9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

الصمود يتطلّب التغلّب على أكبر تحديات الحياة

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات
TT

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

المرونة والصمود أكذوبتان، فإن كان الحديد يتمتع بالقدرة على الارتداد فإن البشر لا يتمتعون بهذه القدرة. ولذا فإن عليهم التكيّف مع واقع متغيّر. لذلك يجب على الإنسان البحث للعثور على نموذج ومثل أعلى أولاً، ثم النظر في ثماني نصائح أخرى مستقاة من أحدث بحث في العلوم العصبية.

تجربة مريرة لطبيب نفسي

من بين أمور مميّزة كثيرة صاحبت المسيرة المهنية للطبيب النفسي دينيس تشارني، الباحث لمدة طويلة في مجالات الاكتئاب، وكرب ما بعد الصدمة، وعميد كلية طب «ماونت سيناي» في نيويورك، ورئيس المركز الطبي بها؛ يصعب التعرّف إلى معرفة خمس عشرة سنة من سيرته الذاتية إطلاقاً.

في صباح يوم 29 أغسطس (آب) عام 2016، وفي أثناء وجوده في ساحة انتظار لمتجر في إحدى الضواحي التي توقف عندها لشراء خبز «بيغل» بالزبدة وقهوة مثلجة، ليتمكّن من القيادة لمدة ساعة إلى محل عمله؛ أطلق أحد الباحثين في المركز الطبي -كان قد طُرد منه منذ سبع سنوات بسبب عملية احتيال تتعلّق ببيانات الأبحاث- أطلق 15 رصاصة في صدر تشارني؛ مما أدّى إلى ثقب في إحدى رئتيه، وكسر ضلع له، وتعريض كبده للخطر، لكن دون أن يمسّ القلب أي ضرر.

أدى هذا الهجوم إلى بقاء تشارني في وحدة العناية المركزة لمدة أسبوع، ومروره بتجربة تتسم بأكبر قدر من الفردية.

الصمود: التغلّب على التحديات

وبهدف اختبار الموضوع الذي خصّص له كامل حياته المهنية، وهو كيفية استعادة المرء القدرة على العمل والعيش بعد المرور بتجربة مدمّرة ممزّقة، شرع تشارني بالاشتراك مع زميل له، في تأليف كتاب عن الموضوع، وهو كتاب «الصمود: علم التغلّب على أكبر تحديات الحياة» (Resilience: The Science of Mastering Life’s Greatest Challenges)، ثم كان عليه معايشة الأحداث بسبب مرضه.

من واقع أبحاث وتجربة تشارني وغيره، هناك توافق متزايد على ما تتطلّبه النجاة من الإهانات الكبيرة والصغيرة التي تلقي بها الحياة في طريقنا، سواء كان ذلك طفولة تضمّنت معاناة من التمييز العنصري، أو فقراً وحرماناً، أو خيانة من شخص حميم، أو حادثاً تسبّب في إعاقة، أو زلزالاً، أو موت رفيق بين ذراعيك، أو هجوماً مباشراً على حياتك.

كل تلك الإهانات قادرة على سحق النظام (الخاص بحياتك)، والضغط عليه حتى نقطة الانهيار، وتحطيم الشعور بالأمان الذي يسمح للعقل والجسد بالازدهار، وكذلك زعزعة استقرار الدوائر العصبية التي تمد الحياة اليومية بالطاقة، وهو ما يؤثر فيما نلاحظه وننتبه له، ودرجة سيطرتنا على الأفكار والمشاعر والمخاوف، وشعورنا بذواتنا، وقدرتنا على الحفاظ على الهدوء الداخلي.

قدرات الارتداد المعاكس

كل ذلك قادر على وضع الناس على طريق الاضطرابات العقلية والجسدية، ومن جهة أخرى: ربما لا. فكل ذلك أيضاً قادر على إجبارنا على إعادة رسم علاقتنا بأنفسنا وبالحياة، وجعلنا نشعر بقوة أكبر من ذي قبل.

الصمود (باللاتينية Resilience)، هي كلمة مشتقة من المقطعين اللاتينيين «ري» (re)، و«سالير» (salire)، التي تعني معاً «الارتداد»، أي البدء من جديد، واستعادة التوازن والحالة الطبيعية بعد الصدمات. إنها الرؤية السائدة لكيفية تجاوز الناس للمحن والشدائد. مع ذلك إنها تبدو أكذوبة، فالناس لا يستطيعون فعل ذلك، بل يتغيّرون بلا استثناء بفعل التجربة.

على الأقل، تنقطع الوصلات العصبية، ما يُعيد ترتيب خطوط التواصل بين مراكز التحكم في المخ. وهنا على الناس إصلاح الطرق المعدلة (الجديدة) التي عادة ما دُفعوا باتجاهها، من أجل التفكير والشعور والتصرف؛ بحيث يتمكّنون من مواصلة الحياة في الواقع الجديد لبيئتهم، وذلك بعد قبول ذلك الواقع.

ما الذي يعودون إليه إذا كانوا محظوظين؟ إنها حالة الاتزان، لكنها تكون مختلفة عن سابقتها.

القدرة على التكيّف

إن الصمود في جوهره هو القدرة على التكيّف، وتحديث أنفسنا، والتكيّف مع ظروف جديدة بعد أن هدمت تجارب مفاجئة، وغير مرغوب فيها بأوجه مختلفة، وسائل أماننا القديمة. إنها قدرة ضرورية على إنشاء الخيمة البشرية في عالم متحرك بشكل كبير، ومن غير الممكن توقعه في كثير من الأحوال.

ويقول تشارني: «لا يعني ذلك ألا يعاني الناس من أعراض أو مشكلات، لكنهم يتجاوزونها. وفي كثير من الحالات ينمون ويزدهرون».

نحن ندخل العالم بقدرة معينة على الصمود، وأعصابنا مصممة لتتكيّف، وقدرتها على الاتصال بعضها مع بعض، وقوة تلك الاتصالات تستجيب للتجربة والتدريب والممارسة على الأقل إلى درجة ما.

يتمثّل الجزء الصعب في الحفاظ على عمل الوظائف الإدراكية في مواجهة فرط الإثارة العاطفية الذي يحدث نتيجة الاضطرابات الناجمة عن المحن والشدائد. في النهاية نحن بحاجة إلى قدراتنا الإدراكية لاكتشاف كيفية اجتياز ظروف الحياة المتغيّرة والإبحار فيها، رغم أن الصدمة الناجمة عن الشدائد تميل إلى الهيمنة عليها عبر دائرة الإنذار، التي تصبح في وضع رصد للتهديد، وتزيد سرعة ما يراه الباحثون في الأشعة التي يتم إجراؤها على المخ، مثل إشارات صادرة من شبكة بروز تتسم بفرط التيقظ تهيمن على شبكة تنفيذية مركزية.

تجاوز المحن وسمات الصمود

مع ذلك فإن المشكلة الكامنة في الصمود هي أنها تبدو بشكل مريب مثل مجموعة منظمة مرتبة من السمات الروحانية التي إما أن يمتلكها المرء وإما لا. وفي أعقاب أي كارثة، من السهل أن تشعر أنك لا تمتلك تلك السمات.

استغرق الباحثون عقوداً من السنين لاكتشاف أن تجاوز الشدائد والمحن هو عملية نشطة للغاية، وأحياناً تكون فوضوية للغاية.

مع ذلك يحدث تحول كبير في التفكير؛ ففي الوقت الذي يكون فيه من الضروري معالجة الاضطراب الناجم عن المحنة حين تحدث، من الممكن التحلي بالصمود؛ بحيث يتمكّن المرء من التحكم في الاختلال والارتباك الخطير حين يحدث، وهو أمر مؤكّد بدرجة كبيرة. ويقلّل التعرض المبكر لتحدي ما فرط نشاط نظام الاستجابة للتوتر والضغط النفسي؛ بحيث تكون المعاناة من الاضطراب أقل، وكذلك إدراك الفاجعة.

لا توجد قدرة أو ملكة سحرية واحدة للصمود؛ إذ يحتاج الأمر إلى استخدام مجموعة من القدرات، والانتقال من واحدة إلى أخرى، حسب ما تستدعي الحاجة من أجل إعادة ضبط أنظمة الجسم والمخ.

وفي داخل وحدة العناية المركزة تمسّك تشارني بأنشودة بروس سبرينغستين «أقوى من البقية»، وبإلهام من عنوانها أخذ يتذكّر: «ظللت أقول لنفسي إنني سوف أكون أقوى من بقية الناس في كيفية التعافي... وصدّق أو لا تصدّق، كان تكرار ذلك لنفسي نافعاً للغاية».

استراتيجيات الصمود

مما لا شك فيه أن تجاوز المحن والشدائد صراع ونضال على المرء أن يكون عازماً على خوضه، متحلياً فيه بالإيمان بقدرته على العبور إلى الجانب الآخر. فيما يلي تسع استراتيجيات للصمود يمكن أن تساعد في عبور المرء للأزمات، حسب ما يوضح البحث.

01- > اعثر على مثل أعلى. دائماً ما تكون معرفة أن شخصاً آخر قد مرّ بالتحدي نفسه الذي مررت به أمراً يبعث على الطمأنينة؛ حيث يهدّئ ذلك من وطأة الشعور بالاغتراب الذي تثيره المصاعب. وما يفيد أكثر هو معرفة أن هؤلاء الأشخاص قد اجتازوا المحنة، وكذا معرفة كيفية قيامهم بذلك.

سواء كان هؤلاء الناس بشراً من لحم ودم، أو أشخاصاً في سير حياة، أو شخصيات خيالية، تقدّم النماذج دليلاً ملموساً على إمكانية اجتياز المحن والفواجع، وكذا الإلهام لفعل ذلك.

من الحقائق البديهية المقررة للنفسية البشرية أنه نادراً ما نحاول فعل ما لا نؤمن بقدرتنا على فعله. لذا فإن النماذج والمثل العليا مهمة للغاية؛ لأنها تقدّم إلينا خريطة طريق توضح كيفية اجتياز ما نواجهه، على حد قول تشارني.

02-> اطلب وامنح: الدعم الاجتماعي. نظراً إلى أن النظام البشري قائم على الاتصال الاجتماعي، يتدهور الأفراد عقلياً ونفسياً في غيابه. ويقرّ أي دليل جزئي يتضمّن الوسائل التي يعزّز بها الاتصال الاجتماعي الإيجابي السلامة والصحة، بأنه واحد من أقوى المحركات الإنسانية؛ حيث يدعم تقدير الذات، ويعزّز المناعة، ويخفّض ضغط الدم، ويساعد القلب.

واجه محنتك

03-> واجه محنتك. يُعد الهروب من المواجهة سمة مميزة لاضطرابات القلق. وللأسف يمنع تفادي مواقف متصلة بتجربة محزنة ومفجعة التعافي، ويحول دون حدوثه. إنه شكل من أشكال الهزيمة، فالخوف من المخاطر الذي تنتج إشاراته من اللوزة الدماغية المثيرة للمخاوف، يتحكّم فيما تفعله، بل خصوصاً فيما لا تفعله.

تضخم صور وأشكال التفادي حالة الخوف، وتشوّش الدماغ، وتمنعه من تعلم التمييز بين التهديد والخطر الماضي السابق، والخطر الحاضر الحالي. ومع عدم الاتصال بالفص الأمامي للدماغ بفعل المستويات المرتفعة من «النورابينفرين»، تضعف القدرة على تقييم المواقف بشكل عقلاني، والتوصل إلى طريقة للتكيّف، والمضي قدماً.

04-> قم بأمور صعبة. التعرّض المتعمد لمواقف تتضمّن تحدياً كبيراً في الطفولة، وربما إلى حد ما في مرحلة البلوغ؛ يكون تقبلاً نفسياً وبدنياً للضغوط والتوترات.

ويغيّر التعرّض لظروف صعبة بدرجة معتدلة، حسب ما توضح الدراسات، المحور تحت المهادي النخامي الكظري؛ مما يكبح رد الفعل اللاحق للمحور، ويقلّل الهرمونات التي تضع النظام في وضع الخطر، ومدة تأثيرها. إنه يخفّف من إدراك المرء أنه في حالة انهزام وحزن.

05-> خفّف قبضتك على نفسك. القوة ورباطة الجأش إحدى الطرق المؤدية إلى الصمود، لكنّ هناك طريقاً آخر، وهو ما يطلق عليه اختصاصي العلوم العصبية في جامعة «ويسكونسن»، ريتشارد ديفيدسون، «المسار الهادئ» (quiet path). فعوضاً عن كبح مشاعر الحزن، يتم بناء مهارات السلامة النفسية، ومصادقة الذات من خلال «استراتيجيات التصادق». وبعد ذلك حين تحدث فاجعة أو محنة، وهو أمر مؤكد، فستكون عملية التعافي سريعة. هذا مهم، كما يوضح ديفيدسون؛ لأن سرعة التعافي تحمي من ترسخ القلق وحالة الاختلال العصبي.

الوعي العميق والبحث عن معنى

06-> الوعي العميق. العماد الأول لديفيدسون هو القدرة على تركيز الانتباه نحو مقاومة التشتيت. ويتضمّن أيضاً ما وراء الوعي، ومعرفة ما تتطلّع إليه أذهاننا.

يبدأ الأمر بقبول ما هو حاضر، وتعميق الوعي به، وهو ما يزيد من شدة الشعور بالألم لفترة زمنية، ثم يسرّع عملية التعافي بعد ذلك. يصف ديفيدسون التبصر بوصفه معرفة للذات يقودها حب الاطلاع: «إنها الكيان الذي صنعناه ونطلق عليه (نفسي) أو (أنا)، ويحرر ذلك الناس من الحديث السلبي للذات، الذي يسبّب لكثيرين الشعور بالهزيمة والاكتئاب».

07-> ابحث عن معنى. كتب فيكتور فرنكل في «بحث الإنسان عن معنى»: «من بعض الأوجه تنتهي المعاناة في اللحظة التي نعثر فيها على معنى. ليست الظروف هي التي تجعل الحياة غير محتملة، بل انعدام الشعور بغاية أو هدف، حيث يبني الشعور بغاية، والالتزام بالقيم التي تدعمها، هيكل شيء إيجابي. ويصبح دليلاً على أن جزءاً منك لم يتدمر بفعل المحنة أو الفاجعة».

إن الغاية هي ما تدفع الناس نحو الأمام، فهي قوة تحفيزية تعمل حتى عند مواجهة المصاعب، بل ربما بشكل خاص عند مواجهة تلك المصاعب. وعلى الرغم من أنها مصنّفة بشكل أدنى ضمن مجال الروحانيات فإن لديها آثاراً حيوية على الجسم.

08-> اعكس وضع عقلك. في جوهر وقلب التكيّف، توجد الجاهزية والاستعداد التي يمكن للمرء بها التنقل بانتقائية بين العمليات العقلية الذهنية من أجل توليد استجابات سلوكية تلبي متطلبات موقف ما وتتناسب معه. تتولّى شبكة التحكم التنفيذية عملية فهم أي موقف، وتقييم ما هو ضروري، واختيار الاستراتيجيات النافعة وتطبيقها، وهو أمر ضروري لإنجاز الكثير من المهام؛ لكن الأهم من ذلك قدرته على تعديل مخرج اللوزة الدماغية، المسؤولة عن إطلاق الإنذار بوجود مخاطر وتهديدات، والمشاعر السلبية التي تطلق تلك اللوزة عنانها.

«بصمة الصمود الميكروبية»

09->حافظ على توازن الكائنات الدقيقة المتعايشة داخل جسمك. يتم النظر إلى الصمود بوجه عام بوصفه ظاهرة نفسية، ويستهدف أكثر المناهج والطرق نحو الصمود، العقل.

مع ذلك أوضحت أبحاث جديدة بطريقة مقنعة أن الصمود ظاهرة تشمل الجسم كله، وتحدث واحدة من أكثر العمليات نشاطاً داخل الأمعاء. ومن أجل الوصول إلى دماغ صامد، فإنك بحاجة إلى تأمين كائنات دقيقة صامدة متعايشة داخل جسمك؛ حيث تطلق تلك الكائنات الموجودة داخل الأمعاء «microbiome» مجموعة من المواد الكيميائية الحيوية التي تعمل من خلال المحور الأمعاء - الدماغ gut - brain axis، وتشكّل الدوائر العصبية الكهربائية للمخ، وتحدد كيفية عملها وأدائها للوظائف.

وقد اكتشف باحثون في جامعة «كاليفورنيا لوس أنجليس» أخيراً أن مجموعة محددة من البكتيريا، تُسمّى «بصمة الصمود الميكروبية» (microbial signature of resilience)، تمكّن المركز التنفيذي داخل الدماغ، والموجود في القشرة الأمامية للدماغ، من كبح جماح المراكز العاطفية النشطة بشكل مفرط التي تعمل بصورة سريعة. وتقول الطبيبة النفسية، المديرة المشاركة لمركز الكائنات الدقيقة المتعايشة داخل جسم الإنسان في جامعة «كاليفورنيا لوس أنجليس»، أربانا غوبتا: «لا توجد منطقة وحيدة داخل المخ تعمل بشكل منعزل ومنفصل».

* مجلة «سايكولوجي توداي»

ـ خدمات «تريبيون ميديا»



ما سر العيش حتى سن المائة؟

ما سر العيش حتى سن المائة؟
TT

ما سر العيش حتى سن المائة؟

ما سر العيش حتى سن المائة؟

اكتشف الباحثون سراً رائداً للعيش حياة أطول وأكثر صحة، من خلال دراسة الخلايا الجذعية للمعمّرين. وبينما يحاول العلماء رصد العوامل البيولوجية وراء طول العمر، تشير النتائج الجديدة إلى أن مفتاح الوصول إلى 100 عام قد يكمن في كيفية عمل خلايانا الجذعية وتجددها بمرور الزمن.

وتمكن علماء أميركيون في بوسطن بولاية ماساتشوستس الولايات المتحدة من إعادة برمجة خلايا جذعية من دم المعمّرين ويخططون لمشاركة الخلايا مع باحثين آخرين لتحسين فهم العوامل التي تسهم في حياة طويلة وصحية. وتوفر التجارب المبكرة بالفعل رؤى حول شيخوخة الدماغ.

دراسة الخلايا الجذعية للمعمّرين

يقول جورج مورفي، عالم الأحياء المتخصص في الخلايا الجذعية في كلية الطب بجامعة بوسطن، وتوم بيرلز، الطبيب المتخصص في طب الشيخوخة، في الدراسة التي قاداها ونُشرت في مجلة «نيتشر» في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إن المعمّرين يقدمون فرصة لدراسة طول العمر.

ويظهر أن الأشخاص الذين عاشوا حتى سن 100 عام لديهم قدرة مذهلة على التعافي من الإصابة. إذ تعافى أحد المعمّرين من الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 وتعافى أيضاً من كوفيد-19 مرَّتين. وتفسر إحدى النظريات طول عمر المعمّرين بأنهم يمتلكون تركيبة وراثية تحميهم من الأمراض،

ومع ذلك فإن اختبار هذه النظرية أمر صعب بسبب ندرة المعمّرين، مما يجعل عينات الدم والجلد منهم مورداً قيماً للغاية للبحث، وهو ما دفع مورفي وفريقه إلى إنشاء بنك للخلايا يحتوي على خلايا المعمّرين التي يمكن مشاركتها مع علماء آخرين.

وفي الدراسة الجديدة خضع المشاركون لتقييمات لقدراتهم البدنية والإدراكية، وتم جمع دمائهم للتحليل، إذ كان كثير منهم يتمتعون بصحة إدراكية جيدة ومستقلين في الأنشطة اليومية. وقام فريق البحث بعزل خلايا الدم لنحو 30 من المعمّرين وإعادة برمجتها إلى خلايا جذعية متعددة القدرات (أي خلايا يمكن أن تتحول إلى أي نوع من الخلايا في الجسم)، حيث تسمح هذه العملية للباحثين بدراسة العوامل الوراثية المؤثرة على الشيخوخة دون تغيير الشفرة الجينية وتساعد على فحص المحددات الوراثية للشيخوخة.

وقام الباحثون بتمشيط قوائم الناخبين في الولايات المتحدة ومنشآت الرعاية طويلة الأمد بحثاً عن أشخاص عمرهم 100 عام فأكثر. وقد رحب كثيرون من الأشخاص الذين عثروا عليهم بالمشاركة في الدراسة «إدراكاً منهم كم هم مميَّزون»، كما يقول بيرلز.

وبالفعل فاضت التجارب المبكرة برؤى وأفكار جديدة عن شيخوخة الدماغ، وجرى تقييم المشاركين من حيث قدراتهم المعرفية والجسدية، وتم جمع عينات من دمائهم، وقد كان كثير منهم يتمتعون بصحة جيدة على المستوى المعرفي، وقادرين على الاهتمام بأنفسهم.

ولأن الشيخوخة ترتبط بفقدان آليات مراقبة الجودة في الخلايا التي تسيطر على إنتاج البروتين، مما يسهم في حدوث الأمراض، فقد بدأت التجارب بالفعل باستخدام هذه الخلايا. وتشير النتائج الأولية إلى أن الخلايا العصبية المشتقة من المعمّرين كانت أكثر كفاءة في إدارة هذه العملية عند الإجهاد.

حماية جينية ضد الأمراض

يبدو أن المعمّرين لديهم مستويات أعلى من الجينات المرتبطة بالحماية ضد الأمراض بما في ذلك مرض ألزهايمر وباركنسون. وقد يسهم التركيب الجيني الذي يعزز القدرة على الصمود في مواجهة العدوى والأمراض المزمنة في طول أعمارهم.

كانت مجموعة بحثية أخرى قد أنشأت نماذج دماغية ثلاثية الأبعاد لمرض ألزهايمر باستخدام خلايا مشتقة من المعمّرين، وقارنتها بنماذج من أشخاص في الستينات من العمر. وأظهرت الدراسات الأولية أن الخلايا المشتقة من المعمّرين تعبِّر عن مستويات أعلى من الجينات المرتبطة بالحماية من ألزهايمر، وفق دو يون كيم، أستاذ مشارك في علم الأعصاب بكلية الطب بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وفي المستقبل يأمل الباحثون في توسيع نطاق عملهم باستخدام هذه الخلايا الجذعية لتطوير أنواع أخرى من الخلايا المرتبطة بالشيخوخة مثل خلايا الكبد والعضلات والأمعاء أو حتى الأعضاء الصغيرة.

خلايا جذعية تعالج السكري

وفي تجربة رائدة على دور الخلايا الجذعية، نُشرت في مجلة «Cell» في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أخذ دينغ هونغكوي، عالِم الأحياء الخلوية في جامعة بكين بالصين، وزملاؤه، خلايا من ثلاثة أشخاص مصابين بداء السكري من النوع الأول وأعادوها إلى حالة متعددة القدرات (مما يعني أنها يمكن أن تتطور إلى أي نوع من الخلايا). وهذه التقنية التي طوَّرها في الأصل شينيا ياماناكا، الأستاذ والمدير الفخري لمركز أبحاث وتطبيقات الخلايا الجذعية متعددة القدرات المستحثة في جامعة كيوتو في اليابان والحائز جائزة نويل عام 2012 في علم وظائف الأعضاء أو الطب، وعدّلها فريق دينغ لاستخدام جزيئات صغيرة بدلاً من البروتينات مما يسمح بتحكم أفضل.

وقد استخدم الباحثون هذه الخلايا الجذعية المعاد برمجتها كيميائياً لإنشاء مجموعات ثلاثية الأبعاد من جزر البنكرياس المنتجة للإنسولين التي جرى اختبارها من حيث السلامة في الحيوانات. وفي يونيو (حزيران) 2023 زرع الفريق نحو 1.5 مليون جزيرة بنكرياسية في عضلات بطن امرأة مصابة بداء السكري من النوع الأول وهو نهج جديد، إذ عادةً ما يحدث معظم عمليات زرع جزر البنكرياس في الكبد، أما اختيار عضلات البطن بدلاً من الكبد فقد كان ليُمكِّن من مراقبة الخلايا باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي وإزالتها إذا لزم الأمر، وقد استغرقت العملية أقل من 30 دقيقة.

وبعد شهرين ونصف من عملية الزرع بدأت المرأة المصابة بمرض السكري من النوع الأول في إنتاج ما يكفي من الإنسولين من تلقاء نفسها، واستمرت في ذلك لأكثر من عام ومستويات السكر في الدم لديها مستقرة بنسبة 98 في المائة من الوقت مما يزيل الارتفاعات والانخفاضات الخطيرة. ويؤكد جاي سكايلر، أستاذ الطب وطب الأطفال وعلم النفس والخبير في مرض السكري بكلية الطب بجامعة ميامي في الولايات المتحدة، أن المزيد من الناس بحاجة إلى الخضوع للاختبار، وسوف يستغرق الأمر ما يصل إلى خمس سنوات من إنتاج الإنسولين المستمر لاعتبارها قد شُفيت تماماً.

وقال دينغ هونغكوي إن المشاركين الآخرين في التجربة بخير أيضاً، ويخطط لتوسيع البحث نظراً لأن المرأة كانت تتناول بالفعل مثبطات المناعة بسبب عملية زرع كبد سابقة، ولم يتمكن الفريق من تقييم ما إذا كان جسدها سيرفض الخلايا الجديدة، وعلى الرغم من عدم وجود أي علامة على وجود هجوم مناعي ذاتي فإنهم يعملون على طرق لحماية الخلايا من هذا الخطر، وهو أمر شائع في مرض السكري من النوع الأول.