ينتقد المحامي التركي وابن مدينة أنطاكيا، أغاويد ألكان، مشاريع إعادة الإعمار الجارية لأسباب كثيرة؛ أولها أنه «يجري التعامل مع أنطاكيا كأنها مساحة خالية من الناس»، ويضيف: «تجري صياغة خطط البناء والتشييد بطريقة غير شفافة، ومن دون استشارة السكان أنفسهم، علماً بأنه من المفترض أن يكونوا السكان الرئيسيين للمدينة الجديدة».
وكان الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في 6 فبراير (شباط) 2023، قد أدى إلى تضرر نحو 80 في المائة من المباني في مدينة أنطاكيا، الواقعة وسط محافظة هاتاي الجنوبية. وفقدت المدينة القديمة، التي يعود تاريخها إلى 2000 عام، جميع عماراتها تقريباً، بما في ذلك المنازل التقليدية والمساجد والكنائس والمعابد اليهودية التي كانت ترمز إلى الهوية المتعددة الثقافات والحضارات.
واليوم، يخشى السكان أن تتحول مدينتهم وسوقهم التاريخية إلى قبلة للسياح وليس موطناً لمعاودة السكن والعمل لهم ولعائلاتهم. بالإضافة إلى تأثير الزلزال وما خلّفه من خلل وظيفي في وسط المدينة، فقد السكان المحليون المساحة الرئيسية للتواصل الاجتماعي والتجاري بينهم، والتي كانت شريان حياة لنسيج متنوع من الفئات العرقية والدينية والعمرية قبل وقوع الكارثة.
وبعد وقت قصير للغاية من وقوع الزلزال، اتخذت الحكومة التركية قرارات جديدة فيما يتعلق بوضع المدينة التاريخية وبعض الأحياء السكنية فيها، فتم إسناد تنسيق عملية إعادة الإعمار إلى «جمعية التصميم التركية»، وهي مؤسسة مرتبطة بمجموعة «كاليون» المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بحزب «العدالة والتنمية» الحاكم والرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
وغداة وقوع الزلزال العام الماضي قامت مؤسسات إنفاذ القانون في تركيا باحتجاز أو إصدار أوامر بالقبض على نحو 130 شخصاً بينهم مقاولون وأصحاب شركات بناء بتهمة تورطهم في تشييد المباني التي انهارت وسحقت سكانها. ومن بين هؤلاء كان محمد يشار جوشكون مقاول البناء الذي شيّد مجمع «رينيسانس ريزيدنس» السكني الفاخر الذي يضمّ 250 شقة، انهارت بكاملها.
كذلك كانت وزارة العدل التركية قد أعلنت عن التخطيط لإنشاء مكاتب من أجل «التحقيق في جرائم الزلازل» لما اعتبرته في ذلك الوقت «فساداً» في صفقات الإعمار والإسمنت والحديد. لكن شيئاً من ذلك لم يتكشف بعد عام ولا عرف مصير هؤلاء سواء لجهة إثبات براءتهم والإفراج عنهم أو كيفية محاسبتهم.
وحدد بنيامين ديرمان، وهو أحد المهندسين المعماريين الرائدين في عملية الإعمار الخطة الرئيسية المتعلقة بالمدينة التاريخية وتقتضي «بناء حديقة أثرية ستشمل كل المباني التي كانت موجودة قبل وقوع الزلزال وغيرها من الآثار المتراكمة تحت الأرض ولكن سيجري عادة حفرها وإظهارها جزءاً من المشروع». ويقول ديرمان: «مصدر القلق الأكبر الآن هو أن ينتهي الأمر بهذه المدينة القديمة مزاراً للسياح، وليس مكاناً للعيش لسكانها وأبنائها».
بالإضافة إلى ذلك، فقد أُعْلِن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن تخصيص مساحة من الأراضي تبلغ نحو 200 هكتار، تتألف بشكل أساسي من أحياء سكنية، بوصفها «منطقة محمية».
ويعطي القانون التركي ذو الصلة المسؤولين سُلطة إعادة هيكلة المنطقة وفق تقديرهم للموقف، وهو ما يُشعِر السكان المحليين بالخوف الشديد بشأن حقوق الملكية الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال، رَفَعَ صالح الذي كان يملك شقة في هذه «المنطقة المحمية»، دعوى قضائية ضد هدم منزله الذي نجا من الزلزال بأضرار متوسطة؛ فقد كان يخطط مع جيرانه لترميم المبنى بدلاً من هدمه وإعادة بنائه. ومع ذلك، أصدرت المحكمة قراراً بالهدم، وبعد فترة وجيزة من صدور الحُكم هُدم المبنى، وأعلنت المنطقة بصفتها «محمية» أي عملياً صودرت.
وعلى الرغم من المخاوف والاعتراضات، فإن هناك أيضاً مَن يرحب بقرار الحكومة بتخصيص أحياء معينة كـ«مناطق محمية»؛ لأنها ستكون أحدث وبضمانات حكومية كاملة. فعلى سبيل المثال، شعر سيركان بالاطمئنان عندما علم أن منزله الجديد سيجري بناؤه بضمان الحكومة، «لأنه فقد الثقة بالمقاولين الخاصين» كما يقول، تماماً مثل كثيرين آخرين غيره.
وحتى الآن، أبرمت «جمعية التصميم التركية» عقوداً مع 10 شركات معمارية محلية ودولية لتصميم المنطقة، وسيتعين على أصحاب حقوق الملكية معاودة شراء شققهم بمجرد اكتمال بنائها. وعلى الرغم من أن الحكومة تقدم منحاً وائتمانات دون فوائد، فإن الكثيرين يخشون من أن ترتفع الأسعار في نهاية المطاف، وقد ارتفعت أصلاً منذ العام الماضي، وتبلغ مبالغ لا يحتملون تكبدها. ويقول أحد السكان: «لقد فقدنا جميعاً مصادر دخلنا بسبب الزلزال، ولا نملك المال، فكيف نفي بهذه القروض؟».
ويشير ألكان إلى مخاطر عملية التحسين المستهدفة، قائلاً إنها قد تعني أيضاً فقدان هوية المدينة المميزة، ولذا فإن كثيراً من السكان المحليين والخبراء يحثون المسؤولين على إعادة النظر في عمليات الإعمار بوصفها إعادة إحياء للبشر والحياة الاجتماعية والثقافية، وليست فقط تشييداً للمباني والحجر.