اليوم هو عيد الميلاد، يوم قصير قارس البرد، وأنا أقود عجلتي على طريق يمتدُّ عبر الغابة التي تحيط بمدينة أوتاوا، وشيئاً فشيئاً اشتدَّت الرياح وراحت تعصف. فجأة قطع الطريق عليَّ جذعُ شجرة انكسر بفعل العاصفة، وهوى على الأرض. انعطفتُ مباشرة إلى الجانب كي أتجنَّب الاصطدام، ونزلت العجلة في وهدة، وأخذت العجلات تدور في مكانها، بجوار صخرة عليها كتابة بحروف غامضة، رسم لها خيالي في تلك اللحظة شكلاً يشبه طلسماً مكتوباً بالعربية، لا يعني شيئاً، ويعني كلَّ شيء في الوقت عينه.
الأشجار من حولي مغطاة بالثلج، والسماء تكاد تكون بنفسجية، وليس هناك قرية قريبة يمكنني السير إليها وإيجاد مأوى. بدأ الفزع يساورني لأني امرأة وغريبة ووحيدة، فتناولتُ المجرفة من صندوق السيَّارة ورحتُ أزيح ركام الثلج، ولكن بلا جدوى لأن الحفرة عميقة، وما يسقط من الصقيع مع هبوب الرياح يجعل العمل صعباً أو مستحيلاً.
جرَّبتُ هاتفي النقَّال؛ لكن العاصفة فيما يبدو أخرسته تماماً، فهو قطعة معدنية لا تُفيد في شيء. كنت أرتدي قبعة من الصوف وبنطالاً صوفياً وسترة ثقيلة ومعطفاً ووشاحاً، ومع هذا راح جسدي يرتعد وأسناني تصطك بسبب البرد. ثم بدأت أعي وضعي الغريب، وتضاعف خوفي لأن الظلمة أخذت تهبط، وتلوَّن كلُّ شيء -حتى بياض الثلج المهيمن على المكان- بالعتمة.
على الرغم من حالة الرعب من الذئاب والحيوانات المجهولة، كان هناك شيء في أعماقي يدعوني للاطمئنان. هل سببه الحروف التي ظلَّت بارزة على الصخرة، مع أن الثلج كان يكسوها شيئاً فشيئاً؟
بقيتُ واقفة في مكاني لا أتحرَّك، أنتظر النجدة تأتيني من جهة لا أعرفها. أنا متأكدة أن هنالك حلّاً لورطتي سوف يتمُّ في زمن قريب. حاولتُ تهدئة نفسي بهذه الأفكار، ولكن عواء الذئاب الذي حملَته الريح جمَّدني من الرهبة في مكاني.
ظهرت من بعيد شاحنة مسرعة اجتازتني وتوقَّفت، وتذكَّرتُ في الحال أفلام هوليوود التي تدور حول جرائم القتل والسلْب على الطرقات. قفز رجل منها، له هيئة مصارع، بلحية شقراء وشعر طويل أجعد. كان كياني يتركز في نقطة واحدة، هي النجاة من الاغتصاب، ولو أدَّى الأمر إلى موتي. حاولتُ -والخوف يتملَّكني- استحضار أحسن طريقة تدافع بها الضحيَّة عن نفسها في صراعها مع المجرم. اقترب الرجل وتبيَّنتُ ملابسه في العاصفة الثلجية: بنطال قصير (شورت)، و«تي شيرت»، وقبعة مصنوعة من القش، و«التاتو» يغطِّي ذراعيه وصدره. كان يسير على مهله محاولاً فيما يبدو اختبار شجاعتي. وانتابتني رعشة هلع قوية، بدءاً من عمودي الفقري وصولاً لأعمق تشعُّبات أعصابي. فكَّرتُ أن أركض بعيداً؛ لكنَّ الرعب شلَّ أطرافي. لقد تحقَّق موتي إذن على يدَي ذئب بشريٍّ، وها أنا أسمع صراخ أمي الملتاع في بلدي العراق، تلومني لأني اخترت طريق الهجرة، بعيداً عن وطني.
اقترب المصارع، وعمَّني الخوف، فصرت أسمع وجيب قلبي في أذني مع صفير العاصفة. الرياح الشمالية الشرقية قارسة البرودة، وتهبُّ من كلِّ مكان حولي، وتحاول أن تقتلعني مثل ريشة، وتقذف بي بعيداً. ألقيتُ نظرة على الأحرف المنقوشة على الصخرة، طلسمي الذي قدَّم لي الاطمئنان أوَّل الأمر؛ لكن الثلج الغزير محاه الآن تماماً، واختفت الصخرة أيضاً، فالمكان عبارة عن قطعة متصلة من الجليد الصلد.
تطايرت خصلات شعر الرجل في تلك اللحظة، وكان تنفسي يتسارع، ومعدتي تضطرب لأني أجابه وحشاً حقيقياً، وله صدر ورقبة ثور. جاهدتُ كي لا أهرب، وتمسَّكتُ بالمجرفة، فهي سلاحي الوحيد. حين نكون خائفين، نرى الأمور بطريقة مختلفة.
«هيللو!».
هتف بي المصارع العملاق بصوت رجولي لطيف، والتقت عيني بعينيه. كانت له بشرة بيضاء وعليها نمشات صغيرة. أخرج نفَساً من بخار مثلَّج من بين أسنانه، وقال:
«اسمي هنري».
فجأة انفتح العالم لي في هيئة جديدة. يا للكلمة الطيَّبة من مفعول ساحر:
«لا تقلقي يا صغيرتي. ليس هناك ما يدعو للقلق أو التوتُّر. سأقوم بإخراج السيَّارة من حفرة الثلج ويكون كلُّ شيء على ما يُرام».
عاد إلى شاحنته، وساقها إلى جهة الخلف، وصارت قريبة. راقبتُه وهو يفتح صندوق العدَّة ويستخرج منه معولاً ومجرفة من الحجم الكبير، وحبالاً وأشرطة وأدوات أخرى لا أعرفها. بدأ يجرف الثلج، وحاولت مساعدته، ولكنه أبى بهزة قويَّة من رأسه. صاح بي:
«عودي إلى سيارتك».
كانت العاصفة تشتدُّ، وتخلَّص المصارع من قبعته وقميصه، وبانت حدود وأشكال الأوشام على صدره وظهره بصورة واضحة. إنهما أسد ونسر يتعاركان ويتعانقان في الوقت نفسه.
«ما الذي تبحث عنه؟» سألته، وأجاب:
«أبحث عن عصا».
هبطتُ من السيارة، وبدأت في البحث معه كي أساعده؛ لكنه أوقفني، ورنَّ صوته بقوَّة:
«العاصفة شديدة وقد تصابين بالتجمد. اجلسي في السيارة».
أتى بغصن وأخذ يحكُّ الإطارات، وانكسر العود. اتَّجه إلى الغابة ثانية، واختار شجرة أثأب ضخمة، جذورها الهوائيَّة بحد ذاتها تعادل شجرة وهي تتشابك مع بعضها. اختار زاوية شكَّلها جذران سميكان، وراح ينازع لكسر أحدهما. كان يعارك -بالإضافة إلى صلابة الجذر- ضباب الثلج والريح، في سبيل الفوز بأداة من أجلي تنقذني من هذه الورطة.
يا ربَّ السماء الكريمة! اختفى من ناظري المصارع، وبقي الأسد والنسر وحدهما يكافحان من أجلي، أم أن ضوء النهار الشحيح هو المسؤول عن هذه الرؤية؟ كان الأسد يهجم من جهة الأمام على الشجرة، وينقضُّ النسر على الجذر من الخلف. إن الطبيعة تقاومنا، وتهيئ لنا في الوقت نفسه بعضاً منها للدفاع عنَّا. مثل قصَّة النبي يونس حين ضاع في البحر لأنه كان آثماً، وهيَّأت له الآلهة وحشاً يُنقذه من الغرق.
هل كنتُ آثمة مثل يونان، وقد وفَّرت لي الطبيعة أو الربُّ أو إحدى دعوات أمِّي لي -اختر من هذه الأسباب ما تشاء- ما ينجِّيني من الضياع في بحر الثلج الذي يحيط بي من كلِّ جهة؟ المهمُّ أن المصارع عاد بعد دقائق بجذر طويل ومتين، وراح ينظِّف عجلات سيَّارتي من الثلج بحكِّها مراراً. ثم توقف بعد قليل، وجلس يلتقط أنفاسه. كان وجهه بعيداً عن الملاحة أو الجمال، ورغم ذلك صار في موضع إعجابي. تخيَّلتُ يدي تمسك بذراعه، لا لكي تعينه في العمل، وإنما تمسكها فحسب، لكي أتحقَّق من حصول المعجزة. طلب مني أن أقود السيَّارة إلى أمام وإلى الخلف؛ لكن العجلات أبت إلا أن تدور في الفراغ.
«لا فائدة!».
هتف المصارع ورمى الجذر بعيداً. ثم أحنى قامته وصار قريباً من حافة الوهدة، كتفه العارية تحت العجلة في لقطة تشبه ما قام به جان فالجان في رواية «البؤساء» لفيكتور هيغو، وهو يحمل على كاهله العربة ليخلصها من الوحل. الرياح تشتدُّ، وعواء الذئاب يعلو، والمساء يتقدم حثيثاً. بصق عملاقي في راحة كفِّه وحكَّ يديه معاً. رفع عجلتي على كتفه، وبدا كأنه يفعل ذلك دون جهد مطلقاً، وطلب مني أن أركب العجلة ويكون المقود في المركز. صاح بي:
«ساعديني بالاستمرار بالسياقة إلى الخلف أولاً ثم إلى أمام».
سمعتُ صريرَ العجلات، وأتاني صياحه بعد ثوان:
«هذا جيِّد يا صغيرتي».
لم يقل شيئاً بعد أن اندفعت العجلات من الحفرة، ولم يكن مجهداً. شكرتُه بحماس، وتخلَّلتني حرارة مصدرها دفء القلب والمشاعر. أخبرني أنه يتوجب عليه الآن إخراج شاحنته هو الآخر، فأثناء وقوفه على جانب الطريق غاصت العجلات في الجليد. صافحني كأنما بعينيه الزرقاوين الصافيتين، وهو يوجه كلامه الأخير لي:
«أموركِ تمام؟ اخرُجي من هذا المكان، وسوقي بانتباه، وسوف تصلين بالسلامة».
لا أصدِّق أني عشتُ تلك التجربة، ولست متأكدة أني رأيتُ ما اعتقدتُ أني رأيته. كان العملاق المصارع يمتلك -بالإضافة إلى الشجاعة الجسديَّة- الشجاعة الأخلاقيَّة التي يندر الحصول عليها في هذا الزمان، فلولاه كنتُ أصير طعاماً للذئاب؛ لأن أقرب قرية كانت تبعد نحو أربع ساعات سيراً على الأقدام.
