دمشق تتعلم الفارسية والروسية في سنوات الهيمنة

موسكو فرضت لغتها على المناهج الحكومية... ومعاهد طهران تثير قلق السوريين

صورة أرشيفية لكلية الشريعة في جامعة دمشق (الشرق الأوسط)
صورة أرشيفية لكلية الشريعة في جامعة دمشق (الشرق الأوسط)
TT

دمشق تتعلم الفارسية والروسية في سنوات الهيمنة

صورة أرشيفية لكلية الشريعة في جامعة دمشق (الشرق الأوسط)
صورة أرشيفية لكلية الشريعة في جامعة دمشق (الشرق الأوسط)

«احتلال اللغة هو السبيل الأقصر لاحتلال الوعي، وبالتالي احتلال القرار المستقل، وتهتيك المجتمعات ومحو هويتها»، هذا ما قالته عقيلة الرئيس السوري أسماء الأسد، لطلاب الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين خلال زيارتها مع الرئيس السوري إلى الصين نهاية صيف 2023.

الاهتمام الذي أبدته الأسد بالتمسك باللغة الأم في ذلك اللقاء، جاء مع دخول فرض روسيا تعليم اللغة الروسية ضمن مناهج المدارس الحكومية السورية عامها التاسع. يأتي ذلك وسط تنافس حثيث مع إيران على التغلغل في المجتمع السوري، والهيمنة على التعليم في مناطق سيطرة الحكومة، كأداة لإنشاء بيئة حاضنة، وتدعيم النفوذ العسكري بركائز ثقافية واجتماعية في ظل تردي العملية التعليمية، ومن ضمنه تعليم اللغة الأم، أي العربية.

الغلبة للروسية

مع أن طهران سبقت روسيا بسنوات في محاولة نشر تعليم الفارسية في سوريا، فإن الغلبة كانت لموسكو بتسللها إلى قطاع التعليم الحكومي، بالترافق مع التدخل العسكري عام 2015. ونجحت روسيا في فرض لغتها لغة ثانية اختيارية إلى جانب الإنجليزية والفرنسية في مراحل التعليم الأساسي. واليوم، بعد 9 سنوات يمكن القول إن موسكو قطعت شوطاً بعيداً. فعندما انطلق مشروع تعليم الروسية، تجريبياً عام 2015، تم تطبيقه على نحو 400 تلميذ في منطقة الساحل، ثم عممت التجربة لتشمل 217 مدرسة موزعة على 12 محافظة في مناطق سيطرة الحكومة، مع إتمام العام السابع، وتجاوز عدد الطلاب 35 ألف طالب، وعدد مدرسين بلغ 200 مدرس، بحسب تقارير حكومية سورية.

غزو التعليم الحكومي

حاولت إيران السير على خطى روسيا وفرض إدخال الفارسية إلى مناهج التعليم الحكومي تنفيذاً لاتفاقية بين طهران ودمشق، تتعلق بتبادل الخبرات والتجارب في المجالات العلمية والتعليمية والتربوية وتقديم الخدمات الفنية والهندسية وترميم المدارس. وفي عام 2021، تمكنت طهران من فرض تعليم الفارسية في المدارس الحكومية التي رممتها وأعادت تشغيلها فقط. وترافق ذلك مع تعزيز التوجه نحو التعليم الجامعي الحكومي، وشهدت السنوات الخمس الأخيرة افتتاح مراكز لتعليم الفارسية في جامعات دمشق والبعث في حمص، والكلية العسكرية السورية، لتضاف إلى المراكز التابعة لحوزة الخميني وفروعها في المحافظات السورية، وحسينية المهدي في حي زين العابدين بدمشق وجامعة السيدة رقية ومركز «الحجة» في محافظة طرطوس وغيرها، وذلك بالإضافة إلى افتتاح فروع لعدد من الجامعات الإيرانية؛ مثل جامعة «تربية مدرس»، وجامعة «المصطفى» وجامعة «الفارابي» وجامعة «أزاد إسلامي» وكلية المذاهب الإسلامية. كذلك ركزت إيران نشاطها في محافظة دير الزور، لا سيما في مناطق نفوذها بمدينتي البوكمال والميادين المحاذية للحدود مع العراق، الذي يعد منطقة نفوذ إيراني سياسي وثقافي واجتماعي.

بوابة الفقر

منذ عام 2018 وبعد طرد تنظيم «داعش» من المنطقة، شهدت مدن دير الزور والميادين والبوكمال، افتتاح كثير من المدارس ورياض الأطفال والمراكز الثقافية التي تعنى بتعليم الفارسية والفكر الديني الإيراني، كتلك التي سبق وافتتحتها المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق واللاذقية ومدن الساحل. وأفاد تقرير للمرصد السوري لحقوق الإنسان في أيار (مايو) الماضي، بأن تدهور المنظومة التعليمية ونقص الكوادر التدريسية جراء تدني الرواتب والفساد، في محافظة دير الزور، حفز طهران على التسلل إلى قطاع التعليم. وبحسب المرصد، تشهد المراكز التعليمية الثقافية الإيرانية انتعاشاً «يثير القلق» بالنظر إلى تأثيرها الكبير على الناشئة. مع الإشارة إلى أن الحرب أدت إلى تدمير عدد كبير من مدارس دير الزور، في حين تفتقد مدارس أخرى للمرافق الأساسية مثل قاعات الدروس الملائمة والمختبرات العلمية والمكتبات.

استقطاب الأطفال والشباب

وأفادت مصادر محلية في دير الزور باستغلال طهران لحالة الفقر والأزمة المعيشية في مناطق سيطرتها شرق سوريا، لتستقطب الأطفال والناشئة، عبر تقديم منح مالية ورواتب شهرية ووجبات طعام وسلال غذائية ورحلات ترفيهية، كما تقيم دورات مجانية تعليم مهني كالتمريض والإسعافات الأولية وصيانة الأجهزة الكهربائية ودورات محاسبة وإدارة أعمال تجارية، وغير ذلك من دورات تقيمها مراكز متخصصة بـ«تمكين الشباب».

وبحسب المصادر نفسها، التي فضلت عدم كشف هويتها، هناك 3 مدارس في مدينة البوكمال وواحدة في مدينة الميادين للأطفال من سن 9 إلى 15، تضم أكثر من 500 تلميذ، بالإضافة إلى مراكز تدريس اللغة الفارسية في ريفي دير الزور والرقة بمناطق سيطرة الحكومة، منها مركز «النور الساطع» في الميادين، ومركز «الأخوة» في البوكمال. ولفتت المصادر إلى أن إيران تأتي بمدرسين من عرب وإيرانيين شيعة يتقنون العربية، بينهم معممون، للتدريس في تلك المراكز، كما تقيم دورات لتدريب مدرسين سوريين على تعليم الفارسية في إيران أو سوريا. وهذا دأب روسيا أيضاً، إذ توفد مدرسين سوريين إلى موسكو لتعلم الروسية وطرائق تعليمها، لسد الحاجة لمعلمي الروسية في المدارس السورية. وتهدف طهران من خلال النشاطين الثقافي والاجتماعي، إلى «تكوين حاضنة اجتماعية محلية تكون بمثابة خزان بشري يرفد ميليشياتها بمجندين محليين».

أنشطة دينية ودورات مهنية

يقول حازم (17 عاماً) من دير الزور، إن الحرب أخرت دراسته ونال هذا العام شهادته الإعدادية، وهو واحد من نحو 130 طالباً وطالبة ممن حصلوا على الشهادة الإعدادية العام الحالي ويستفيدون من خدمات المركز الثقافي الإيراني، بمدينة دير الزور. ويعلم المركز الإنجليزية إلى جانب الفارسية، بالإضافة إلى إقامة دورات صيانة أجهزة الكهربائية وحدادة للذكور ودورات لتعلم الفنون الجميلة والطبخ والخياطة للإناث. وقال حازم إن المركز يقدم منحة مالية شهرية للمتعلمين لديه تقدر بـ30 ألف ليرة سورية (أقل من 3 دولارات)، وهي وإن كانت «ضئيلة، لكن الأهم هو التعليم المجاني». وبالتوازي مع التعليم، تنظم المراكز الإيرانية ندوات وأنشطة ثقافية دينية يقول حازم إنه يحضرها أحياناً مع كثر ممن يستفيدون من الخدمات والمساعدات الإيرانية.

وتتعاون المراكز الثقافية الإيرانية مع المنظمات الرديفة لحزب البعث كـ«الشبيبة» و«الطلائع»، لحضّ تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات على المشاركة في الأنشطة الثقافية، كالمسابقات والرحلات، وحضور مناسبات واحتفالات دينية شيعية.

الغذاء مقابل التعليم

الأهالي من أبناء العشائر العربية في دير الزور يبدون مخاوف من تسلل إيران إلى تعليم أبناء المنطقة عبر بوابة الفقر، ويقول محمد من الموحسن في ريف دير الزور، إن «البعض يقبل بتعليم أولاده في المدارس الإيرانية، بهدف الحصول على المساعدات، لا حباً بالثقافة الإيرانية»، لكن ذلك لن يمنع غسل الأدمغة الذي تمارسه المؤسسات الإيرانية على الأطفال والناشئة.

مصادر أخرى في دمشق قللت من فرص نجاح إيران في نشر ثقافتها بالمحافظة الشرقية، لأن البيئة هناك «معادية للثقافة الفارسية تاريخياً»، كون غالبية الأهالي من العرب السنّة. فبحسب هذه المصادر، «لا يمكن أن يشكل هؤلاء بيئة حاضنة اجتماعية سليمة وآمنة لإيران»، خصوصاً مع دخول روسيا على خط المنافسة بمجال التعليم. ولفتت المصادر إلى تقديم روسيا مع بداية العام الدراسي الحالي، 3 أطنان من المساعدات للمعلمين في دير الزور تضمنت قرطاسية وكتباً لتعليم اللغة الروسية للمعلمين، إلى جانب المواد التموينية، استفاد منها نحو 300 معلم ومعلمة.

الروسية تتقدم على الفارسية

وقارنت المصادر بين تجربة إيران التعليمية وتجربة روسيا في الساحل السوري، وقالت: «المدارس الشرعية الإيرانية (مدارس وثانويات الرسول الأعظم) التي افتتحتها إيران في ريف الساحل السوري خلال سنوات الحرب، باءت بالفشل، وتم إغلاقها عام 2017، لاشتراط وزارة الأوقاف السورية تدريس المناهج الشرعية السورية الرسمية بعد تذمر الأهالي من نشر التشيع». وبذلك، تميل كفة المقارنة لصالح تجربة تعليم الروسية التي تشهد إقبالاً نسبياً في المدارس والمراكز التعليمية، مع تفاوت النسب طبعاً بين منطقة وأخرى. فترتفع تلك النسب في الساحل، حيث تتمركز القوات الروسية ويكثر الاحتكاك بين الأهالي والعسكريين الروس سواء في الأسواق والأماكن العامة. وكذلك الأمر في حلب بصفتها مدينة صناعية وتجارية، يجد طلّابها في اللغة الروسية، عاملاً مساعداً للحصول على فرصة للسفر إلى روسيا لإكمال الدراسة أو العمل في الموانئ والمطارات والاستثمارات الصناعية الروسية داخل سوريا نفسها.

في المقابل، يتراجع الإقبال على تعلم الروسية في ريف دمشق والسويداء جنوب البلاد، حيث يوجد العسكريون الروس في نقاط ومواقع محددة، وينظر إليهم بأنهم قوة «احتلال» ولم ينخرطوا في الحياة اليومية كثيراً، رغم تفضيل وجودهم على الوجود الإيراني. فالعداء لإيران لا يقارن بالتوجس من روسيا، وإن كان يصح على كلا الطرفين ممارسة ما تحدثت عنه عقيلة الرئيس الأسد في بكين، من أن «احتلال اللغة هو السبيل الأقصر لاحتلال القرار المستقل وتهتيك المجتمعات ومحو هويتها»، مع تأكيدها «أننا جميعاً نواجه محاولات طمس الثقافات الوطنية للشعوب».


مقالات ذات صلة

تراجع أعداد اللاجئين السوريين في تركيا لأقل من 3 ملايين

شؤون إقليمية أحد مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا (إعلام تركي)

تراجع أعداد اللاجئين السوريين في تركيا لأقل من 3 ملايين

تراجعت أعداد اللاجئين السوريين الخاضعين لنظام الحماية المؤقتة في تركيا إلى أقل من 3 ملايين لاجئ.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي تشييع اثنين من ضحايا هجوم تدمر في الحطابية بمحافظة حمص الجمعة (متداولة)

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

أنباء عن مغادرة قياديين في «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيات تابعة لإيران، الأراضي السورية متجهة إلى العراق؛ خشية تعرضهم للاستهداف.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي رجال أمن وإنقاذ في موقع استهدفته غارة إسرائيلية في دمشق (أرشيفية - أ.ب)

تحذير أممي من انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي واسع»

رأت نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، نجاة رشدي، أن منطقة الشرق الأوسط تشهد «خطراً عميقاً»، ودعت إلى «عمل حاسم» لمنع انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي».

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان متحدثاً في البرلمان التركي (الخارجية التركية)

أنقرة: الأسد لا يريد عودة السلام في سوريا

أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن الرئيس السوري لا يريد السلام في سوريا، وحذر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب بدأت تهدد البيئة التي خلقتها «عملية أستانة».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي صورة من موقع غارة إسرائيلية على معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا - 20 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

«المرصد السوري» يعلن ارتفاع عدد قتلى الهجوم الإسرائيلي على تدمر إلى 92

قال «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، اليوم (الجمعة)، إن عدد قتلى القصف الأخير الذي شنَّته إسرائيل على مدينة تدمر، في ريف حمص الشرقي بوسط البلاد هذا الأسبوع ارتفع

«الشرق الأوسط» (بيروت)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!