مصر وإسرائيل... سلام «بارد» أم تفاهم ممتد؟

علاقات «ما بعد أكتوبر» لم تستطع اختراق جدار الرفض الشعبي

TT

مصر وإسرائيل... سلام «بارد» أم تفاهم ممتد؟

رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحيم بيغن يخاطب الكنيست بينما يستمع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في القدس عام 1977 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحيم بيغن يخاطب الكنيست بينما يستمع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في القدس عام 1977 (غيتي)

عندما كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس، ونظراؤهم السوريون يقتحمون مرتفعات الجولان، بعد ظهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما لم يُدر في خلدهم تلك الحسابات المعقدة والتحولات غير المسبوقة التي ستلي المعارك العسكرية. لكن هذا ما حدث على أي حال -بدرجات متفاوتة- في ساحات السياسة والدبلوماسية، لتدخل المنطقة في حقبة "ما بعد أكتوبر" منعطفاً جديداً تقاطعت فيه مصائر العرب مع استراتيجيات الدول الكبرى.واليوم وبعد نصف قرن على "يوم المفاجأة" العربي لإسرائيل، تبدو صورة الحدث منقسمة بين فخر وطني لا يزال راسخاً في الأذهان، ومعاهدات لافتة تضمن لها القوى الكبرى السريان. وبين هذا وذاك، انتهاكات واعتداءات تخبو حيناً وتتفجر أحياناً.

خمسون عاماً مرَّت على «آخر المعارك» بين مصر وإسرائيل، تخللتها نحو 45 عاماً من السلام بين البلدين، سلام يصفه البعض بأنه «بارد»؛ إذ يقتصر على العلاقات الرسمية، دون أن يمتد إلى تطبيع شعبي، فلا يزال «الحاجز النفسي» تجاه إسرائيل قائماً، لم تستطع سنوات السلام أن تخترقه، فيما يرى آخرون أن «صمود» حالة السلام بين القاهرة وتل أبيب في ظل تحولات داخلية وعواصف إقليمية «يمثل نجاحاً بحد ذاته».

ووقّع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن معاهدة سلام في 26 مارس (آذار) 1979 برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، غير أن العلاقات الثنائية لا تزال محصورة على الجوانب الرسمية، سواء في جوانبها الدبلوماسية أو الأمنية، بينما اتخذت العلاقات الاقتصادية اتجاهاً تصاعدياً قبل عقدين، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تشجيع البلدين على مزيد من التعاون، يتجاوز الجمود السياسي والرفض الشعبي المصري للتطبيع، وذلك من خلال اتفاقية إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة في مصر (كويز) عام 2004، التي سمحت بالوصول المُعفى من الرسوم الجمركية إلى السوق الأميركية للسلع المنتجة مع ما لا يقل عن 10.5 في المائة من المدخلات الإسرائيلية.

السادات وبيغن يتعانقان بعد توقيع اتفاقية السلام برعاية كارتر في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

أزمات وتفاهمات

ورغم اتجاه عدد من رجال الأعمال لتجاوز «حاجز الصمت» في العلاقات بين البلدين فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين بقي محدوداً، وبلغ خلال العام الماضي 270 مليون دولار سنوياً، إذ تُصدّر إسرائيل لمصر بضائع بقيمة 150 مليون دولار، في حين تستورد منها ما قيمته 115 مليون دولار، وفقاً للإحصاءات الإسرائيلية الرسمية لوزارتَي «الصناعة والتجارة» و«الاقتصاد»، فيما لا تتوافر بيانات مصرية محدَّثة في هذا الشأن.

وإلى جانب التعاون الاقتصادي «المحدود» استطاعت العلاقات بين البلدين تخطي مجموعة من الأزمات ارتبط بعضها بحوادث ذات طابع أمني، كبعض الاعتداءات الحدودية، كان آخرها حادث معبر العوجة في يونيو (حزيران) الماضي، الذي أدى إلى مقتل 3 جنود إسرائيليين وفرد أمن مصري، قال بيان للجيش المصري إنه كان «يلاحق مهربين على الحدود مع إسرائيل».

ولم يكن ذلك الحادث هو الأول من نوعه، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 1985 وقعت عملية «رأس برقة»، التي نفّذها الجندي المصري سليمان خاطر، حيث قتل سبعة إسرائيليين في منطقة حدودية بين البلدين.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 احتجت مصر على مقتل ثلاثة من قوات الأمن المركزي المصري بعدما أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة عبر الحدود بين مصر وقطاع غزة، وفي أغسطس (آب) 2011 أدت غارة جوية إسرائيلية على الحدود المصرية جنوب رفح إلى مقتل 5 مجندين من حرس الحدود المصرية، وقدمت إسرائيل لاحقاً اعتذاراً رسمياً.

أصدقاء ومقربون يودعون جثمان جندي إسرائيلي قُتل في يونيو المماضي قرب الحدود المصرية (رويترز)

كما صمدت العلاقات بين البلدين في وجه النزاعات الإقليمية من بينها الحروب في لبنان (1982 و2006)، والانتفاضتان الفلسطينيتان (1987 و2000) وفي مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، التي استطاعت القاهرة توظيف اتصالاتها مع تل أبيب لوقفها عدة مرات، فيما عُدّ نجاحاً مصرياً على المستويين الإقليمي والدولي.

ورغم تحولات نظام الحكم في مصر وتبدل الحكومات في إسرائيل، فإن العلاقات بين البلدين حققت قدراً من الاستقرار، لكنّ ذلك لم يفلح في تغيير الموقف الشعبي الرافض للتطبيع مع إسرائيل، والذي بلغ ذروته عقب أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 عندما اقتحم متظاهرون غاضبون شقة ملحقة بالسفارة الإسرائيلية، وأنزلوا عَلَم إسرائيل من أعلى المبنى الذي توجد به، كما أنهت مصر الاتفاق طويل الأجل الذي كانت تزوّد بموجبه إسرائيل بالغاز الطبيعي بعد أن تعرض خط الأنابيب العابر للحدود لأعمال تخريب متكررة.

واقعية رسمية

ويُرجع الدكتور أحمد يوسف، أحمد أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لـ«معهد البحوث العربية»، صمود علاقة السلام بين مصر وإسرائيل إلى احترام مصر التزاماتها الدولية، إضافةً إلى ما يصفها بـ«اعتبارات الواقعية السياسية»، في ظل الظروف الإقليمية والدولية.

ويشير أحمد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن العلاقة بين الطرفين تبدو بالفعل «سلاماً بارداً»، إذ بقيت مقصورة على الأطر الرسمية وفي حدها الأدنى الذي تستوجبه الترتيبات الأمنية والدبلوماسية، لكنها «لم تنتقل أبداً إلى مرحلة السلام الدافئ، على الأقل شعبياً».

وفي حين يتفق الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والجامعة الأميركية، مع فكرة استمرار الرفض الشعبي لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، إلا أنه يرى أن ثمة تطورات في العلاقات الرسمية بين الجانبين، خصوصاً مع تعدد لقاءات المسؤولين في البلدين، ومشاركة مصر في «منتدى النقب» الذي يضم دول عدة بينها إسرائيل والولايات المتحدة ويتولى تنسيق السياسات بين الدول المشاركة.

ويذهب السيد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن السلام الرسمي مع إسرائيل «لم يعد بارداً»، وأن موافقة إسرائيل على تجاوز مصر بعض قيود وجود قواتها في سيناء، وفقاً لنصوص اتفاق السلام مثّل تجسيداً لحالة «الاعتماد المتبادل» بين البلدين، وبخاصة في المجالين الاقتصادي والأمني، لكن الرفض الشعبي «يكاد يكون مطلقاً»، مستشهداً برفض الأحزاب والنقابات المصرية إقامة أي علاقات مع نظيراتها في إسرائيل، ويشير كذلك إلى تراجع لقاءات مثقفين من البلدين كما كان يحدث في سنوات سابقة.

ويعتقد الدكتور عماد جاد، مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» والعضو السابق في مجلس النواب المصري، أن العلاقات المصرية - الإسرائيلية تشهد حالياً موجتها الثالثة التي يصفها بـ«السلام الساخن»، بعدما تجاوزت موجة السلام الرسمي «البارد»، و«الحرب الباردة» التي تزامنت مع أحداث إقليمية عاصفة كالغزو الإسرائيلي للبنان والانتفاضتين الفلسطينيتين، وما أتبع تلك الأحداث من استدعاء للسفير المصري في تل أبيب.

ويضيف جاد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أن زيادة عدد القوات المصرية في المنطقة (ج) من سيناء، من نحو 750 جندياً من قوات حرس الحدود إلى 35 ألف جندي مصري بكامل العتاد لمحاربة الإرهاب بعد 2013، يعني وجود تنسيقات مصرية - إسرائيلية، فضلاً عن المصالح الاقتصادية المتبادَلة بعد اكتشافات الغاز، والتي خلقت إطاراً إضافياً للتنسيق والتعاون في إطار «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي تشارك فيه إسرائيل، وتستضيف القاهرة مقره.

لقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك عام 2017 (رويترز)

حظر التطبيع

ورغم أن أكثر من 65 في المائة من المصريين وُلدوا بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإن ثمة مؤشرات عدة على الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، إذ تحظر الأحزاب والنقابات المهنية والفنية والتجمعات الثقافية في مصر على أعضائها كل أشكال «التطبيع»، وتصر نقابة الصحافيين المصريين على تجديد ذلك الحظر دورياً. وتعرّض الممثل المصري محمد رمضان لحملة انتقادات عنيفة قبل 3 أعوام بعد نشر صورة تجمعه بالمغني الإسرائيلي عومير آدم، في دبي، واضطر رمضان إلى الاعتذار.

فيما واجه البرلماني المصري السابق والإعلامي توفيق عكاشة، عقوبة الفصل من البرلمان عقب دعوته السفير الإسرائيلي في مصر إلى منزله عام 2016، وهو ما تسبب في تعرضه لهجوم غير مسبوق، وهمّ أحد النواب بضربه خلال جلسة مناقشة قرار فصله من البرلمان.

كما مثّلت المنافسات بين رياضيين مصريين وإسرائيليين في محافل دولية مؤشراً كذلك على الموقف الشعبي المصري، إذ غالباً ما تنتهي تلك المنافسات بانسحاب اللاعبين المصريين، أو برفضهم مصافحة منافسيهم، وفي بعض الأحيان شهدت تلك المقابلات أحداث عنف على غرار ما وقع في مواجهة منتخبَي كرة اليد بالبلدين في هولندا عام 1995 حيث أُصيب فيها خمسة لاعبين إسرائيليين.

ورغم تلك الوقائع، فإن الدكتور عماد جاد يرى أن ثمة «خفوتاً في حدة الرفض الشعبي تجاه إسرائيل»، مرجعاً الأمر إلى اتخاذ بعض الفصائل الفلسطينية ومنها «حماس» مواقف يصفها بـ«المعادية للمصالح المصرية»، مثل اتهامها باقتحام السجون إبان أحداث 25 يناير 2011، أو إقامة علاقات مع دول مثل قطر وإيران وتركيا في فترة التوتر مع مصر عقب 2013.

كما يشير البرلماني المصري السابق إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية لدى جموع المصريين بسبب انشغالهم بالهموم المعيشية، فلم تعد تخرج مظاهرات عند وقوع عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، كما كسر الكثير من الصحافيين حظر التطبيع وزاروا إسرائيل، من بينهم نقيب الصحافيين الراحل مكرم محمد أحمد.

في المقابل، يرى الدكتور أحمد يوسف أحمد، الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع إسرائيل «لا يزال قوياً»، ويصفه بـ«الموقف بالغ التميز»، إذ يعكس التزاماً بموقف النظام العربي ألّا يتم التطبيع إلّا بعد حل القضية الفلسطينية، لافتاً إلى أن السلطات المصرية «لم تحاول في أي مرحلة منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل أن تضغط على النقابات والأحزاب لتغيير مواقفها، أو تحاول غسيل دماغ مواطنيها لقبول التطبيع مع إسرائيل».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!