التقنية المعاصرة بين التقديس والمسؤولية الأخلاقية

زائرة لمعرض «فيفا تكنولوجي» في فرنسا قبل أيام تلتقط صورة لرجل يرتدي بذة رائد فضاء (رويترز)
زائرة لمعرض «فيفا تكنولوجي» في فرنسا قبل أيام تلتقط صورة لرجل يرتدي بذة رائد فضاء (رويترز)
TT

التقنية المعاصرة بين التقديس والمسؤولية الأخلاقية

زائرة لمعرض «فيفا تكنولوجي» في فرنسا قبل أيام تلتقط صورة لرجل يرتدي بذة رائد فضاء (رويترز)
زائرة لمعرض «فيفا تكنولوجي» في فرنسا قبل أيام تلتقط صورة لرجل يرتدي بذة رائد فضاء (رويترز)

في بداية هذا المقال لا بد من تبرير عنوانه. في الواقع نحن استوحينا هذا العنوان من موقفين فلسفيين حول موضوع الظاهرة التقنية المعاصرة التي غيرت حياة الإنسان بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية: الموقف الأول يعود إلى الفيلسوف الإيطالي إمانويل سفيرينو (Severino)، والموقف الثاني يعود إلى الفيلسوف الألماني هانز يوناس (JONAS).
ولكن قبل عرض الموقفين لا بد لنا من الإشارة إلى إشكالية التقنية التي تتمفصل حول مجموعة من الأسئلة التي بدأت تشغل وتقلق الفكر الإنساني منذ أن شعر الإنسان كأنه أصبح يعيش بانتظار يوم آخر من إنجازات الحلف القائم بين سلطات العلم والتقنية والتكنولوجيا. في الواقع، بعد أن سيطر سحر التكنولوجيا الحديثة واعتاد الإنسان على إنجازاتها الجبارة والسريعة أصبح هذا الإنسان، الذي بدأ تحقيق إنسانيته من خلال مشروع السيادة على الطبيعة بواسطة الفعل التقني، أصبح يشعر بالخطر الداهم الذي بدأ يهدد هذه الإنسانية في ذاتها والآتي من التماهي بين مشروع السيادة الإنسانية على الطبيعة والمشروع التقني، فأصبح هذان المشروعان في حال من السباق الدائم ومن التلازم الضروري والمأزقي. من هنا ظهرت مجموعة من الأسئلة نوجزها فيما يلي:
كيف يستطيع الإنسان المحافظة على بقائه أمام أهوال الطبيعة من دون اللجوء إلى الفعل التقني؟
من أين يأتي نداء الفعل التقني؟ من الإنسان ذاته أم من الكينونة (هايدغر)؟
هل الإنسان، صاحب مشروع السيادة على الطبيعة وامتلاكها (ديكارت)، أصبح وسيلة لمشروع سيادة المشروع التقني؟
إلى متى وإلى أي حد سيستمر نزوع الإنسان نحو السيادة المطلقة على الطبيعة مع حاجته إلى الانجرار في مشروع العقلانية التقنية السلطوية؟
وهل الإنسان الذي بدأ رحلة البحث عن الحقيقة منذ آلاف السنين سيجد في التقنية المعاصرة المتمثلة في ميادين التكنولوجيا المتطورة معالم ظهور حقيقة الكون والحياة، وبالتالي هل سيتحول إلى مجرد مُسهم في هذه الصيرورة في مسار ظهور الحقيقة؟
في الواقع، إن هذه الأسئلة ولدت أمام التطور الهائل في ميادين الأبحاث العلمية المتعلقة بالإنسان والهندسة الوراثية وصولاً إلى الادعاء بإمكانية صناعة أو خلق إنسان بمواصفات محددة. وهذا المسار بدأ منذ النصف الثاني من القرن العشرين. والدليل على ذلك ظهر في مقابلة تلفزيونية في أواخر الثمانينات مع فرنسوا جاكوب الحائز على جائزة نوبل في ميدان الهندسة الوراثية، حيث أعلن أنه لو تم السماح لأبحاث الهندسة الوراثية بأن تأخذ مداها لكان بالإمكان صناعة إنسان بالمواصفات التي نريدها. بالطبع إن هذا الموقف يستند إلى تطور التقنية وإلى الحلف القائم بين العلم والتقنية. وأمام التطور الهائل في العلم والتكنولوجيا برز «تيار تحويل الإنسان» (trans-humanısme) وتعديل مواصفاته الجينية من خلال التقنية المتطورة، بحيث يصل عمر الفرد إلى مئات السنين. وأكثر من ذلك بدأنا نشهد ولادة مرحلة «ما بعد الإنسان» (post-humanisme) من خلال الاعتماد على الذكاء الصناعي وعلى الإنسان الآلي (Robot).
إن هذا الوضع الذي وصلنا إليه من خلال التقنية المظفرة أثار حفيظة الفليلسوف الإيطالي إمانويل سفيرينو (SEVERINO) الذي اعتبر أن التقنية أصبحت آخر الآلهة بالنسبة إلى «تيار التحويل أو التعديل الإنساني»، بحيث إن التقنية المتطورة حلّت مكان الله الذي خلق الأشياء والعالم من عدم. في الواقع إن وجهة نظر سفيرينو تتلخص في أنه يعتبر على مثال الفيلسوف اليوناني برمنيدس أن الكون يكون وبأن العدم لا يكون. على ذلك، فإنه يعتبر القول بالخلق من عدم هو بمثابة جنون. في مقابلة مع مجلة «Philosophie» الفرنسية عدد رقم 125 يناير (كانون الثاني) 2019 يقول: «إن الكائنات البشرية في عصر التقنية تتماهى مع الإله الخالق؛ إنهم يعتقدون بأنهم يصنعون من العدم أشياء لم تكن موجودة من قبل مثل الذكاء الصناعي والمفاعل النووي وسيستم الاتصالات القائم على المعلوماتية وكل الأدوات التي تجعل من حياة الإنسان ممكنة...». ويختم سفيرينو هذه المقابلة بالقول: «إن التقنية أصبحت إلهنا الأخير وسيدنا، وهذا ما تعترف به نزعة تحويل وتعديل الإنسان. ولكن بما أن هذه النزعة ولدت من الجنون وأن مشروعها غير قابل للتحقق، فهي لن تنقذنا ولن تقدم لنا الخلود الموعود، حيث الفلسفة وحدها بصفتها المنفتحة على حالة عدم الجنون تستطيع أن تقودنا إلى البعد الحقيقي للأبدية».
هكذا إذن، إن تأليه التقنية لن يصب في خانة تحرير الإنسان من جنون الاعتقاد بإمكان الخلق من عدم والعودة إلى العدم، وذلك لأن الكون يكون دائماً والأشياء تظهر وتتخفى في الكينونة الأبدية.
ولذلك تستمر المسألة التقنية في إثارة التساؤلات والمفارقات. ومن أهم هذه المفارقات تلك التي تجعلنا في آن واحد مقيمين في المجال التقني ومرتابين تجاه المصير الذي يدفعنا إليه. فالإنسان المعاصر يفتخر بأنه وريث الحداثة الفلسفية والعلمية والتقنية ولكنه بدأ ينوء تحت أثقالها وسلطاتها بدلاً من أن يحقق من خلالها مشروع السيادة على الطبيعة وامتلاكها. وهذه المفارقة شكلت الأرض الخصبة لطروحات ما بعد الحداثة التي انتفضت تجاه هذه السلطات وتجاه العقل التركيبي الكلي أو الشمولي والعقل التكنولوجي.
إذن، المعضلة التكنولوجية طرحت على الإنسان المعاصر مسألة المصير، وبالتالي مسألة مسؤولية الإنسان الراهن تجاه مستقبل البشرية جمعاء. فهل يحق للإنسان المعاصر تقرير مصير الكون بما فيه من بشر وحجر؟ وهل يحق له تقرير مصير الأجيال القادمة؟ إن هذه الأسئلة دفعت بالفيلسوف الألماني هانز يوناس إلى طرح القضية في كتابه المنشور تحت عنوان «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية» (Le principe responsabilité, une éthique pour la civilisation technologique). في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، خصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق». ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل بصيغة كانط، صيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة.
وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً»، ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، فإن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقي، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً، وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما، ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل.
- باحث وأستاذ جامعي لبناني


مقالات ذات صلة

روبوت يسبح تحت الماء بشكل مستقل مستخدماً الذكاء الاصطناعي

تكنولوجيا يبرز نجاح «أكوا بوت» الإمكانات التحويلية للجمع بين الأجهزة المتطورة والبرامج الذكية (أكوا بوت)

روبوت يسبح تحت الماء بشكل مستقل مستخدماً الذكاء الاصطناعي

الروبوت «أكوا بوت»، الذي طوّره باحثون في جامعة كولومبيا، قادر على تنفيذ مجموعة متنوعة من المهام تحت الماء بشكل مستقل.

نسيم رمضان (لندن)
خاص تسعى المنصة لتحقيق قفزة نوعية كبيرة في سوق العملات الرقمية مع وضع مبادئ مبتكرة لاقتصاد تلك العملات (كونتس)

خاص رائدة أعمال سعودية تبتكر أول بروتوكول لعملة رقمية حصينة من الانخفاض

تهدف رائدة الأعمال السعودية رند الخراشي لإرساء معايير جديدة لعالم التمويل اللامركزي «DeFi».

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا فعالية «بلاك هات 2024» تهدف لتمكين خبراء الأمن السيبراني عالمياً عبر ورش وتحديات تقنية مبتكرة (بلاك هات)

فعالية «بلاك هات» تعود في نسختها الثالثة بالرياض بجوائز تفوق مليوني ريال

بمشاركة عدد كبير من الشركات السعودية والعالمية والشخصيات الرائدة في المشهد السيبراني.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
الاقتصاد المدير التنفيذي لشركة «سيسكو السعودية» سلمان فقيه (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 01:37

المدير التنفيذي لـ«سيسكو» السعودية: استثماراتنا بالمملكة مستمرة لدعم جهودها في التحول الرقمي

في ظل ما يشهده قطاع التقنية السعودي من تطور، حقَّقت «سيسكو» أداءً قوياً ومتسقاً مع الفرص المتاحة وقرَّرت مواصلة استثماراتها لدعم جهود السعودية في التحول الرقمي.

زينب علي (الرياض)
عالم الاعمال «بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

«بلاك هات» تعود إلى الرياض بنسختها الثالثة

تعود فعالية الأمن السيبراني الأبرز عالمياً «بلاك هات» في نسختها الثالثة إلى «مركز الرياض للمعارض والمؤتمرات» ببلدة ملهم شمال العاصمة السعودية الرياض.


واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».