أميركا على مشارف عام من الانقسامات الداخلية والأزمات الدولية

مسؤولون حاليون وسابقون يقيّمون السياسات ويطرحون توصيات

بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
TT

أميركا على مشارف عام من الانقسامات الداخلية والأزمات الدولية

بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)

في 25 أبريل (نيسان) الماضي، ظهر الرئيس الأميركي جو بايدن على شاشات الأميركيين، وحسم شكوك الكثيرين: الرئيس الأكبر سناً في التاريخ الأميركي سيترشح لولاية ثانية. فرغم أرقام استطلاعات الرأي التي تظهر تدهوراً مستمراً في شعبية بايدن، البالغ من العمر 81 عاماً، فإن رهانه، ورهان حزبه يتمحوران حول هدف واحد: هزيمة خصمه المحتمل دونالد ترمب، و«الحفاظ على ديمقراطية أميركا» التي تعيش تقلبات خارجية وانقسامات داخلية يحذر البعض من زعزعتها لنسيج المجتمع وهيكلية النظام في موسم انتخابي حامٍ مشبع بالتجاذبات والتحديات.

ولعلّ التحدي الأبرز والمعضلة الكبرى بالنسبة لكثيرين، يتمثلان في شخص الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي، وعلى عادته، تحدى التوقعات والتكهنات مستمراً في حشد دعم مناصريه وتصدّر استطلاعات الرأي رغم القضايا القانونية التي يواجهها في المحاكم الأميركية، والتي ستلقي بظلالها على أحداث العام المقبل.

فترمب دخل التاريخ من أبوابه العريضة ليكون أول رئيس يتم عزله مرتين في مجلس النواب، وأول رئيس سابق يتم توجيه تهم جنائية بحقه في التاريخ الأميركي.

تحديات داخلية بين محاكمات وهفوات

يستبعد النائب الجمهوري السابق عن مجلس فيرجينيا دايفيد رمضان أن يصبح ترمب رئيساً للولايات المتحدة، رغم تقدمه في استطلاعات الرأي، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «على الأرجح أن يكون هو المرشح الجمهوري، لكن من غير المرجح أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، مع أن هذا معقول. فولاية جديدة لترمب ستكون خطرة على البلاد في هذه المرحلة، وخطوة غير مسبوقة. فهو بمواجهة 91 تهمة جنائية، ولدى حصول الانتخابات، الأرجح أن تكون قد تمت إدانته».

رسم للرئيس السابق دونالد ترمب خلال محاكمة بالاحتيال ضد منظمة ترمب في المحكمة العليا لولاية نيويورك (رويترز)

ومن هذا المنطلق، يكثف الديمقراطيون حملاتهم الداعمة لبايدن، بمعزل عن الأرقام غير المشجعة له في استطلاعات الرأي، وهفواته العلنية المتكررة. فهم يعدّونه المرشح الوحيد الذي يستطيع هزيمة ترمب في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل. ويتحدث جايسون ستاينبوم المدير السابق لموظفي لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب عن أسباب دعم الديمقراطيين لبايدن، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «الرئيس بايدن حصد سجل إنجازات كثيرة خلال ولايته، إذ تمكن من إخراج البلاد من زمن وباء كورونا بنجاح وحقق اتفاقات على مشروعات ضخمة للبنى التحتية والرعاية الصحية والطاقة وعنف السلاح في الكونغرس».

لكن التحديات الداخلية، على كثرتها، ليست الوحيدة التي تواجه الرئيس الأميركي، الذي وصل إلى الرئاسة وبجعبته أجندة طموح ترتكز بشكل أساسي على مواجهة الصين، ليصطدم بوابل من الأزمات الدولية بدءاً من أوكرانيا، مروراً بإيران والسودان، ووصولاً إلى غزة.

تحديات خارجية: حرب أوكرانيا وغياب الاستراتيجية

هيمنت حرب أوكرانيا على معظم فترة ولاية بايدن، فقد بدأت هذه الحرب بعد عام تقريباً من وصوله إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ليقضي معظم ولايته الأولى وهو يتعامل مع تداعياتها خارجياً عبر مساعي حشد دعم الحلفاء لتمويل الحرب، وداخلياً من خلال التصدي لمعارضة مزدادة في الكونغرس لإقرار التمويل. وتقول آنا بوريشسيفسكايا كبيرة الباحثين في معهد الشرق الأدنى، إنه رغم أن بايدن «يستحق الثناء لأنه وحّد موقف الغرب حول هذه القضية، فإنه لم يضع استراتيجية واضحة. فإدارة بايدن تفاعلت مع الملف عبر توفير المساعدات وفرض عقوبات على روسيا، لكن هذه ليست استراتيجية، بل خطوات تكتيكية».

رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون إثر انتخابه بعد أسابيع من الفراغ التشريعي (رويترز)

وذكرت بوريشسيفسكايا في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أن المعارضة الداخلية لتمويل الحرب سوف تزداد في الموسم الانتخابي، مشيرة إلى أن «الكرملين يراقب الانتخابات الأميركية عن كثب، وأن استراتيجية بوتين هي الانتظار كي يتخلى الغرب عن أوكرانيا وكي يصل ترمب إلى الرئاسة، لأنه في حال حصول ذلك سيتحقق السيناريو الذي يراهن عليه الرئيس الروسي»، في إشارة إلى تصريحات ترمب العلنية والرافضة لدعم كييف. وختمت بوريشسيفسكايا بلهجة يشوبها الاستياء: «بايدن حرص على عدم خسارة أوكرانيا. لكن هذا لا يعني أنه حرص على فوزها».

حرب غزة و«شيك على بياض» لإسرائيل

وكأن هذه التجاذبات السياسية حول أوكرانيا لم تكن كافية لزعزعة توازن بايدن، لتباغته أزمة أخرى من منطقة اتهمه كثيرون بتجاهلها طوال فترة رئاسته: الشرق الأوسط. فاندلاع حرب غزة وصور الدمار والضحايا المدنيين سلّطا الأضواء على دعم الإدارة الأميركية غير المشروط لإسرائيل، وزاد من حدة الجدل الداخلي حول سياسة «الشيك على بياض» تجاه تل أبيب. ما أدى إلى تعالي أصوات الناخبين الشباب والعرب والمسلمين ضد الرئيس الأميركي، مذكرين بأن أصواتهم هي التي أسهمت في فوزه بولايته الأولى، ومحذرين من سحب الدعم له في ولاية ثانية إن لم يغيّر من مواقفه.

في هذا السياق، تحدث وائل الزيات، المستشار السابق للمندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة والمدير التنفيذي لمنظمة «ايمغايج» المعنية بتنسيق جهود الناخبين المسلمين، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «إذا نظرتم إلى الناخبين الشباب عموماً، فإن أغلبيتهم يدعمون وقف إطلاق النار ولا يوافقون على السياسة الداعمة لإسرائيل، كذلك الأمر بالنسبة للناخبين العرب والمسلمين. هناك 200 ألف ناخب مسجل منهم في ميشيغان و200 ألفاً في بنسلفانيا. إن لم يصوتوا أو صوتوا لصالح حزب ثالث، فهذا سيؤثر حتماً على نتيجة الانتخابات. هذا ما نقوله للبيت الأبيض: دعمكم لإسرائيل قد يسلم البلاد لجمهوريي ماغا (الداعمين لترمب)».

ومع ازدياد أعداد الناخبين الرافضين للتصويت لبايدن بسبب موقفه الداعم لإسرائيل، يحذر الزيات من أن «رئاسة ترمب كانت لتكون أسوأ بـ100 مرة من رئاسة بايدن خلال النزاع»، وفسّر موقفه قائلاً: «ترمب هو من قطع تمويل الأونروا، وترمب هو الذي نقل السفارة إلى القدس، وترمب هو الذي اعترف بضم هضبة الجولان... ترمب كان واضحاً بأنه لن يضع أي قيود على ما تقوم به إسرائيل وأنه سيمنع اللاجئين الفلسطينيين من الدخول إلى أميركا».

إيران و«السياسة الفاشلة»

انعكاسات حرب غزة ولّدت تحديات من نوع آخر لإدارة بايدن، تمثلت بهجمات من وكلاء إيران على القوات الأميركية في المنطقة، ما دفع بالمعارضين لسياسته مع طهران إلى التذكير بمساعيه للعودة إلى الاتفاق النووي معها، والتوصل إلى اتفاق لتبادل السجناء نجم عنه الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية، ما أثار حفيظة المنتقدين، وعلى رأسهم كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور جيم ريش الذي وجّه انتقادات لاذعة للسياسة الأميركية تجاه إيران، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن اختصار سياسة بايدن مع إيران بكلمة واحدة: فاشلة. فالإدارة شاركت في مفاوضات نووية غير مثمرة ورفعت تجميد الأصول وتجنبت فرض العقوبات المرتبطة بالنفط، وفشلت في الترويج للردع الإقليمي، ما قوّى وكلاء إيران الإرهابيين». وعدّ السيناتور البارز أنه «حان الوقت كي تغيّر الولايات المتحدة جذرياً سياستها حيال طهران».

وقدّم ريش الذي يترأس الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية المعنية بالإشراف على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مجموعة من التوصيات لإدارة بايدن في تعاطيها المستقبلي مع طهران، فقال: «يجب أن نعود إلى سياسة العزل الاقتصادي، وأن نحرم النظام من الموارد التي يوظفها لدعم الإرهاب الإقليمي».

ويفسر ريش: «هذا يتضمن الحرص على فرض العقوبات الموجود على إيران وتجميد الأصول الإيرانية بشكل دائم حول العالم. يجب أيضاً أن نعمل على استرداد الردع. فالهجمات من المجموعات المدعومة من إيران على القوات الأميركية تخطت 190 اعتداء منذ عام 2021. لا يمكننا تحمل تكلفة الاستمرار بإرسال رسائل متناقضة». وختم السيناتور بتهديد مبطن: «أتطلع قدماً للعمل مع شركاء وحلفاء يشاركونني هذه الآراء لعزل النظام الإيراني في الأشهر المقبلة».

السودان و«سياسة من دون هدف»

يسعى النظام الإيراني جاهداً لبسط نفوذه وتأثيره في مواجهة النفوذ الأميركي، فعمد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى الدفع لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع بلد يشغل بال الإدارة ويتحدى نفوذها: السودان.

ففي 15 أبريل 2023، وبعد عامين تقريباً من الإطاحة برئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، اندلعت مواجهات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، ما أدى إلى ازدياد المخاوف من أي احتمال لعودة السودان إلى مسار الحكم المدني، الذي أسهمت الولايات المتحدة بشكل أساسي في تعزيزه بعد رفع البلاد عن لائحة الإرهاب وإعطائه الحصانة السيادية، بالتزامن مع مساعي الرئيس الأميركي حينها دونالد ترمب توسيع جهود التطبيع مع إسرائيل. في تصوّر تجاهلته إدارة بايدن كلياً بعد وصوله إلى الرئاسة، بحسب توصيف الجمهوريين.

جو بايدن ونجله المدان بالفساد هانتر يصلان إلى نيويورك في 4 فبراير 2023 (أ.ف.ب)

وسعت الإدارة جاهدة إلى احتواء الأزمة وسط تخوف من انعكاساتها المدمرة على السودان ومحيطه، فعمدت إلى التعاون مع السعودية لعقد محادثات جدة في مايو (أيار) من العام نفسه، من دون انفراجات تذكر، ما أدى إلى فرض سلسلة من العقوبات الأميركية على «أفراد ومؤسسات أسهموا في زعزعة الاستقرار».

ويقول كاميرون هادسون كبير الموظفين السابق في مكتب المبعوث الأميركي الخاص للسودان، إن «السياسة الأميركية حيال السودان كانت بشكل عام من دون هدف، وينقصها أي نوع من التركيز الاستراتيجي». وتابع هادسون في حديث مع «الشرق الأوسط»: «منذ لحظة اندلاع الصراع الذي فاجأ الولايات المتحدة، وهي تسعى للحاق بمجريات الأحداث، لكنها لم تجارِها بعد». والمبادرات الدبلوماسية كمحادثات جدة أو توظيف العقوبات لم يتم دعمها من خلال أي انخراط رفيع المستوى، ما أدى إلى تجاهل دور واشنطن بشكل كبير».

وعن احتمال انخراط الولايات المتحدة في جهود فعالة لإنهاء الأزمة في عام 2024، يستبعد هادسون كلياً أن تركز أميركا على النزاع بالشكل اللازم، مشيراً إلى وجود نزاعات في غزة وأوكرانيا ينخرط فيها مسؤولون أميركيون بشكل مستمر، «ويترك نزاعات كالسودان بيد دبلوماسيين ذات مستوى متواضع ليست لديهم السلطة ولا الرؤية لتحريك النفوذ الأميركي الذي يرسم نهاية للصراع وينفذ الأرواح». وختم هادسون بلهجة تشاؤمية: «أتوقع الأمر نفسه من واشنطن في عام 2024: الاستمرار في استنكار الجرائم المرتكبة وفعل القليل لوقفها».

الصين و«منطاد الأزمات»

ومع تشعب الصراعات وتوسعها، سعى الرئيس الأميركي جاهداً إلى إعادة التركيز على المنافسة الأبرز التي تواجهها بلاده: الصين، فمن الصعب عليه أن يتغافل عن الملف في عام حلّق فيه «المنطاد» الشهير فوق رؤوس الأميركيين لأيام عديدة، قبل إسقاطه من قبل الولايات المتحدة في 4 فبراير (شباط) 2023، ما أشعل أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين، تمكنا من تخطيها جزئياً في لقاء تاريخي جمع بين رئيسيهما لأول مرة على أرض أميركية في 15 نوفمبر، حين التقيا على هامش قمة «أبيك» في ولاية كاليفورنيا.

الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ مع كبار مساعديهما في سان فرانسيسكو في 15 نوفمبر الحالي (د.ب.أ)

ووصف سوراب غوبتا كبير الباحثين في معهد الدراسات الصينية - الأميركية الاجتماع بالناجح، مذكراً بأبرز ما تم التوافق عليه كاستئناف قنوات التواصل العسكري التي قطعتها الصين بعد زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتعاون لمكافحة أزمة مخدر الفنتانيل. ويقول غوبتا لـ«الشرق الأوسط»: «تعزيز العلاقات هذا من شأنه أن يكون مفيداً في عام 2024، لصد أي توتر سوف ينجم عن عام انتخابي حامٍ». ويعدّ غوبتا أن «بايدن هو المرشح الأفضل لتوازن العلاقات الأميركية - الصينية، فالحزب الجمهوري هو حزب لديه نظرة متشددة أكثر حيال بكين، والآن مع انهيار منظومة التعاون الدولي وتراجع الأصوات الداعمة للتبادل التجاري داخل الحزب سيكون هناك قليل من الأسس المشتركة للتعاون مع الجمهوريين».

ومع تراكم الأزمات وتشعبها، يحبس العالم أنفاسه بانتظار نوفمبر 2024 موعد الانتخابات الرئاسية التي سترسم مستقبل الولايات المتحدة وتحدد معالم الصراعات المزدادة في عالم متعدد الأقطاب.


مقالات ذات صلة

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أوروبا أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

قرر الاشتراكيون الديمقراطيون دعم أولاف شولتس رغم عدم تحسن حظوظ الحزب، الذي تظهر استطلاعات الرأي حصوله على نحو 15 في المائة فقط من نوايا التصويت.

«الشرق الأوسط» (برلين)
المشرق العربي الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

مع بدء الدورة العشرين لمجلس النواب الأردني، الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
شمال افريقيا ممثلو دول أوروبية داخل مركز العدّ والإحصاء التابع لمفوضية الانتخابات الليبية (المفوضية)

ليبيا: إجراء الانتخابات المحلية ينعش الآمال بعقد «الرئاسية» المؤجلة

قال محمد المنفي رئيس «المجلس الرئاسي» إن إجراء الانتخابات المحلية «مؤشر على قدرة الشعب على الوصول لدولة مستقرة عبر الاستفتاءات والانتخابات العامة».

جمال جوهر (القاهرة)
الولايات المتحدة​ الملياردير إيلون ماسك (رويترز)

هل يمكن أن يصبح إيلون ماسك رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل؟

مع دخوله عالم السياسة، تساءل كثيرون عن طموح الملياردير إيلون ماسك وما إذا كان باستطاعته أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة في المستقبل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا وزير الداخلية جيرالد دارمانان (اليمين) متحدثاً إلى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (رويترز)

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي، إلا أن البديل جاهز بشخص رئيس «حزب التجمع الوطني» جوردان بارديلا.

ميشال أبونجم (باريس)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!