الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية
TT

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

أمام ما يشهده عالمنا المعاصر من أزمات وتحديات تهدد مصير الإنسان، لا بد من العودة إلى الفلسفة الأخلاقية التي يمكنها أن تساعد الإنسان المعاصر على فهم شروطه وتخطيها، وبالتالي الخروج من أزماته المتلاحقة على إيقاع التطور الهائل في ميادين العلم والتكنولوجيا. في هذا المقال سوف نستعين بأحد أهم فلاسفة الأخلاق، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804)، حيث سنحاول إلقاء الضوء على منعطف أساسي في فلسفته يتمثّل في محاولة إتمام مشروع النقد من خلال الخروج من مأزق العقل النظري الخالص، الذي وجد نفسه عاجزاً أمام موضوعات غير خاضعة للتجربة، مثل الله والنفس والعالم، إلى ميدان التجربة الأخلاقية، بحيث يستعيد العقل دوره فيتحول إلى عقل عملي خالص من خلال تأسيس ميتافيزيقي للأخلاق يؤسس التجربة الأخلاقية على العقل، ويضمن للعقل العملي بذلك موضوعاته التجريبية التي يستمدها من ميدان الأخلاق النظرية.
هذا المنعطف برز من خلال كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»** الذي صدر في العام 1785، أي بعد مرور أربع سنوات على صدور كتابه «نقد العقل الخالص النظري».
في الفصل الأول، أي الانتقال من المعرفة العقلية الشائعة للأخلاق إلى المعرفة الفلسفية، يتناول كانط بالتحليل مسألة الإرادة الخيّرة، معتبراً أنها بصفتها خيّرة تملك قيمة مطلقة. ولكن هذه المسألة تطرح المفارقة التالية: كيف تكون الإرادة خيّرة بشكل مطلق دون أن تكترث للمنفعة التي يمكن للإنسان أن يطمح لها من خلال قيامه بعمل الخير؟
إن حل هذه المفارقة قد يكمن في المقصد الأخلاقي للعقل المتمثل في إنتاج إرادة خيّرة في ذاتها وليس كوسيلة لتحقيق غاية أخرى. وبالتالي، فإن الإرادة الخيّرة تتمثل في أن نقوم بواجبنا انطلاقاً فقط من شعورنا بالواجب. وهذا يفترض ثلاث فرضيات: الفرضية الأولى تكمن في افتراض مفهوم لإرادة حقاً جديرة بالتقدير بذاتها وخيّرة بمعزل عن أي مقصد لاحق. وهذا يتوضح من خلال الإضاءة على مفهوم الواجب الذي يتضمن مفهوم الإرادة الخيّرة. ولكن هل نستطيع التمييز بسهولة بين واجبات تقوم على الواجب لمجرد الواجب وأخرى تقوم على المنفعة؟ أما الفرضية الثانية فتفيد بأن أي عمل يقوم انطلاقاً من الواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من الهدف المطلوب الوصول إليه بل من الحكمة (maxime) التي على أساسها يتصرف؛ هذا يقودنا إلى الفرضية الثالثة المشتقة من الفرضيتين السابقتين والتي صاغها كانط كما يلي «إن الواجب هو ضرورة إنجاز عمل ما احتراماً للقانون» (ص 23). إذاً، إن احترام القانون هو المحرك الوحيد للإرادة الخيّرة. ولكن ماذا يمكن أن يكون عليه هذا القانون؟
علي العمل دائماً بطريقة تمكنني من أن أريد أيضاً أن تصبح حكمتي قانوناً كونياً. إن هذا التطابق مع القانون بشكل عام يصلح إذاً كمبدأ للإرادة.
إذاً، وبكل بساطة، فإن المعرفة العقلية الشائعة تتمتع بمزايا تمكّنها، دون الحاجة إلى علم أو فلسفة، من معرفة ما يجب عمله من أجل أن يصبح الإنسان خيّراً وشريفاً وحتى حكيماً وفاضلاً. وهذا يظهر جلياً من خلال الاحترام الذي يتطلبه العقل تجاه فكرة إمكان أن تكون الحكمة الشخصية قانوناً كونياً. ويفترض كانط أن العمل انطلاقاً من الاحترام الخالص للقانون العملي يؤسس الواجب. مع ذلك، فإن كانط لن يأمن في بساطة الحس المشترك.
هكذا، فإن العقل المشترك يحتاج إلى الفلسفة لحماية الوعي ضد مغالطات «حب الذات».
ولكن الانتقال إلى المعرفة الفلسفية يستلزم انتقالاً من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق، وهذا سيكون موضوع الفصل الثاني للكتاب، حيث ينطلق كانط من التأكيد على أن مفهوم الواجب ليس تجريبياً؛ إذ إننا نقرّ بأنه ليس ممكناً إيراد مثَال واحد أكيد عن القصد بالسلوك انطلاقاً من الواجب في ذاته.
بالتالي، فإن دراسة فكرة الواجب يجب أن تكون ميتافيزيقية قبلية. ومن هنا ينتقل كانط إلى تعريف الواجب. فهو يعتبر أن كل شيء في الطبيعة يفعل حسب القوانين ولكن الكائن العاقل وحده يمتلك القدرة على العمل حسب تمثّل القوانين، أي حسب مبادئ؛ وبعبارة أخرى، هو الوحيد الذي يمتلك إرادة. وبما أن العقل ضروري لاشتقاق الأعمال من القوانين، وبما أن الكائن العاقل له رغباته وميوله، وبما أن إرادته قد تصطدم بمبادئ موضوعية، فإن تمثّل المبدأ الموضوعي من قِبَل الإرادة يكون بمثابة خضوعٍ واعٍ للأمر الآتي من الواجب. وبالتالي، فإن الأوامر تعبّر عن نفسها من خلال فعل الوجوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإرادة الخيّرة بذاتها لا تحتاج إلى أوامر؛ إذ إنها في ذاتها مطابقة للقوانين الموضوعية.
ولكن الأوامر على أنواع، فمنها ما يأمر افتراضياً، ومنها ما يأمر قطعياً.
لصياغة الأمر القطعي يكفي أن نرجع إلى مفهومه البسيط وهو مفهوم الكونية universalité. إذاً هو بسيط وكوني وواحد يمكن صياغته على الشكل التالي: افعل دائماً تبعاً لحكمة تمكّنك من أن تريد لها أن تصبح في الوقت نفسه قانوناً كونياً.
وإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار كونية القوانين التي تشكل الطبيعة والواقع الخارجي، فإن الأمر الكوني للواجب يمكن أن يصاغ أيضاً على الشكل التالي: افعل كما لو أن بإرادتك يجب أن تكون حكمة عملك صالحة كقانون كوني للطبيعة. وبالتالي، فإن مختلف واجباتنا تنتج من هذا الأمر كما لو أنه مبدؤها. ويختار كانط بعض الأمثلة عن الواجبات التي يصنفها كواجبات تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وكواجبات تامة وأخرى ناقصة. ويذكر أربعة أمثلة يحاول من خلالها تبيان نسبية ومحدودية وذاتية الحِكَم التي على أساسها تتم الواجبات تجاه الذات وتجاه الغير، وبالتالي يستنتج ضرورة وإمكانية أن تكون صيغة الأمر الأخلاقي القطعي بمثابة قانون كوني للطبيعة على أساسه يقيس الإنسان أحكامه.
المثال الأول هو مثال الشخص الذي قرّر الانتحار نتيجة لظروف معينة سببت له القرف من الحياة فتكونت لديه الحكمة التالية: لأني أحب نفسي فإني أقترح على ذاتي وضع حد لوجودي في هذه الحياة، وذلك إذا رأيت أن آلامي ستزداد أكثر من أفراحي إذا بقيت حياً. هذا الشخص عليه أن يسأل نفسه ما إذا كان حكمه يصلح لأن يكون قانوناً كونياً للطبيعة. ولكن هل حب الذات يمكن أن يصلح قانوناً كونياً للطبيعة إذا كان سيؤدي إلى تدمير الحياة التي هي مبدأ أساسي من مبادئ الطبيعة؟ بالطبع، فإن طبيعة تقضي على الحياة ستكون متناقضة مع ذاتها، وبالتالي فإن حكمة ذلك الشخص لا تستطيع مطلقاً أن تصبح قانوناً كونياً، وهي بالتالي مناقضة للمبدأ السامي للواجب.
المثال الثاني، هو مثال الشخص الذي وعد برد مال كان قد اقترضه مع علمه المسبق أنه ليس باستطاعته القيام بإيفاء الديْن. هل يقبل هذا الشخص أن يعامله الآخرون بنفس ما عاملهم؟ وهل بعد ذلك يبقى هناك أي نوع من المصداقية لأي وعد من الوعود؟ من الواضح إذاً أن حكمة هذا الشخص لا تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
المثال الثالث، هو مثال الشخص الذي لا يهتم بمواهبه وقدراته الطبيعية ولا ينميها. ولكن هذا الشخص كونه كائناً عاقلاً لا يستطيع أن يريد بأن حكمته هذه تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة؛ وذلك لأن الكائن العاقل يريد بالضرورة تنمية كل قدراته لأنها مفيدة له وهي أعطيت له من أجل كل الغايات الممكنة.
المثال الرابع، هو مثال الشخص الميسور الذي لا يكترث لرؤية أناس آخرين يمرون في ظروف صعبة مكتفياً بعدم إيذاء الآخرين، ومعتبِراً أنه في ذلك يقوم بما عليه وليس مطلوباً منه التدخل بقضايا الغير. في الواقع، إذا كانت طريقة التفكير هذه بمثابة قانون كوني للطبيعة، فإن الجنس البشري قد يستمر في البقاء ولكن مع ذلك قد يكون من المستحيل أن نمنح هذا المبدأ قيمة قانون طبيعي في كل مكان. ونحن إذا قبلنا بهذه الحكمة، فإننا ننتزع من أنفسنا كل أمل في الحصول على العون الذي قد نريده لأنفسنا.
إن كل هؤلاء الأشخاص عليهم أن يتساءلوا ما إذا كانت حكمة عملهم تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
بعد أن يحلل كانط هذه الأمثلة يلاحظ أن الإنسان بشكل عام؛ كونه عاقلاً، لا يستطيع إلا أن يكون مع القوانين الكونية؛ إلا أنه كونه ينتمي إلى عالم الحس والرغبات، فإنه يسمح لنفسه ببعض الاستثناءات، أي أنه يلجأ إلى مساومة أو تسوية ما، ورغم أن هذه التسوية غير مبررة إذا حكمنا بشكل حيادي، فإنها على الأقل تبين لنا بأننا نعترف حقاً بقيمة الأمر القطعي الأخلاقي.
ولكن الإمرة المطلقة للعقل تفترض غاية في ذاتها. من هنا نأتي إلى الصيغة الثانية للواجب والتي يمكن التعبير عنها كما يلي «افعل كما لو أنك تعامل الإنسانية دائماً في شخصك وفي شخص الآخر في الوقت نفسه على أنها غاية وليس أبداً كمجرد وسيلة». (ص 47) إذاً الإنسان هو غاية في ذاته وليس وسيلة. فإذا تفحصنا الأمثلة الأربعة السابقة الذكر، نجد أن كل الأشخاص الذين تنطبق عليهم لا يقومون بواجباتهم لا تجاه أنفسهم ولا تجاه الآخرين؛ إذ إنهم في جميع الحالات الواردة أعلاه يتعاملون مع الإنسان كوسيلة وليس كغاية في ذاته.
أما الصيغة الثالثة للواجب، فتتمثل في الاستقلالية، حيث إن الإرادة تؤسس القانون الذي تخضع له وهي بذلك تؤسس تشريعاً كونياً. وبالتالي، فإن هذا المبدأ يلائم تماماً الأمر القطعي؛ وذلك لأنه، بسبب فكرة تشريع كوني، لا يقوم على أي منفعة، ولأنه بذلك يكون الوحيد من بين الأوامر الممكنة قادراً أن يكون غير مشروط. إذاً، كانط يسمي مبدأ استقلالية الإرادة ذلك المبدأ الأساسي المتعارض مع كل المبادئ الأخرى المرتبطة بالتبعية.
ويرتبط بهذه الصيغة ما يسميه كانط «مملكة الغايات» التي يقصد بها الاتحاد المطلق لمختلف الكائنات العاقلة استناداً إلى قوانين مشتركة.
وفي مملكة الغايات، كل شيء يمكن أن يكون له ثمن أو يكون له كرامة. أما الشيء الذي له ثمن فيمكن استبداله بشيء آخر كمعادل له. وعلى العكس، فإن ما هو فوق أي ثمن ولا يقبل أي معادل له هو الذي يتمتع بالكرامة. والكرامة تأتي من الالتزام بالواجب وبالأمر الأخلاقي. إذاً، إن الاستقلالية هي مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة.
وهكذا نجد من خلال هذا التحليل أننا استطعنا أن نستخلص من الصيغة الأصلية للأمر القطعي ثلاث صيغ أخرى تتفق في المعنى؛ إذ إنها جميعها تمتلك صورة ومادة وتحديداً كاملاً: فمن ناحية الصورة فهي تكمن في الكونية (universalité)، حيث تكون صيغة الأمر القطعي كما يلي: يجب اختيار الحِكَم كما لو أن عليها أن تتمتع بقيمة قوانين الطبيعة الكونية. أما من ناحية المادة، فالأمر يتعلق بالغاية وبالتالي الصيغة تقول بأن الكائن العاقل كونه بطبيعته غاية في ذاته عليه أن يفرض على كل حكمة شرطاً يسهم في حصر الغايات النسبية والعشوائية. أما الصيغة التي تعبّر عن التحديد الكامل فيما يتعلق بكل الحِكم فتقول: إن كل الحِكم الآتية من تشريعنا الخاص عليها أن تتفق مع مملكة ممكنة للغايات متصوَّرة كمملكة طبيعية. ويمكن لنا في آخر الأمر أن نوضح أن هذه الصيغ كلها يمكن أن تعود إلى صيغة واحدة فنقول، إن الأمر القطعي هو القانون الكوني لكائنات عاقلة هي غايات بالذات وهذه الكائنات العاقلة هي مشرّعة هذا القانون.
وهذه الصيغ تتدرج بالأمر الأخلاقي القطعي حتى تقرّبه من نفوسنا فتبدأ انطلاقاً من الوحدة وتمر بالكثرة لتصل إلى الكلية المتمثلة بنظام الغايات الذي ندركه بقلوبنا كما بعقولنا. على أن الطريق المثلى التي يجب أن نتبعها حينما نريد أن نصدر حكماً أخلاقياً، هي أن نسترشد بالصيغة الأصلية للأمر القطعي، وهي «اعمل كما لو كنت تريد أن تكون حكمتك قانوناً كونياً للكائنات العاقلة».
ولكن كيف يمكن لفرضية عملية تركيبية قبلية أن تكون ممكنة ولماذا هي ضرورية؟ هذا سؤال لا يجد إجابة له في حدود ميتافيزيقا الأخلاق؛ لذلك وجب الانتقال إلى ميدان العقل العملي الخالص.
وهذا ما يقودنا إلى الفصل الثالث والأخير وموضوعه: الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل الخالص العملي.
وهنا نجد كانط يبحث عما إذا كان الواجب حقيقة مقرَّرة ثم عن إمكان الأمر القطعي بصفة عامة. وهو يحدد المنهج الذي نسير عليه لكي نصل إلى إقرار فكرتي الواجب والأمر القطعي. فبعد أن استخدم منهج التحليل في الفصلين الأول والثاني استطاع تحليل الشعور العام وانتهى إلى فكرة الواجب التي نتج منها فكرة استقلال الإرادة في الحياة الأخلاقية. وها هو الآن يستخدم القياس والجدل لكي يربط النتائج التي توصل إليها بقانون أشمل للحياة الأخلاقية. عندما نقول إن الإنسان قانون نفسه يكون معنى هذا أن إرادة الفرد يجب أن تتطابق مع القانون الكوني للطبيعة، أي الإرادة الكونية. وهنا نجد أن كانط يضع تخطيطاً يلخص فيه فلسفته النقدية وتبريره للأحكام التركيبية الأولية في ميدان الأخلاق، فيبدأ نقده للعقل العملي بالكلام عن فكرة الحرية التي هي وحدها تسمح بقيام الأحكام التركيبية الأولية في الأخلاق.
ويبدأ كانط بتعريف الحرية أولاً بطريقة سلبية فيعتبرها صفة تتعلق بأفعال الإنسان باعتبارها أفعالاً مستقلة عن العلل الطبيعية. أما التعريف الإيجابي للحرية فيتناول ماهيتها معتبراً أنها القوة التي يُصدِر بها الكائن العاقل قانونه بنفسه. وهنا نجد أن علة الحرية تأتيها من ذاتها؛ ذلك أن قانون الحرية لا يمكن أن يضعه سوى الحرية ذاتها بحيث تكون الإرادة الحرة هي الإرادة المستقلة. هكذا، فإن الحرية ليست موضوع حدس حسي، بل هي صفة للكائنات العاقلة.
إذاً، العالم المعقول هو الذي سيوحّد في مرحلة لاحقة من التحليل ما بين الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقانون الأخلاقي. وبالتالي، فإن الحرية يجب أن تكون مفترضة كخاصية للإرادة التي تتمتع بها كل الكائنات العاقلة؛ إذ لا يكفي أن أنسب الحرية إلى إرادتي، بل يجب أن يكون لدي الحوافز الكافية لأنسبها لكل الكائنات العاقلة الأخرى.
ولكن لماذا الأخلاق وما المنفعة التي ترتبط بالأفكار الأخلاقية وما مصدر إلزامية القانون الأخلاقي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في الخروج من الحلقة المفرغة التالية: نحن نفترض أنفسنا أحراراً ضمن إطار نظام العلل الفاعلة؛ وذلك كي نتصور أنفسنا خاضعين لقوانين أخلاقية في إطار نظام الغايات؛ وبالتالي فنحن ننظر إلى أنفسنا كخاضعين لهذه القوانين لأننا نسبنا إلى أنفسنا حرية الإرادة؛ وبالفعل فإن الحرية والتشريع الخاص للإرادة ينتميان معاً إلى الاستقلالية.
وبما أن هناك الظاهرات من جهة والأشياء في ذاتها من جهة أخرى، يستنتج كانط وجود العالم المعقول من جهة والعالم المحسوس من جهة أخرى؛ ويتوقف موضوع استقلالية الإرادة الحرة على الجهة التي يضع فيها الكائن العاقل نفسه حين يتعلق الأمر بإلزامية القانون الأخلاقي الذي يشرّعه هو نفسه. ويبسّط كانط الأمر كما يلي «إن على أي كائن عاقل، إذاً، أن يعتبر نفسه، بما هو عقل، منتمياً، ليس إلى العالم المحسوس، بل إلى العالم المعقول، وبالتالي فهو لديه وجهتا نظر يمكنه تبعاً لهما أن يعرف نفسه ويعرف قوانين ممارسة قدراته وأعماله: أولاً بصفته جزءاً من العالم المحسوس وخاضعاً لقوانين الطبيعة (تبعية hétéronomie)؛ وثانياً بصفته جزءاً من العالم المعقول وخاضعاً للقوانين المستقلة للطبيعة وغير قائمة على التجربة، بل على العقل فقط... ونحن الآن نرى جيداً بأنه عندما نتصور أنفسنا أحراراً فإننا نضع أنفسنا في عالم معقول باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، حيث نتعرف على استقلالية الإرادة مع نتيجتها: الأخلاق؛ وعلى العكس، حين نتصور أنفسنا كمُلزَمين بالواجب فإننا نعتبر أنفسنا في آن واحد كأعضاء في العالم المحسوس وفي العالم المعقول معاً». (ص 69)
هكذا نتجاوز الحلقة المفرغة ونجد مصدر الإلزام الأخلاقي في مفهوم الاستقلالية من جهة وفي الانتماء المزدوج للإنسان إلى العالمين المعقول والمحسوس من جهة أخرى.
وهذا يفتح الباب لطرح السؤال عن إمكانية الأمر القطعي. إن الأمر القطعي يكون ممكناً لأن فكرة الحرية تجعل الكائن العاقل عضواً في العالم المعقول، ولكن بما أنه عضو في العالم المحسوس أيضاً، فإن أعماله تصبح خاضعة للواجب وبالتالي للأمر القطعي.
من كل ذلك يستنتج كانط بأن الواجب الأخلاقي هو إذاً الإرادة الضرورية الخاصة بعضو ينتمي إلى العالم المعقول؛ وهذا بالذات لا يبدو له كواجب إلا إذا اعتبر نفسه في الوقت نفسه عضواً في العالم المحسوس. (ص 72)
إذاً، إن إمكانية الأمر القطعي تتلخص في افتراض ضرورة الحرية وتبيان ضرورة هذا الافتراض.

* باحث وأستاذ جامعي لبناني
**لقد اعتمدنا الترجمة الفرنسية لكتاب كانط وكل
النصوص الواردة في هذه الورقة مأخوذة من هذه النسخة:
Kant، Fondements de la métaphysique des mœurs.Traductions Hatier،
Paris 1974.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».