن الداخلي «الأسايش» مدججين بالرشاشات والهراوات، يمنعون الدخول والخروج إلا بإذن خطي وموافقة من الإدارة قبل التجوُّل والتعرف على القاطنين. يُطلَق على هذا القسم «المنطقة الآمنة»، وتسكنه 25 عائلة سورية وعراقية من الناجين من انتقام خلايا «داعش».

لينا (23 سنة) نازحة سورية متحدرة من بلدة السفيرة جنوب شرقي حلب، تروي فصول مأساتها وتتحير؛ مِن أين تبدأ؟! مِن وضعها اليوم أم من زواجها القسري من مقاتل تونسي يكبرها بـ33 عاماً. تقول: «كان عمري 12 سنة فقط وعمر زوجي 45 سنة. والدتي توفيت وهي تضعني، وزوجة والدي ضغطت لتزوجني سريعاً».

تنقلت لينا مع عائلتها بين مناطق التنظيم حتى استقرت في الباغوز، حيث قُتِل زوجها، وقد أنجبت منه ابناً وابنة. وتقول: «مات طفلاي هنا بعد تدهور حالتهما الصحية. أعيش اليوم وحيدة في هذا المخيم، وأكبر أمنياتي ترحيلي لمكان آمن».

وخلال سنوات مكوثها بـ«مخيم الهول»، تعرضت لينا لتهديدات من قبل خلايا موالية لتنظيم «داعش»، بعد رفضها العمل معهم، وقالت: «هددوني 3 مرات، وفي الرابعة دخلوا خيمتي لقتلي، لكني استطعت الهرب وقصدت نقطة أمنية نقلتني إلى هذا المكان».

على مدار 4 سنوات شهد «مخيم الهول» أكثر من 150 جريمة قتل، وخلال عام 2023 وحده سُجِّلت 36 جريمة قتل. إحدى الناجيات ديما (28 سنة) المتحدرة من بلدة منبج شرق مدينة حلب عبَّرت كيف يتملكها الخوف عندما يحل المساء. وقالت: «حتى المنطقة الآمنة مكشوفة لكل المخيم، عندما يهبط الضباب أقول لنفسي: (وصلوا إليَّ وسيقتلونني)».

وديما متزوجة من ابن مدينتها الذي كان يعمل ممرضاً إدارياً في «داعش»، وبقي معهم حتى استسلم في معركة الباغوز، وهو في السجن منذ 6 سنوات، وقالت إن التنظيم طلب منها تنفيذ عمليات داخل المخيم لكنها رفضت، فتعرضت لمحاولة اغتيال دفعت إدارة المخيم لنقلها إلى المنطقة الآمنة.

حوالات مالية بحسب حجم الأسرة

في سوق «مخيم روج» قرب منطقة الحسكة السورية، انشغلت نساء بالتبضع وشراء الحاجيات وتسلُّم حوالات مالية مُرسَلة من الأهل. من بينهن فرنسية ترتدي نقاباً بلون أخضر وعباءة طويلة بنية، صرخت بنا بأعلى صوتها: «غير مسموح، غير مسموح تصويري، عليك إغلاق الكاميرا».

في هذه السوق الشعبية، اختلط ضجيج الأطفال بأصوات النساء اللواتي يتحدثنّ بجميع لغات العالم. أما اللغة المشتركة بين البائعة وزبائنها، فتكون العربية الفصحى بمفردات ركيكة.

نساء ينتظرن دورهن أمام أحد المراكز في مخيم روج (الشرق الأوسط)

تروي آسيا ربيع، وهي مغربية (25 عاماً) تتحدر من مدينة القنيطرة المطلة على الساحل الأطلسي، كيف دخلت سوريا عام 2015، وكان عمرها 18 عاماً فقط. أخبرتنا أنها تزوجت وهي قاصر ثم انفصلت عن زوجها الأول ولديها طفل منه بقي مع والده في مسقط رأسها، ثم سافر والدها إلى تركيا بذريعة العمل، فقررت الالتحاق به، لكنها، على زعمها، لم تدرك دخولها إلى سوريا، إلا عندما سمعت هدير الطائرات الحربية تحوم في سماء المنطقة، ورأت حراساً مسلحين يلبسون الزي التقليدي لعناصر تنظيم «داعش» وراياتهم العسكرية.

وقالت آسيا: «ادَّعى أبي أنه يعمل بمنطقة حدودية. وبعد وصولي دخلنا مباشرة للأراضي السورية وقصدنا مدينة الرقة دون معرفتي، بعد فترة زوَّجني من مغربي وأنجبت منه طفلين. أما والدي فقُتِل بالعام نفسه».

وآسيا من بين 580 مهاجرة مغربية التحقت بصفوف التنظيم في سوريا، ولديهنّ أكثر من 500 طفل يعيشون معهن.

طفلة عائدة من حصة دراسية في مخيم روج (الشرق الأوسط)

ويقع «مخيم روج» بريف بلدة المالكية أو ديريك بحسب تسميتها الكردية، تتبع محافظة الحسكة أقصى شمال شرقي سوريا، تقطنه نحو 828 امرأة من جنسيات عدة، ويضم نحو 2640 فرداً جلّهم من الأطفال، وهم عائلات مقاتلين كانوا في صفوف «داعش» يتحدرون من جنسيات غربية وعربية، بحسب مدير المخيم رشيد عمر.

وقال عمر لـ«الشرق الأوسط» إن المخيم «عبارة عن 4 قطاعات؛ قطاع قديم والقطاعان الأول والثاني وقطاع حديث خاص باللاجئين العراقيين»، وكشف هذا الإداري أن القوى الأمنية وخلال القصف التركي على المنطقة مطلع العام الحالي «أحبطت تحركات خلايا موالية لـ(داعش) شكلت 6 مجموعات، بينها مجموعتان من الأطفال أعمارهم 16 و17 عاماً، ومجموعات نسائية متطرفة». ويضيف: «وصلت إلينا تقارير أمنية عن حالات عصيان وشغب ومحاولات هروب، أُحبطت جميعها».

ومنعت إدارة المخيم النساء من ارتداء النقاب، ليظهرن دون نقاب؛ يرتدين غطاء رأس وملابس زاهية، وعن أسباب المنع يعزو الإداري الكردي القرار إلى أنه «بعدما خلعت بعض النسوة النقاب عمدت أخريات متشددات إلى الاعتداء عليهن، وحرقن خيامهن، وبعد مراجعة الكاميرات تبين أنهن منتقبات لا يظهر من وجوههن شيء، ولم نتمكن من التعرف على هوياتهن».

«نعيش في معسكر احتجاز»

طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

على مد البصر، مئات الخيام المغطاة بعازل أزرق لحمياتها من الأمطار، وخزانات ضخمة حمراء اللون يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه وُضِعت فوق دورات الحمامات، وكان بالإمكان مشاهدة أطفال كثر وهم يلعبون في كل مكان، وأطباق (الستلايت) وحاويات بسعة 20 لتراً، وصحون بلاستيك لغسل الملابس قرب كل خيمة، كما نُشِر على حبال الغسل مزيج من الألوان الزاهية.

وقفت الإندونيسية شريفة فرح أديبة أمام خيمتها الملاصقة للأسلاك الشائكة، وهي عبارة عن خيمة صغيرة مقسمة لمكان خاص بالنوم وآخر للطعام والجلوس، ولديها 3 أطفال، أكبرهم فتاة عمرها 8 سنوات، والثاني بعمر 7، والثالث 6 سنوات.

تتحدر هذه السيدة من مدينة مكسَر عاصمة مقاطعة سولاوسي الجنوبية الإندونيسية، وهي إحدى كبرى مدن الجزيرة البحرية، وانتهى بها المطاف للمكوث في «مخيم روج»، تحت رحمة خيمة لا تقيها الحر أو البرد.

وعن قصتها تقول: «جئتُ إلى سوريا مع زوجي التونسي، بعدما قرر الالتحاق بصفوف (داعش). تنقلنا بين كثير من المدن، وكنا ننسحب مع التنظيم حتى ريف دير الزور»، وأكدت أن زوجها قُتِل في معركة الباغوز ونُقِلت هي وأطفالها «إلى (مخيم الهول) بداية، وبقينا هناك 4 سنوات، ثم نُقِلنا لـ(مخيم روج)، قبل عام ونصف العام».

وشبهت قاطنات المخيم هذا المكان بإناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة عن مصير الأزواج والأبناء الذين رحلوا إلى السجون. تقول إحداهنّ، وهي إيرانية تُدعى هايدي علي، وعمرها 30 عاماً، قضت منها نحو 7 سنوات في بلد مزقته نيران الحروب: «أريد معرفة مصير زوجي المسجون منذ 5 سنوات، حتى اليوم لا أعرف عنه شيئاً؛ ما إذا كان على قيد الحياة أو مات، أو نُقِل لبلد ثانٍ».

ولم يُكتَب لهايدي من اسمها نصيب، وهو يعني «الأميرة الصغيرة»، كانت تلبس نقاباً حين وصفت المخيم بـ«معسكر للاحتجاز»، وقالت بنبرة غاضبة: «هذه عقوبة كافية لا نستحقها. أخاف أن تمرض ابنتي الوحيدة وتموت»، ونقلت أن ابنتها تبلغ 5 أعوام وُلِدت بسوريا ولا توجد أوراق تثبت جنسيتها.

وتابعت كلامها وهي تنظر مِن حولها لتشير إلى حيث انتهى بها المطاف: «كل أهلي في إيران، وعندما يرسلون لي حوالات مالية أتصل بهم، يقولون لي إنهم طالبوا السفارة السورية في طهران بإعادتنا، لكن يتعذرون لوجودنا في منطقة خارج سيطرة القوات النظامية».

ومثل غالبية زوجاتِ مقاتلي «داعش» في «مخيم روج»، تتقاسم هايدي مشاعرَ القلق والندم والخيبة بعد الانضمام إلى التنظيم، فرغم المناشدات المتكررة لحكوماتهنّ إرجاعِهن إلى بلدانهن الأصلية، يتملكهن الخوف من نسيان أمرهن وقضاء بقية حياتهنّ في هذا المكان المغلق.

الخيام حيث تبات النساء وأطفالهن في مخيم روج (الشرق الأوسط)

ويخشى القائمون على المخيمات من نشأة جيل جديد من المتطرفين المسلحين، لأن معظم الأطفال لا يعرفون من الطفولة والحياة سوى الحروب والقتل والمعسكرات المغلقة، ووُلِد بعضهم بسوريا، واليوم عمره 10 سنوات أو أكثر، وشدَّد مدير «روج» رشيد عمر على أن المخيم يضم مساحة لتعليم الأطفال، غير أنهم يتلقون دروسهم من قبل أمهاتهم أيضاً.

وتخلَّت كثير من النساء اللواتي التحقن بالتنظيم عن بطاقاتهن الشخصية وجوزات السفر، فيما ترفض معظم الدول النظر في أمرهن، نظراً لولادة أطفال على أراضٍ خارج حدودها، ووجود أطفال من جنسيات متعددة، وليس لديها شهادات ميلاد معترَف بها من حكومة رسمية، مما يحول دون إثبات جنسياتهم والحصول على وثائق شخصية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.