مواد ميكروبية تحمي الأمعاء والدماغ من الأمراض الهضمية والعقلية

«الدهون قصيرة السلسلة»... مراسِلات تلعب دوراً وقائياً حاسماً

مواد ميكروبية تحمي الأمعاء والدماغ من الأمراض الهضمية والعقلية
TT

مواد ميكروبية تحمي الأمعاء والدماغ من الأمراض الهضمية والعقلية

مواد ميكروبية تحمي الأمعاء والدماغ من الأمراض الهضمية والعقلية

«الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» مواد تتولد في أغلبها من الميكروبات. وهي نجوم في محور الميكروبيوم والأمعاء والدماغ.

أنتم تعرفون الآن أن الأمعاء ومليارات الميكروبات التي تعيش فيها لها تأثير قوي في عمليات أعضاء أخرى كثيرة من الجسم، بما فيها الدماغ، وربما في الدماغ بشكل خصوصي. ولكن إذا كنت ترغب في فهم كيفية عمل كل ذلك، فانتبه إلى 3 مواد تُعرف مجتمعة باسم «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» (SCFAs) short-chain fatty acids: الأسيتات acetate ، والبروبيونات propionate ، والبوتيرات butyrate.

مراسِلات الأمعاء للدماغ

يبدو أن هذه المواد مراسلات رئيسية لدماغك من أمعائك، وتؤثر في فسيولوجيا الدماغ وسلوكه بصفة مباشرة وغير مباشرة، بما في ذلك من خلال الجهاز المناعي. فهي تؤثر في مستوى طاقتك، وشهيتك، واستجابتك للأحداث المجهدة، وحالتك المزاجية، وأكثر من ذلك.

على عكس معظم الدهون التي يحتاجها الجسم، لا يتم توفير «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» الثلاثة مباشرة عن طريق الطعام. بدلاً من ذلك، يتم إنتاجها من قبل أنواع محددة من البكتيريا التي تعتمد على الألياف الغذائية، وهي منيعة إلى حد بعيد في وجه الإنزيمات الهضمية؛ بحيث تصل إلى القولون سليمة. وهناك، شريطة أن تكون قد تناولت الطعام بشكل جيد، تكمن تلك البكتيريا الشجاعة قيد الانتظار لتخمير الألياف، وإطلاق الطاقة، والغازات، وعدد قليل من المستقلبات، وهي «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة».

تعتمد كمية «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» المنتجة في أمعائك على مقدار الطعام الغني بالألياف الذي تستهلكه للحفاظ على البكتيريا التي تتغذى عليها. والأسيتات هي النوع الأكثر وفرة من «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة»، وتُشكل 60 في المائة من الإجمالي، مع البروبيونات بنسبة 25 في المائة، والبوتيرات بنسبة 15 في المائة.

حماية الأمعاء والدماغ

تُستهلك «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» بوصفها مصدراً للطاقة من قبل الخلايا المبطنة للأمعاء. كما أنها تحفّز الإنتاج الموضعي للمخاط، وتحافظ على خلايا جدار الأمعاء مترابطة بإحكام حتى لا تتسرب المواد من الأمعاء إلى مجرى الدم.

من المهم معرفة التأثيرات الموضعية في الأمعاء؛ لأن لها آثاراً كثيرة على عمليات الدماغ. فالأمعاء المتسربة، على سبيل المثال، تسمح للبكتيريا والسموم بالهرب عبر جدار الأمعاء والوصول إلى الدماغ، حيث تكون قادرة على إطلاق رد فعل التهابي يمكنه تعطيل وظيفة الأعصاب، وتشكيل خطر الاكتئاب، والقلق، وجنون الارتياب (الذُهان الكبريائي) والصعوبات الإدراكية، وحتى الذُهان والخرف.

العناية الموضعية بالأمعاء هي مجرد جزء من الوصف الوظيفي الذي لا يزال يتكشف عن دور «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة». تعمل البروبيونات موضعياً أيضاً على تحفيز إفراز الهرمونات التي تنظم الشهية في الأمعاء مثل (ببتيد واي واي)، مما يُبطئ إفراغ المعدة، ويجعلك تشعر بالشبع بصورة أسرع. إضافة إلى ذلك، تؤثر «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» في استقلاب الدهون. ولكن من جانبها، تؤثر البوتيرات في عملية التمثيل الغذائي الجهازي من خلال زيادة حساسية الإنسولين، وتقليل خطر الإصابة بمرض السكري.

تدخل «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» جميعها إلى مجرى الدم من الأمعاء، ثم تعبر الحاجز الدموي الدماغي وتصل مباشرة إلى الدماغ. هناك، توسع تأثيراتها في الأيض من خلال العمل على الخلايا العصبية في منطقة ما تحت المهاد لتنظيم توازن الطاقة.

وتمتلك البوتيرات، على وجه الخصوص، عدداً قليلاً من المواهب الخاصة. ويمكنها أن تفعل للدماغ ما تفعله للأمعاء - المحافظة على سلامة الحاجز، وإقصاء العناصر السيئة. وبطبيعتها الكيميائية، فهي جزيء مضاد للالتهابات، يعمل على خفض الالتهاب.

في الأمعاء والدماغ، تستهدف البوتيرات والبروبيونات من «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» الخلايا المناعية بغرض تنظيم رد الفعل الالتهابي. وهي توجه إنتاج الخلايا المضادة للالتهابات، وتقلل إنتاج السيتوكينات المضادة للالتهابات. وهذا العمل، كما تشير الدلائل، يحمي الدماغ من كل من الاكتئاب والألم المزمن.

تنمية الخلايا العصبية

علاوة على ذلك، فإن المستقبلات العصبية الخاصة بالبروبيونات، عند تنشيطها، تعمل على زيادة إنتاج الناقل العصبي «نورإبينفرين»، وهو مهم لتثبيط آلام الاعتلال العصبي والاكتئاب. تزيد البوتيرات من مستويات عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ في قشرة الفص الجبهي، مما يُحفز نمو الخلايا العصبية لفتح مسارات السلوك للخروج من الاكتئاب.

بمجرد دخول «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» إلى مجرى الدم، تتخذ إجراءات مهمة ضد هرمونات التوتر. وتُظهر الدراسات أنها «تخفف بشكل كبير» من استجابة الكورتيزول للإجهاد النفسي والاجتماعي الحاد. كلما ارتفعت مستويات «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة»، انخفضت استجابة الكورتيزول، وقلّ تفاعلك مع التوتر.

مع ذلك، ربما من خلال العصب المبهم أن يكون «للأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» أكبر تأثير في الدماغ والسلوك. فالعصب المبهم هو الأطول في الجسم، وينشأ في جذع الدماغ ويمتد إلى البطن، حاملاً الإشارات من وإلى الأحشاء؛ وهو يمكّن الأعضاء من التكيف الفوري مع متطلبات البيئة الداخلية والخارجية. ويبدو أن العصب المبهم هو الطريق السريعة الرئيسية بين العقل والجسم، وهو القناة الرئيسية للتواصل بين الأمعاء والدماغ؛ ومن المرجح أن تكون «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» بمثابة سائقي الشاحنات على المسافات الطويلة.

بادئ ذي بدء، فإنها تعمل على تنشيط العصب الحائر مباشرة، وتحفّز وتيسر الاتصال المعوي الدماغي. تشير الدراسات إلى أن البوتيرات تزيد من معدل قدرة الخلايا العصبية الحائرة على نقل الإشارات إلى الدماغ، لا سيما الإشارات ذات الصلة بالشبع. تعمل البوتيرات عبر المسارات الحائرة، ولكن يبدو أيضاً أنها تنقل التفضيلات الغذائية إلى الدماغ، وتُغير مستقبلات الأومامي (أحد المذاقات الخمس الأساسية)، وربما المذاقات الأخرى، وتشكل التفضيلات الغذائية.

نظراً لأن ميكروبات الأمعاء يجب أن تعيش على الطعام الذي نستهلكه، فإن النظام الغذائي البشري يؤثر مباشرة في تركيب البكتيريا في البيوم (الحَيَّوم أو التجمع الأحيائي). الميكروبات التي تعيش في القولون والتي تنتج «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» لديها متطلبات غذائية محددة للغاية: الألياف والنشا المقاوم للهضم، أي المواد الموجودة في جدران خلايا النباتات. يزيد النظام الغذائي الغني بالألياف من عدد البكتيريا التي تتحول إلى «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة».

ونظراً لأنها تحفّز نمو البكتيريا النافعة، فإن مواد مثل الألياف تُعرف أيضاً باسم «بريبيوتك: مغذيات المعينات الحيوية» (تماماً كما يُشار إلى «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» أحياناً باسم ما بعد البريبيوتك). تتضمن البريبيوتك الأكثر توثيقاً على نطاق كبير النشا المقاوم للهضم، المتوفر بكثرة في جذور الهندباء البرية، والموز غير الناضج، والثوم، والخرشوف، والشوفان، وسكريات الأليغو الفركتوزية (FOS)، الموجودة في الفواكه، والبصل، والملفوف، والهليون، والغالاكتو-أوليغوساكاريدات (GOS)، الموجودة في حليب البقر، والبقوليات. تعزز هذه من نمو أنواع مختلفة من البكتيريا «العصية اللبنية» أو بكتيريا «بيفيدوباكتيريوم» التي تنتج «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة».

التركيب الميكروبي المعوي

لسوء الحظ، إحدى السمات المميزة للنظام الغذائي الغربي هو نقص الألياف. ويُنظر إلى العوامل المؤثرة في سلامة التركيب الميكروبي المعوي على أنها قوة خفية وراء ارتفاع معدلات السمنة، والسكري، وسرطان القولون والمستقيم، وأمراض نفسية مثل القلق، والاكتئاب، والاضطرابات التنكسية العصبية.

ومن ناحية أخرى، يرتبط استهلاك الألياف بانخفاض معدل الوفيات الناجمة عن جميع الأسباب. ويعتقد بأن إنتاج «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» من نظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي الغني بالنباتات يمثل عديداً من الفوائد الصحية العقلية والبدنية.

تعدّ إضافة الأطعمة الغنية بالبريبيوتك إلى النظام الغذائي واحداً من أكثر التدابير المتاحة لتعزيز الصحة العقلية والبدنية. لكن البريبيوتك تستخرج أيضاً من الأطعمة وتتوفر بوصفها مكملات غذائية. يستكشف العلماء حالياً تركيبات البريبيوتك الخاصة بالاضطرابات لعلاج الاكتئاب، والقلق، والإجهاد، واضطرابات النوم، وداء ألزهايمر، ولكن هذا لا يمنع التركيبات ذات الأغراض العامة من تعزيز صحة الدماغ الآن.

حقائق عن «الدهون قصيرة السلسلة»

- ثبت أن التمارين البدنية تزيد من مستويات البكتيريا المنتجة لـ«الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» داخل الأمعاء.

- تعزز «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» القدرة على التحمل، على الأقل لدى الفئران.

- يؤدي النظام الغذائي الغني بالدهون إلى تغيير تركيبة الأمعاء وتقليل الميكروبات المنتجة لـ«الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة»، وتقليل الإشارات المعوية الدماغية.

- يعيق نقص «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» الدماغ عن إزالة الحُطام (الشظايا الصغيرة جداً) المرتبط بالأمراض العصبية التنكسية.

- يؤدي الحرمان من النوم إلى استنزاف البكتيريا المنتجة لـ«الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة»، ما يعزز الالتهاب ويضعف الإدراك.

- تحافظ «الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة» في الأمعاء على إبقاء البكتيريا المسببة للأمراض تحت السيطرة، وتخفف من حدة ضراوتها.

• مجلة «سايكولوجي توداي» - خدمات «تريبيون ميديا»



خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.