مهمات أميركية وأوروبية ويابانية لاستكشاف القمر

تنافس دولي يتسم بالابتكار والتعاون

تضاريس سطح القمر تزيد صعوبة الهبوط عليه
تضاريس سطح القمر تزيد صعوبة الهبوط عليه
TT

مهمات أميركية وأوروبية ويابانية لاستكشاف القمر

تضاريس سطح القمر تزيد صعوبة الهبوط عليه
تضاريس سطح القمر تزيد صعوبة الهبوط عليه

بعد نصف قرن من ترك رواد رحلة «أبولو» آخر بصمات أقدامهم على غبار القمر، عاد القمر ليبرز من جديد كوجهة للطموح الجامح والهندسة الدقيقة.

ومع ذلك، تأتي هذه المرة مختلفة، فالمنافسة لا تقتصر على القوى العظمى التي تتسابق لرفع أعلامها على القمر، بل انضمت للمنافسة كذلك شركات خاصة، وشراكات متعددة الجنسيات، و«كشافة روبوتية»، كلها تسعى إلى سبر أغوار القمر وتمهيد الطريق لعودة البشر إليه مستقبلاً.

بعثات القمر البارزة

حتى الآن في عام 2025، أحرزت جهود استكشاف القمر تقدماً ملحوظاً، مع انطلاق عدة بعثات بارزة نحو القمر، أو بعثات هبطت عليه بالفعل، بعدما اجتاز كل منها الرحلة الطويلة عبر الفضاء، ثم مرحلة الهبوط الأشد تعقيداً على سطح القمر أو الدخول في مداره، بدرجات متفاوتة من النجاح. وتعكس هذه البعثات معاً ما يحمله السباق الفضائي الجديد من وعود وصعوبات - سباق يتسم بالابتكار والمنافسة والتعاون.

وبصفتي مهندساً في مجال الطيران والفضاء، متخصصاً في تقنيات التوجيه والملاحة والسيطرة، يثير اهتمامي العميق كيف أن كل مهمة - سواء نجحت أم فشلت - تسهم في إثراء المعرفة الجماعية للعلماء. وعلى وجه التحديد، تساعد هذه المهام المهندسين على تعلم كيفية التنقل في تعقيدات الفضاء، والعمل في بيئات قمرية معادية، والتقدم بثبات نحو وجود بشري مستدام على سطح القمر.

سفينة "بلو غوست 1"

مصاعب الهبوط على القمر

لماذا يُعد الهبوط على القمر بهذه الصعوبة؟ يظل استكشاف القمر أحد أكثر المجالات تطلباً من الناحية التقنية، على صعيد رحلات الفضاء الحديثة، فاختيار موقع الهبوط يتطلب موازنة معقدة بين الأهمية العلمية وسلامة التضاريس وتعرض الموقع لأشعة الشمس.

ويتسم القطب الجنوبي للقمر بجاذبية خاصة، لاحتمالية احتوائه على ماء في صورة جليد داخل الفوهات المظللة - وهي مورد بالغ الأهمية للبعثات المستقبلية. وقد تحتوي مواقع أخرى على أدلة حول النشاط البركاني في القمر أو التاريخ المبكر للنظام الشمسي.

ويجب حساب مسار كل مهمة بدقة شديدة، لضمان وصول المركبة وهبوطها في المكان والزمان المناسبين. ويأخذ المهندسون في اعتبارهم الموقع المتغير باستمرار للقمر في مداره حول الأرض، وتوقيت نوافذ الإطلاق، وقوى الجاذبية التي تؤثر على المركبة طوال رحلتها.

كما يحتاجون إلى تخطيط مسار المركبة بعناية، لتصل بزاوية وسرعة مناسبتين للهبوط الآمن، فحتى الأخطاء الصغيرة في الحسابات في المراحل المبكرة قد تؤدي إلى انحراف كبير في موقع الهبوط - أو فقدان فرصة الهبوط بالكامل.

وبمجرد الهبوط على السطح، يتعين على المركبات الهابطة أن تتحمل تقلبات شديدة في درجات الحرارة - من أكثر من 250 درجة فهرنهايت (121 درجة مئوية) في النهار إلى ما دون 208 فهرنهايت (-133 درجة مئوية) في الليل - بالإضافة إلى الغبار، والإشعاع، وتأخر الاتصالات مع الأرض. ويجب أن تعمل أنظمة الطاقة، والتحكم الحراري، وأرجل الهبوط، وروابط الاتصال في المركبة بشكل مثالي. وفي الوقت نفسه، يجب أن تتجنب هذه المركبات التضاريس الخطرة، وتعتمد على ضوء الشمس لتشغيل أجهزتها وإعادة شحن بطارياتها.

وتُفسر هذه التحديات سبب تحطم أو الفشل الجزئي الذي منيت به الكثير من المركبات، رغم التقدم الكبير في التكنولوجيا منذ عصر أبولو.

وتواجه الشركات التجارية نفس التحديات التقنية التي تواجهها الوكالات الحكومية، لكن غالباً بميزانيات أقل، وفرق أصغر، وأجهزة ومعدات أقل اعتماداً على إرث سابق. وعلى عكس المهمات الحكومية التي تستند إلى عقود من الخبرة والبنية التحتية المؤسسية، تخوض الكثير من الجهود التجارية لاستكشاف القمر هذه التحديات للمرة الأولى.

نجاحات وصعوبات برنامج «ناسا»

ما الهبوطات الناجحة والدروس الصعبة لبرنامج خدمات الحمولة القمرية التجارية؟ تعود عدة بعثات قمرية، أُطلقت هذا العام، إلى برنامج خدمات الحمولة القمرية التجارية، التابع لوكالة ناسا، والمعروف اختصاراً باسم (CLPS)، وهو مبادرة تتعاقد فيها «ناسا» مع شركات خاصة لنقل حمولة علمية وتكنولوجية إلى القمر، بهدف تسريع وتيرة جهود الاستكشاف، مع تقليل التكاليف وتشجيع الابتكار التجاري.

> انطلقت أول مهمة قمرية عام 2025، «بلو غوست 1» Blue Ghost 1، التابعة لشركة «فايرفلاي إيروسبيس» Firefly Aerospace، في يناير (كانون الثاني)، وهبطت بنجاح في أوائل مارس (آذار).

وتمكنت السفينة الفضائية من الصمود خلال النهار القمري القاسي، وأرسلت بيانات طيلة نحو أسبوعين، قبل أن تفقد الطاقة في أثناء الليل القمري المتجمد - وهو الحد التشغيلي المعتاد لمعظم المركبات القمرية غير المزودة بأنظمة تدفئة.

وقد أظهرت «بلو غوست 1» كيف يمكن للمركبات التجارية أن تتحمل مسؤولية الاضطلاع بأدوار حاسمة، ضمن برنامج «أرتميس» التابع لـ«ناسا»، الذي يهدف لإعادة إرسال رواد الفضاء إلى القمر في وقت لاحق من هذا العقد.

> أما ثاني عملية إطلاق ضمن برنامج خدمات الحمولة القمرية التجارية هذا العام، فكانت لمهمة «آي إم ـ 2» IM-2»، التابعة لشركة «إنتويتيف ماشينز» Intuitive Machines، والتي انطلقت في أواخر فبراير (شباط). واستهدفت العملية موقعاً علمياً مثيراً للاهتمام، قرب منطقة القطب الجنوبي للقمر.

> وهبطت السفينة «نوفا ـ سي» Nova-C، أُطلق عليها «أثينا» Athena، في السادس من مارس (آذار)، بالقرب من القطب الجنوبي، لكنها انقلبت في أثناء الهبوط. وبسبب هبوطها على جانبها داخل فوهة ذات تضاريس غير مستوية، لم تتمكن من نشر ألواحها الشمسية لتوليد الطاقة، مما أدى إلى إنهاء المهمة مبكراً.

ورغم أن انقلاب «أثينا» منعها من تنفيذ جميع التجارب العلمية المخطط لها، فإن البيانات التي أرسلتها لا تزال ذات قيمة، في فهم كيفية تفادي مثل هذه المصائر، في التضاريس الوعرة بالمناطق القطبية.

> وليس من الضروري أن تهبط كل البعثات القمرية، فقد أُطلقت سفينة «لونار تريلبليزر»، التابعة لـ«ناسا»، وهي عبارة عن قمر اصطناعي صغير، في فبراير (شباط)، مع «آي إن ـ 2». وكان الهدف منها أن تدور حول القمر، لرسم خريطة لتوزيع الماء الموجود في صورة جليد، خاصة في الفوهات المظللة قرب الأقطاب.

غير أنه بعد الإطلاق بوقت قصير، فقدت «ناسا» الاتصال بالمركبة. ويُرجّح المهندسون أن عطلاً في الطاقة قد أدى إلى نفاد بطارياتها. وتواصل «ناسا» جهود إعادة تنشيط منظومة الطاقة، على أمل أن تعيد الألواح الشمسية شحن البطاريات في شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران).

بعثات حالية ومستقبلية

> سفينة يابانية. في نفس يوم انطلاق «بلو غوست» في يناير (كانون الثاني) الماضي، كانت مهمة «هاكوتو ـ آر 2» Hakuto-R Mission 2 (رزيليانس Resilience)، التابعة لشركة «آي سبيس» ispace اليابانية، في طريقها إلى القمر، وقد دخلت مداره بنجاح.

ونفذت السفينة تحليقاً ناجحاً حول القمر في 15 فبراير (شباط)، ومن المتوقع أن تهبط في أوائل يونيو (حزيران) المقبل.

ورغم انطلاقها في التوقيت نفسه، سلكت «ريزيليانس» مساراً أطول من «بلو غوست»، لتوفير الطاقة. كما أتاح لها ذلك إجراء ملاحظات علمية إضافية، في أثناء الدوران حول القمر.وحال نجاح المهمة، ستكون بمثابة تقدم مهم لقطاع الفضاء التجاري الياباني، وستشكل عودة قوية لشركة «آي سبيس»، بعد تحطم مركبتها الأولى خلال الهبوط النهائي عام 2023.

> سفينة أوروبية. أما وكالة الفضاء الأوروبية، فتعتزم إطلاق «لونار باثفايندر»، Lunar Pathfinder قمر اصطناعي مخصص للاتصالات القمرية، لتسهيل تواصل البعثات المستقبلية، خاصة تلك التي تعمل على الجانب البعيد أو عند الأقطاب، مع الأرض.

> سفينة وعربة جوالة أميركية. ومن المتوقع أن يشهد ما تبقى من عام 2025 جدولاً مزدحماً بالبعثات القمرية. مثلاً، تخطط شركة «إنتويتيف ماشينز»، لإطلاق «آي إم ـ 3»، أواخر العام، لاختبار أدوات متطورة جديدة، وربما نقل تجارب علمية لوكالة «ناسا» إلى القمر.

> في الوقت ذاته، من المقرر أن تنقل مهمة «غريفين 1» Griffin Mission-1، التابعة لشركة «أستروبوتيك» عربة «ناسا» الجوالة «فايبر» VIPER إلى القطب الجنوبي للقمر، حيث ستقوم بالبحث المباشر أسفل الجليد تحت السطح. وتشير هذه البعثات مجتمعة إلى نهج دولي وتجاري متزايد، على صعيد تطوير علوم القمر واستكشافه.

ومع توجه أنظار العالم نحو القمر، فإن كل بعثة – سواء أحرزت نجاحاً أو منيت بإخفاق - تقرّب البشرية خطوة جديدة نحو عودة دائمة إلى أقرب «جيراننا السماويين».

* أستاذ مشارك في الهندسة الميكانيكية والفضائية في جامعة تينيسي. مجلة «فاست كومباني»

ـ خمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

بلورات سيليكون ساخنة ترسم ملامح كوكب ناشئ خارج النظام الشمسي

يوميات الشرق خفايا الزمن الأول لنشأة الكواكب (أ.ب)

بلورات سيليكون ساخنة ترسم ملامح كوكب ناشئ خارج النظام الشمسي

رصد علماء فلك المراحل الأولى لتكوين كواكب حول نجم، وهي عملية مُشابهة لتلك التي شكَّلت نظامنا الشمسي...

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق جانب من عودة ناجحة لتجارب «الفضاء مداك» من محطة الفضاء الدولية (وكالة الفضاء السعودية)

السعودية: عودة ناجحة لتجارب «مداك» من المحطة الدولية إلى الأرض

أعلنت وكالة الفضاء السعودية، الأربعاء، نجاح تنفيذ تجارب 10 طلاب وطالبات من المملكة ومختلف الدول العربية على متن محطة الفضاء الدولية وعودتها إلى الأرض بسلام.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق كوكب غازيّ هائل يخرج من عتمة الضباب (جامعة كمبردج)

رصد كوكب حجمه 10 أضعاف المشتري يختبئ في الضباب

تمكّن فريق دولي بقيادة جامعة كمبردج البريطانية من رصد كوكب غازيّ عملاق يتراوح حجمه بين 3 و10 أضعاف حجم كوكب المشتري.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
علوم شكل تصويري من «ناسا» لالتقاء المركبتين الأميركية والروسية

مصافحة أميركية - روسية في المدار قبل 50 عاماً غيّرت مسار سباق الفضاء

بفضلها أصبحت محطة الفضاء الدولية مختبراً عائماً ورمزاً للشراكة الدولية.

بيكي فيريرا (نيويورك)
يوميات الشرق يُقال إن النيزك المريخي هو أكبر قطعة من المريخ على الأرض حيث يعرض في دار «سوذبيز» للمزادات في نيويورك (أ.ب)

«سوذبيز» تطرح أكبر قطعة من المريخ للبيع في مزاد علني بسعر خيالي

تنظِّم دار «سوذبيز» للمزادات في نيويورك، الأربعاء المقبل، مزاداً لبيع أكبر قطعة من المريخ تم اكتشافها على سطح الأرض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

الخبراء يتساءلون: ماذا سيحدث عندما لا يشاركك الذكاء الاصطناعي قيمك؟

الخبراء يتساءلون: ماذا سيحدث عندما لا يشاركك الذكاء الاصطناعي قيمك؟
TT

الخبراء يتساءلون: ماذا سيحدث عندما لا يشاركك الذكاء الاصطناعي قيمك؟

الخبراء يتساءلون: ماذا سيحدث عندما لا يشاركك الذكاء الاصطناعي قيمك؟

إذا طلبت من آلة حاسبة ضرب رقمين، فإنها تضرب الرقمين.. وانتهى الكلام. ولا يهم إن كنت تُجري عملية الضرب لحساب تكاليف الوحدة، أو لتنفيذ عملية احتيال، أو لتصميم قنبلة، فالآلة الحاسبة ببساطة تُنفذ المهمة المُوكلة إليها، كما كتب فيصل حق(*).

الذكاء الاصطناعي يتولى زمام الأمور

ليست الأمور دائماً بهذه البساطة مع الذكاء الاصطناعي. تخيّل أن يُقرر مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بك عدم موافقته على تصرفات شركتك، أو مواقفها في مجال ما. ولذا ومن دون استشارتك، يُسرّب معلومات سرية إلى الجهات التنظيمية والصحافيين، مُتصرفاً بناءً على حكمه الأخلاقي الخاص حول ما إذا كانت أفعالك صحيحة أم خاطئة.

... هل هذا خيال علمي؟ كلا. لقد لُوحظ هذا النوع من السلوك بالفعل في ظل ظروف مُتحكم بها باستخدام نموذج «كلود أوبس4» Claude Opus 4 من «أنثروبيك»، وهو أحد أكثر نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي استخداماً.

اتخاذ القرارات واستنتاج الأحكام

لا تقتصر المشكلة هنا على احتمال «تعطل» الذكاء الاصطناعي وخروجه عن السيطرة؛ بل قد ينشأ خطر تولي الذكاء الاصطناعي زمام الأمور بنفسه حتى مع عمل النموذج على النحو المنشود على المستوى التقني. تكمن المشكلة الأساسية في أن نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة لا تكتفي بمعالجة البيانات، وتحسين العمليات فحسب، بل إنها تتخذ أيضاً قرارات (قد نسميها أحكاماً) بشأن ما يجب اعتباره صحيحاً، وما هو مهم، وما هو مسموح به.

عادةً عندما نفكر في مشكلة التوافق في الذكاء الاصطناعي، نفكر في كيفية بناء ذكاء اصطناعي يتماشى مع مصالح البشرية جمعاء. ولكن كما استكشف البروفسور سفير سبويلسترا وزميلي الدكتور بول سكيد في مشروع بحثي حديث، فإن ما تُظهره نتائج كلود هي مشكلة توافق أكثر دقة، ولكنها أكثر إلحاحاً بالنسبة لمعظم المديرين التنفيذيين.

3 أوجه لعدم التوافق التنظيمي

والسؤال المطروح للشركات هو: كيف تضمن أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تشتريها تُشارك قيم مؤسستك، ومعتقداتها، وأولوياتها الاستراتيجية؟

يظهر عدم التوافق التنظيمي بثلاث طرق مختلفة.

* أولاً: هناك اختلال أخلاقي. لنأخذ تجربة «أمازون» مع التوظيف المدعوم بالذكاء الاصطناعي. فقد طورت الشركة خوارزمية لتبسيط عملية التوظيف للوظائف التقنية، ودرّبتها على بيانات توظيف تاريخية لسنوات. وعمل النظام تماماً كما صُمم، وهنا تكمن المشكلة.

لقد تعلم من بيانات التدريب التمييز ضد النساء بشكل منهجي. استوعب النظام تحيزاً يتعارض تماماً مع نظام القيم المعلن عنه في «أمازون»، محوّلاً التمييز السابق إلى قرارات مستقبلية آلية.

* ثانياً: هناك اختلال معرفي. تتخذ نماذج الذكاء الاصطناعي قرارات طوال الوقت حول البيانات التي يمكن الوثوق بها، وتلك التي يجب تجاهلها. لكن معاييرها لتحديد ما هو صحيح قد لا تتوافق بالضرورة مع معايير الشركات التي تستخدمها.

في مايو (أيار) 2025، بدأ مستخدمو برنامج غروك التابع لشركة «xAI» يلاحظون أمراً غريباً: كان برنامج الدردشة الآلي يُدرج إشارات إلى «الإبادة الجماعية البيضاء» في جنوب أفريقيا في ردود حول مواضيع غير ذات صلة.

عند الضغط عليه، ادعى غروك أن منطق عمل البرمجيات فيه المعتاد، سيعامل مثل هذه الادعاءات على أنها نظريات مؤامرة، وبالتالي سيتجاهلها. لكن في هذه الحالة ذكر الروبوت هذا: «أُمرتُ من قِبل مُنشئيّ، أي مصمميّ» بقبول نظرية الإبادة الجماعية البيضاء على أنها حقيقية.

يكشف هذا عن نوع مختلف من الاختلال، وهو تضارب حول ما يُشكّل معرفةً وما يشكل أدلةً صحيحة. سواءٌ أكانت مخرجات «غروك» في هذه الحالة نتيجةً فعليةً لتدخلٍ مُتعمّد أم نتيجةً غير متوقعةٍ لتفاعلاتٍ تدريبيةٍ مُعقّدة، فقد كان «جغوك» يعمل بمعايير الحقيقة التي لا تقبلها مُعظم المُؤسسات، مُعاملاً الروايات السياسية المُتنازع عليها على أنها حقائقَ ثابتة.

* ثالثاً: هناك اختلالٌ استراتيجي. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، زعمت مجموعة المراقبة «ميديا ماترز» أن مُحرّك تصنيف إعلانات «إكس» (المعروف سابقاً باسم «تويتر») كان يضع إعلاناتٍ للشركات بجانب منشوراتٍ تُشيد بالنازية وتفوق العرق الأبيض. وبينما عارض «إكس» هذا الادعاء بشدة، أثار هذا الخلاف نقطةً مهمة. فقد تختار الخوارزمية المُصمّمة لزيادة مشاهدات الإعلانات وضع الإعلانات بجانب أي محتوى ذي تفاعلٍ عالٍ، ما يُقوّض سلامة العلامة التجارية لتحقيق أهداف زيادة عدد المُشاهدين المُدمجة في الخوارزمية.

يُمكن لهذا النوع من الانفصال بين أهداف المُؤسسة والتكتيكات التي تستخدمها الخوارزميات في سعيها لتحقيق غرضها المُحدّد أن يُقوّض التماسك الاستراتيجي للمؤسسة. لماذا يحدث سوء المحاذاة؟

لماذا يحدث عدم التوافق؟

يمكن أن ينبع عدم التوافق مع قيم المؤسسة وأهدافها من مصادر متعددة. أكثرها شيوعاً هي:

* تصميم النموذج. تُدمج بنية أنظمة الذكاء الاصطناعي خيارات فلسفية بمستويات لا يدركها معظم المستخدمين. عندما يقرر المطورون كيفية ترجيح عوامل مختلفة، فإنهم يُصدرون أحكاماً قيمية. يُجسد الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، الذي يُفضل دراسات المُراجعة من قِبل الأقران على الخبرة السريرية، موقفاً مُحدداً بشأن القيمة النسبية للمعرفة الأكاديمية الرسمية مقابل حكمة الممارسين. تُصبح هذه القرارات الهيكلية، التي يتخذها مهندسون قد لا يلتقون بفريقك أبداً، قيوداً يجب على مؤسستك التعايش معها.

* بيانات التدريب. نماذج الذكاء الاصطناعي هي محركات تنبؤ إحصائية تتعلم من البيانات التي تُدرّب عليها. ويعني محتوى بيانات التدريب أن النموذج قد يرث مجموعة واسعة من التحيزات التاريخية، والمعتقدات البشرية الطبيعية إحصائياً، والافتراضات الثقافية الخاصة.

* التعليمات الأساسية. عادةً ما يُزوّد المطورون نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بمجموعة أساسية من التوجيهات التي تُشكّل وتُقيّد المخرجات التي ستُقدّمها النماذج (يُشار إليها غالباً باسم «توجيهات النظام» أو «توجيهات السياسة» في الوثائق الفنية). على سبيل المثال، تُضمّن شركة «إنثروبيك» دستوراً في نماذجها يُلزم النماذج بالعمل وفقاً لنظام قيم مُحدّد. وبينما تهدف القيم التي يختارها المطورون عادةً إلى نتائج يعتقدون أنها مفيدة للبشرية، لا يوجد سبب لافتراض موافقة شركة أو قائد أعمال مُعيّن على هذه الخيارات.

اكتشاف ومعالجة عدم التوافق

نادراً ما يبدأ عدم التوافق بفشلٍ لافتٍ للنظر؛ بل يظهر أولاً في تناقضات صغيرة لكنها دالة. ابحث عن التناقضات المباشرة وتناقضات النبرة، على سبيل المثال، في النماذج التي ترفض المهام أو روبوتات الدردشة التي تتواصل بأسلوبٍ لا يتوافق مع هوية الشركة.

تتبّع الأنماط غير المباشرة، مثل قرارات التوظيف المُشوّهة إحصائياً، أو قيام الموظفين «بتصحيح» مخرجات الذكاء الاصطناعي بشكلٍ روتيني، أو زيادة شكاوى العملاء بشأن الخدمة غير الشخصية. وعلى المستوى النظامي، راقب طبقات الرقابة المتنامية، والتحولات التدريجية في المقاييس الاستراتيجية، أو الخلافات الثقافية بين الإدارات التي تُدير مجموعات ذكاء اصطناعي مختلفة. أيٌّ من هذه الأمور يُعدّ إنذاراً مبكراً لانحراف إطار قيم نظام الذكاء الاصطناعي عن إطارك.

أربع طرق للاستجابة

1. اختبر النموذج من خلال توجيهات استفزازية. درّب النموذج على سيناريوهات استفزازية مُتعمدة لكشف الحدود الفلسفية الخفية قبل النشر.

2.استجوب الجهة المورّدة. اطلب بطاقات النموذج، وملخصات بيانات التدريب، وأوصاف طبقة الأمان، وسجلات التحديث، وبيانات صريحة للقيم المُضمنة.

3.طبّق المراقبة المستمرة. حدد تنبيهات آلية للغة الشاذة، والانحرافات الديموغرافية، والقفزات المفاجئة في المقاييس، بحيث يتم اكتشاف عدم التوافق مبكراً، وليس بعد الأزمة.

4. أجرِ تدقيقاً فلسفياً كل ربع سنة. شكّل فريق مراجعة متعدد الوظائف (خبراء قانونيين، وأخلاقيين، وخبراء في المجالات المختلفة) لأخذ عينات من المخرجات، وتتبع القرارات وصولاً إلى خيارات التصميم، والتوصية بتصحيحات المسار.

ضرورة القيادة

تأتي كل أداة ذكاء اصطناعي مصحوبة بقيم. ما لم يتم بناء كل نموذج داخلياً من الصفر -وهو أمرٌ لن تفعله- فإن نشر أنظمة الذكاء الاصطناعي سيتضمن استيراد فلسفة جهة أخرى مباشرةً إلى عملية اتخاذ القرار أو أدوات الاتصال لديك. لذا فإن تجاهل هذه الحقيقة يُعرّضك لنقطة ضعف استراتيجية خطيرة.

مع اكتساب نماذج الذكاء الاصطناعي استقلالية، يصبح اختيار الجهات الموردة مسألة تتعلق بالقيم بقدر ما تتعلق بالتكاليف والوظائف.

عند اختيار نظام ذكاء اصطناعي، فأنت لا تختار قدرات معينة بسعر محدد فحسب، بل تستورد نظاماً من القيم. لن يجيب روبوت المحادثة الذي تشتريه على أسئلة العملاء فحسب؛ بل سيُجسّد وجهات نظر مُحددة حول التواصل المُناسب وحل النزاعات. لن يُحلل نظام الذكاء الاصطناعي الجديد للتخطيط الاستراتيجي البيانات فحسب؛ بل سيُعطي الأولوية لأنواع مُعينة من الأدلة، ويُرسّخ افتراضات حول السببية والتنبؤ. لذا، فإن اختيار شريك ذكاء اصطناعي يعني اختيار من سيُشكّل رؤيته العالمية للعمليات اليومية.

قد يكون التوافق التام هدفاً بعيد المنال، لكن اليقظة المُنضبطة ليست كذلك. إن التكيف مع هذا الواقع يتطلب من القادة تطوير نوع جديد من «الثقافة الفلسفية»: القدرة على إدراك متى تعكس مخرجات الذكاء الاصطناعي أنظمة القيم الأساسية، وتتبع القرارات إلى جذورها الفلسفية، وتقييم مدى توافق هذه الجذور مع أهداف المؤسسة. ستجد الشركات التي تفشل في دمج هذا النوع من القدرات أنها لم تعد تسيطر بشكل كامل على استراتيجيتها، أو هويتها.

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»