لا أعلم إن كان عمدة مدينة نيويورك المنتخب حديثاً، زهران ممداني، قد قرأ رواية ميشيل ويلبيك «استسلام». لكن فوز زهران ممداني، المهاجر من أوغندا، ابن أب مسلم ذي أصول هندية وأم هندوسية، والمتزوج من فنانة سورية، يُذكرني حتماً بمحمد بن عباس، الشخصية المحورية في رواية ويلبيك. يصفه المؤلف بأنه ابن مهاجر تونسي وزعيم حزب إسلامي، والذي، في رواية ويلبيك، يفوز في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022.
هل «الأميركي» زهران ممداني هو النسخة النيويوركية من «الفرنسي» محمد بن عباس في رواية ميشيل ويلبيك؟ أم أنه تجسيد لجملة مارتن لوثر كينغ المعروفة «لدي حلم»؟
نُشرت رواية «استسلام» عام 2015، وأثارت جدلاً واسعاً. كان ذلك قبل ثلاث سنوات من حصول زهران ممداني على الجنسية الأميركية. بطل الرواية، فرنسوا، رجل فرنسي أبيض أعزب في الأربعينات من عمره، يعمل أستاذاً في جامعة السوربون، متخصصاً في أعمال الكاتب جوريس كارل هويسمانز من القرن التاسع عشر. يُقسّم فرنسوا وقته بين التدريس في الجامعة، وتسخين الطعام، وعلاقات غرامية عابرة مع طالبات في برجه العاجي بالدائرة الثالثة بباريس. تبدو الديمقراطية سليمة؛ إذ يُفترض أن تُجرى الانتخابات دون تدخل خارجي.

في مستقبل ويلبيك الروائي القريب، سيطر حزبان على المشهد السياسي الفرنسي التقليدي منذ الحرب العالمية الثانية، لكن هذين الحزبين، يسار الوسط ويمين الوسط، فقدا مصداقيتهما. كانا سيُهمّشان، وستكون القوة السياسية الوحيدة التي ستحظى بفرصة في الانتخابات الرئاسية المقبلة هي الجبهة الوطنية اليمينية. لمنع ذلك؛ اتفقت الأحزاب الرئيسية المترنحة على مرشح مضاد: محمد بن عباس، وهو إسلامي يُفترض أنه معتدل، يكسب، بسلوكه اللطيف كمهاجر تونسي يدير متجر بقالة في ضواحي باريس، أصوات الناخبين الفرنسيين غير المسلمين.
يُصوّر ويلبيك السياسي المسلم، الذي يتخفى في زيّ المواطن العادي للانتخابات، مخرباً متعمداً للهياكل القائمة، شخصاً يعرف تماماً مدى سهولة إغواء النخب الحاكمة، ويريد الإطاحة بالحكومة الفرنسية. وكما هو متوقع في الأدب، تحت شعار «أي شيء إلا الجبهة الوطنية»، تُشكّل الأحزاب الرئيسية جبهة جمهورية واسعة لدعم المرشح المسلم، ويفوز.
يمكن تفسير صعود محمد بن عباس، شخصية ويلبيك، بأنه رد فعل على صعود سياسات اليمين المتطرف التخريبية وفشل المحافظين الليبراليين والاشتراكيين، الذين انشغلوا بالحفاظ على سلطتهم أكثر من حماية الجمهورية.
تُظهر أحداث نيويورك كيف أن النظام الحزبي الأميركي يقترب بشكل متزايد من النظام الأوروبي. لقد كان نظام الحزبين في أميركا ناجحاً حتى الآن، لكنه الآن يخرج عن السيطرة. من جهة، نرى زهران ممداني، أبرز الديمقراطيين في أميركا، وهو خريج جامعة كولومبيا البالغ من العمر 34 عاماً، وابن مهاجر مسلم، يكره إسرائيل وينادي بمطالب اجتماعية راديكالية، مثل مجانية وسائل النقل أو تدخل الحكومة في سوق الإسكان. ومن جهة أخرى، نرى دونالد ترمب، السياسي الأكثر نفوذاً في العالم. ثوري في مواجهة رجعي.
لولا دعم الشباب، ومجتمع الميم، واليهود (رغم كراهية ممداني لإسرائيل)، وأهمهم الملياردير اليهودي جورج سوروس، خصم ترمب الصريح والداعم السابق لأبحاث والد ممداني العلمية، لما فاز زهران ممداني. فلا عجب إذن أن يكون ابن سوروس، ألكسندر سوروس، من أوائل المهنئين لرئيس البلدية المنتخب حديثاً بفوزه.
نيويورك، مدينة الحرية والرأسمالية والفن، تنتخب مسلماً من أصل أفريقي متزوجاً من عربية عمدةً لها. مشهد رمزي يُعلن ظاهرياً انتصاراً للتنوع والانفتاح، لكنه في جوهره يعكس تحولاً أعمق في جميع المجتمعات التي اجتاحتها موجة التطرف. في هذا الصدد، لا يختلف فوز ممداني عن فوز محمد بن عباس الخيالي في رواية ويلبيك، حيث يهيمن الخوف من الإرهاب، وفشل الأحزاب السياسية السائدة، والتطرف على فرنسا.
لا يُمكن تفسير انتصار ممداني على أنه انتصار للإسلام على الغرب أو تعبير عن نضج النظام الديمقراطي. في رواية ويلبيك، تُمثل فرنسا نموذجاً لدولة تخلت عن تاريخها، ونبذت مجدها، وأنكرت هويتها. مثقفوها نخبويون، انتهازيون، ومتحيزون جنسياً، مدفوعون بالجشع والرذيلة، وهدفهم الأساسي هو الحفاظ على امتيازاتهم. يُصوَّر الإسلام على أنه دين معتدل، يُقنع أوروبا، دون عنف، بالخضوع له طواعية. ويحدث هذا في وقت ينتشر فيه العداء للإسلام، وتتزايد فيه الحوادث المعادية للمسلمين في جميع أنحاء أوروبا والعالم. يصور ويلبيك تدهور المجتمع الفرنسي، وفساد الخيال السياسي، وتنامي الهواجس الوطنية، التي بلغت ذروتها باعتناق فرنسوا الإسلام. يفعل ذلك لأسباب انتهازية واضحة، بالدرجة الأولى لأنه يضمن له العودة إلى جامعة السوربون، وامتيازات شقة جميلة، ومتعة ثلاث زوجات: اثنتان صغيرتان للاستخدام الشخصي، وثالثة أكبر سناً تُعنى بالطبخ.
يمكن تفسير صعود محمد بن عباس، شخصية ويلبيك، بأنه رد فعل على سياسات اليمين المتطرف وفشل الليبراليين والاشتراكيين
في أميركا، هناك عدد لا يُحصى من الكتب الأكثر مبيعاً التي ترسم صورة قاتمة للمستقبل - بكوارث، وهجمات إلكترونية، ونهاية العالم، أو وجود زعيم نازي في السلطة، مثل رواية فيليب روث «المؤامرة ضد أميركا». الروايات الشعبية التي تصور صعوداً للسلطة من قبل الإسلام نادرة. ربما لأن الواقعية السياسية لفريق دونالد ترمب الجمهوري تفوق كل تصور؟
يجب فهم انتخاب زهران ممداني في سياق الديناميكية الجدلية التي تُميّز السياسة الأميركية اليوم. فالتطرف، بطبيعته، يُولّد نقيضه دائماً. وكلما اشتدّ خطاب الكراهية لدى أحد الطرفين، تشكّلت حركة مضادة تسعى إلى استعادة التوازن.
يُعدّ دونالد ترمب، بنبرته العدائية واحتضانه العلني للقوميين البيض اليمينيين، مسؤولاً بشكل غير مباشر عن صعود زهران ممداني وحركته التقدمية (الاجتماعية) الديمقراطية في أكبر مدينة في الولايات المتحدة ومركزها المالي. فكل خطاب ألقاه ترمب ضد المهاجرين والمسلمين، وكل تصريح تحريضيّ زاد من تأجيج الانقسام المجتمعي، أشعل شرارة حركة مضادة، وجذب الناس إلى صناديق الاقتراع بحثاً عن بدائل جذرية لكسر هيمنة الخطاب العنصري.
في رواية ويلبيك، ينتصر الأصل على المكان، مُضفياً عليه طابعاً جديداً. فهل ينجح عمدة نيويورك الجديد، في هذه المدينة المنقسمة على أسس الأصل والمصالح المالية، في تحويل انتصاره، على طريقة حنه أرندت، إلى نهضة للأطراف المتصارعة، ليُرسي شعوراً ثالثاً جديداً بالانتماء - شعوراً بالانتماء إلى المكان، لا إلى الأصل؟ في الوقت الحالي، لا يسعنا إلا أن نحلم به ونواصل مراقبة الواقع الأميركي، الذي يفوق كل تصور، وهو يتكشف أمامنا.
