إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

القاصَّة الكويتية ترفض كتابة الرواية بحثاً عن النجومية

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة
TT

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

بنبرة شاعرية ولغة خافتة ومفارقات إنسانية ونفسية تنفجر في صمت وهدوء، استطاعت الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد أن يكون لها صوتها الخاص في عالم القصة القصيرة عبر الإخلاص لهذا اللون الأدبي والإصرار على أن تغزله بأناة وصبر. لم تغازل موجة الكتابة الرائجة في الأسواق ورفضت أن تحني رأسها لعاصفة الرواية وتكتب نصاً روائياً لمجرد البحث عن بريق نجومية سرعان ما ينطفئ.

صدر لها أخيراً «طائرة درون تضيء فوق رأسي»، لينضم إلى أعمالها السابقة ومنها: «عتمة الضوء»، و«تُلقي بالشتاء عالياً»، و«الأشياء الواقفة في غرفة 9».

هنا حوار معها حول مجموعتها الجديدة وهموم الكتابة:

> أول ما يلفت النظر في مجمل تجربتك هو الطابع الشاعري اللافت للعناوين وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في اسم مجموعتك القصصية الأحدث.. كيف تختارين عناوينك؟

- أختارها بصعوبة، مدركةً دورها في اقتناص انتباه القارئ، العنوان مَعبر وجسر له قدراته في انتزاع القارئ من بلادته، مستفزاً، أو لِنَقُلْ محرضاً إياه تجاه الكتاب، بالتالي يكمن قلقي في كيفية اختيار الغلاف والعنوان الجامع واللامع، عنوان مثل شريطة تلفّ هداياها بجاذبية وأناقة.

وعلى الرغم من أن هناك طرقاً عديدة للانتقاء، فإن كل المجاميع القصصية التي أصدرتها منذ «عتمة الضوء» إلى «تُلقي بالشتاء عالياً» انتهاءً بـ«طائرة درون تضيء فوق رأسي»، تتكرر بها صدفة غريبة ودون سبب واضح، حيث تنتهي كل النقاشات لترسو على مقترح صديق شاعر أو شاعرة. وكان اختيار العنوان لهذه المجموعة للشاعرة الصديقة سوزان عليوان حين استلّت من جملة بإحدى القصص ما رأته شيقاً وجاذباً ويستنهض الأسئلة وهو ما اتفقت معها عليه، وحين أرسلته إلى دار النشر لم أجد أي اعتراض لديهم، بل على العكس راقَ لهم ووجدت أنه أعجبهم فعلاً.

> الملاحَظ أيضاً أنك لا تجعلين من عنوان قصة عنواناً للمجموعة القصصية بأكملها... لماذا؟

- صحيح، أنا لا أفضل أن أختار أي عنوان لنص موجود في متن المجموعة، أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه، ربما ظن أنه الأفضل من بين النصوص، بينما أريد أن أتعامل بديمقراطية ومساواة، لذا أميل إلى عنوان ماكر له أثره وأستمتع بهذه الحيلة.

> بخلاف العناوين، اللغة المرهفة المكثفة في نصوصك تجعلنا نسأل عن طبيعة علاقاتك بالشِّعر؟

- علاقتي أكثر من جيدة معه، نحن صديقان مقربان، يزورني كثيراً وأنصت إليه في تراكيبه وجمالياته ويتداخل في نصي وأحاذر أن أجعل لغته تطغى على كتابتي وقد يفعلها أحياناً، هو صديقي منذ اخترت في بداياتي أن أحاول تقليد والدي وهو يكتب نصوصه وخواطره بخطه الجميل والمبهر الذي لم أرثه مطلقاً، ربما كانت هذه إشارة لم أقرأها جيداً للابتعاد عن تدوين الشعر. لاحقاً عزفت عن الكتابة لعشر سنوات بعد وفاة والدي، وأخذني التحصيل الدراسي ومراحل مختلفة في الحياة، وإن ظللت أسمع نداءات لا أعرف كنهها لكنها أيضاً ألقت بي في حقول من التجارب والطرق حتى عدت بعد رحلة بحث طويلة. عاد صديقي مجدداً عبر خواطر نشرتها في موقع إلكتروني وشعرت بالجوع أكثر للكتابة، وحافظنا على ودّنا بعد أن اتجهت إلى القصة دون وعد بأكثر من ذلك.

> يشكل الانحياز إلى المهمشين والغرباء هاجساً يهيمن على معظم كتاباتك... ما الفكرة وراء ذلك؟

- أحب دوزنة حكايات هذه الفئات: المهمشين، الهامشيين، الغرباء، المنبوذين، الراقصين على الحافة. فكم من خيط تتبعه من حيواتهم سيحيلك إلى نسيج مجتمعات لا تلحظها أو تتجاهلها، وكيف للقطة خاطفة لشخصية تقبع بالهامش أن تكون أكثر التصاقاً بأفكارنا، كيف لغريب يزيح يومياً أحجار العوز أو الإهانة أو الإقصاء تتلقفه الحكايات ويشيّد بيوتها المعنونة بالكتب.

وأظنني اخترت القصة كفنٍّ يستهويني لأنه لا يلتفت إلى مغريات ولا يتوق إلى موقع الرواية البارز، فالقصة تتحرك بخفوت وتبحر بعيداً عن ثقل وإملاءات القارئ، أو مكاسب يعرفها ويترصدها أي كاتب. تعرفين؛ ربما مضيت نحو مدارات وأفلاك القصة أكثر لأن مركزية الضوء تربكني وإن أحببته.

> تنتمين إلى جيل بدايات الألفية... أين تضعين تجربتك في السياق الكويتي؟

- لا أعرف؛ من الصعب أن أحدد أو أجيب بصدق، ما أستطيع أن أخبرك عنه هو أنني أعرف ما أنا عليه دائماً، فمنذ البداية انحزت إلى التجريب وتعلقت به، أي منذ البداية يناصبك القارئ الاعتيادي العداء. انصبَّت محاولاتي على أن أكتب ما أحب أو ما أعتقد أنه يمثلني، مهتمةً بالمغامرة والفضول، ومليئة بالأسئلة وبالشك الذي يناكفني دائماً، مستغرقةً بكيف أكتب وكيف أواصل الكتابة ورهاناتي ولا أهادن أسئلتي، أما أين أقف؟ فأظنه مهمة القارئ والناقد وليس لي.

> ما أبرز التحديات التي يواجهها حالياً كتّاب القصة القصيرة في عالمنا العربي، من وجهة نظرك؟

- يواجه سابقاً وحالياً كتّاب القصة حائطاً صلداً عبر مقولة أنها «الفن الأصعب، ولكنه أيضاً الأقل انتشاراً». نعاني من ثرثرات البعض بأن القصة أقل من الرواية، رغم أنه لا يوجد فن أقل من آخر أو أعلى.

> هل لا يزال عزوف الناشر العربي عن القصة القصيرة بحجة أنها «لا تبيع» مستمراً، أم أنكِ تلاحظين تغيراً ما في هذا الموقف مؤخراً؟

- هناك تحوّل في الاهتمام بالقصة واستجابة لنشرها في السنوات الماضية، صحيح ما زال أغلب الناشرين لديهم حساباتهم في إعلاء كفة الأرباح مقابل انحسار دورهم الثقافي، أقول أغلب لأنني تعاملت مع دور نشر كانت تنحاز أكثر من غيرها للشأن الثقافي. رغم ذلك أي دار نشر تحتاج إلى الاستمرارية لأنها مشروع يحتاج أن تُضخ به أموال تدعم وتعزز قدرته على البقاء خصوصاً أن القصة في هذه السنوات باتت في مربع المعاملة الصعبة عبر عودة الاهتمام بها، ورصد الجوائز دون أن تقترب من هوس الجوائز، كما هو الحال مع الرواية، والذي أفقد الأخيرة اتزانها.

> تقولين إن طموحك في الكتابة «ألا تخوني أغنيتك»... ماذا تقصدين؟

- دعيني أقل إنني أقصد تماماً كل ما ذكرته سالفاً، مؤكدةً أنني آمل ألا أخاف المخاطرة فيما أكتب وأن أنحاز دائماً إلى القفز في عمق المغامرة، متمسكة بالإنصات للتجارب والمضي بهدفي وتطوير نصي. أن أكون مغنية بصوت جيد لا نشاز فيه، لها اطلاعها الواسع كما يجب، تواكب الجديد وتنظم أدوارها في الحياة، تكتشف ذاتها للوصول إلى نسخة أفضل منها بالتزامن مع الكتابة، تتغير بشكل مطرد وتجد من يترقب أغنيتها وتلامسه وتضيف إليه ويضيف إليها.

«لا أفضل أن أختار اسم الكتاب من عنوان موجود في متن المجموعة... أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه»

إستبرق أحمد

> برأيك، لماذا لا تحظى كتابات الناشئة بالاهتمام الكافي من النقاد والناشرين العرب؟

- ربما لأن الغالبية من النقاد يعانون من كسل البحث وعدم التعاطي مع هذه النصوص في وسطٍ محكومٍ بنظرة تقليدية واستعلائية في تناول هذه النصوص، لكنّ واقع الحال أن الناشر أصبح أكثر جرأة في تبني هذا النوع من الكتابات، لأنه بات يرى ازدياداً في توجه بعض الكتاب إليها، وقدرةً في استقطابها لقراء مختلفين، كما أن دور النشر المتخصصة بالطفل والناشئة واليافعين في ازدياد وباتت أكثر اعتناءً بالرسم.

> في زمن يهرع فيه الجميع لكتابة الرواية حتى لو لم يكن لديهم ما يضيفونه أو يعانون من همٍّ إبداعي يؤرقهم، يبدو عزوفك عن تقديم نصك الروائي الأول كأنه مفاجأة... ما السبب؟

- أنا لا أحب الرياضة كثيراً وربما ذلك جعلني لا أطيق الركض. بصدق لست معنية بكل ما يفعله الآخرون، أنا كتبت رواية للناشئة لأنني استمتعت بها، أما الكتابة لفئة الكبار فلم تكتمل لعدة أسباب منها تهيّبي، أو ربما لافتقاري إلى التركيز الروائي في بناء نصه الممتد، أو لوساوس الكمال، أو ببساطة لأن اللحظة المناسبة لإنجازها لم تأتِ بعد. أو أنه ليس بالضرورة كل قاصٍّ هو روائياً كامناً، والعكس بالعكس، هكذا يتضح أنني لست ضد أن أكتب الرواية لكنني ضد الاتجاه إليها بحثاً النجومية.

> أخيراً، ماذا عن تجربتك في كتابة السيناريو وهل تعدينها رافداً أساسياً لك أم نشاطاً على الهامش؟

- هو شغف أتمنى أن يجد مكانه على رف اهتماماتي كما يجب، أشعر أنني تأخرت في الإمساك بأدواته إلى حد ما، لكنه صدى لحلم تمنيته واحتجت لوقت طويل للعثور على من يضعني على أول الطريق. وهنا أوجه التحية إلى الأستاذ السيناريست خالد الصغير والسيناريست إيناس لطفي، علماً أن نصوصي القصصية تحمل بداخلها روحها السينمائية.

> ما مبررات توجهك إلى كتابة روايات للناشئة... أي فارق تطمحين لصنعه؟

- لا أجد أننا نحتاج إلى مبررات في المراوحة بين أنواع السرد ولا غيره من تجارب، نحن نلاحق ما نظن أنه الأكثر مناسبة لما نريد التعبير عنه، ولا أنكر تأثير تشجيع الصديقة الفنانة التشكيلية إيناس عمارة التي ترسم بعض المجلات والكتب وأفلام الكرتون وترى أن روايات الناشئة تجربة سأجد نفسي في كتابتها (لا أعرف سبباً لثقتها) وأنني سأكون أكثر حرية في تمرير ما أريد.

في البداية شعرت بأنه من الصعب الاتجاه إلى هذا النوع من الكتابة التي لها فئتها من القراء، لاحقاً اكتشفت انسجامي وبهجتي بعد انتهائي من كتاب «الطائر الأبيض في البلاد الرمادية» عام 2018 ليتبعه «ساطع» عام 2023 والذي مضى للقائمة الطويلة عبر «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، كما أضافت اللوحات الفنية في العملين بأنامل إيناس عمارة جمالاً ودهشةً للتجربة في مجملها.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.