عن دار «العربي» بالقاهرة صدر كتاب «الليل...عالم موازٍ»، ترجمة محمد رمضان، والذي يتناول فيها الباحث الألماني بيرند برونر بأسلوب أدبي ولغة تشبه التأملات الفلسفية هذا العالم المثير بأفكاره المدهشة عبر التاريخ والثقافات، ليخلص إلى نتائج شيقة حول علاقة الليل بالبشر والحيوان والنبات.
ويلاحظ المؤلف أن الأصوات في الليل يمكن أن تكون مصدر خوف للبعض أو شيئاً يبعث على الأمان لدى البعض الآخر، وهو ما يحدث عند سماع نباح كلب أو صرير جذع شجرة، أو إغلاق باب بشكل غير متوقع، أو حتى صراخ طفل بشكل مفاجئ.
لا يمكننا الاعتماد في الليل على الأعضاء الحسية الأكثر أهمية في أثناء النهار مثل العين إلا بقدر يسير، بمعنى آخر يأخذ السمع مكان البصر ويوجه المرء نفسه مستعيناً بالأصوات المحيطة بدلاً من الضوء. ولأن الصمت المطبق قد يكون مصدر قلق لدى البعض، فإنهم يبحثون عما يخفف من وطأة أصوات الأمواج المتكسرة على الشاطئ وحفيف مروحة معلقة في سقف الغرفة، أو أن تطن الثلاجة في الخلفية أو يدوي صوت جهاز التكييف على سطح الفندق.
يحلم البعض بقضاء الليل تحت سماء مفتوحة مليئة بالنجوم في ليلة صيفية دافئة، لكن الحقيقة أن أي شخص غير معتاد على ذلك سوف تنشط لديه غرائز البقاء التي تمنعه من النوم العميق. وهذه مشكلة لا يعرفها «الطوارق» وهم شعب من البدو الرحل يتركزون في الصحراء الأفريقية الكبرى وينامون على الحصير في الخارج ويدربون سمعهم على الأصوات، حيث لا يعتمد إيقاع نومهم على الضوء والظلام، بل على حيواناتهم بصورة أكبر.
ويشير المؤلف إلى أنه من بين المخلوقات الليلية الطائرة حقق البوم شهرة واسعة بفضل العيون الواسعة والأذنين المرتفعين، فضلاً عن السمت البشري لوجوهها، فالبومة تصدر أصواتاً في نطاق واسع بشكل مدهش والتي تذكرنا مع قليل من الخيال بالتعبيرات البشرية، كالصراخ والنحيب والأنين والضحك وحتى الصفير والشخير. ومع ذلك يجد بعض الأشخاص أن هذه الأصوات مخيفة، وفي روما القديمة كان يعتقد أن صوت البومة نذير بالموت.
ومع ذلك فإن طيور الليل تمثل أيضاً الحكمة، ويمكن رد هذا إلى اليونان القديمة، إذ ارتبطت البومة الصغيرة بـ«أثينا» إلهة الحكمة. ويشيد أيضاً عالم الطبيعة والفيلسوف والشاعر هنري ديفيد ثورو بالبوم بحماس شديد قائلاً في واحد من مؤلفاته: «يجب أن يكون هناك بوم كثير لعلهم يصرفون الناس عن عويلهم الغبي والجنوني، فالبوم صوته مثالي لتضاريس المستنقعات وغابات الشفق، وإشارة إلى جزء كبير غير متطور من الطبيعة لا يرغب البشر في الاعتراف به، إن البوم يجسد الأفكار التي لدينا جميعاً في داخلنا والتي لا نرغب في الاعتراف بها».
وتتبع النباتات أيضاً إيقاع النهار والليل، ويذهب الكثير منها إلى النوم، إذا جاز التعبير، حين يحل الظلام. وفي بعض الحالات يكون هذا واضحاً، فعلى سبيل المثال تتدلى أوراق الترمس التي تشبه المروحة بحزن في الظلام. وينطبق هذا أيضاً على الأوراق الصغيرة لـ«الحميضة» حيث تنغلق الزهور لتحمي حبوب اللقاح من ندى الصباح. وتحدث المؤلف الروماني «بيلنوس الأكبر» عن «نوم النباتات» كما لاحظ عالم الأحياء السويدي «كارل فون ليني» في القرن الثامن عشر أن الزهور تتفتح وتنغلق حتى عندما تكون في قبو مظلم.
وكتب فيلسوف الطبيعة «فيلهم بولشه» ذات مرة عن نخلة «أليكة» المعروفة أيضاً باسم «زهرة القمر» والتي تنمو في المكسيك وجنوب غرب أميركا قائلاً: «هناك في ضوء القمر أو ضوء النجوم تتألق زهورها الفضية ببريق لامع يظهر من مسافة بعيدة لدرجة أن مسافر الليل قد يعتقد أن ضوءها الأبيض الحليبي يشع منها كأنها من ثريات الطبيعة المضاءة».
في الثقافات القديمة، كان الوقت يُحسب بالليالي. وفي اللغة السنسكريتية تستخدم عبارة «ليلة بعد ليلة» بدلاً من عبارة «يومياً». أما في بلاد ما بين النهرين القديمة، فكانت هناك صلوات ليلية، حيث يتأمل الناس النجوم والكواكب كجزء من التعبد. وفي مصر القديمة، كانت بعض الاحتفالات والطقوس تقام في المساء والليل.
ويصف المعلم الروماني كينتليان الذي عاش في القرن الأول الميلادي العمل الليلي بأنه «أفضل شكل من أشكال العزلة ما دمت تبدأه منتعشاً»، لكنه يشدد على أهمية الحالة الصحية لصاحبه وألا يأتي هذا كنوع من الإكراه. ويخاطب رجل الدولة الروماني كاسيودورس الحراس الليليين قائلاً: «أنتم حفظة النائمين وحماة البيوت وحراس الأبواب ومراقبون خفيون وقضاة صامتون».
وعلى الرغم من أهمية الحراس الليليين في حفظ النظام العام، فإن سمعتهم لم تكن جيدة في كثير من الأحيان. وعلى غرار الجلادين وحفاري القبور وقاطعي الطرق والحلاقين، فإنهم يأتون في الغالب من الطبقات الدنيا ودائماً ما تكون أجورهم هزيلة حتى إن كثيرين منهم استسلموا لإغراء قبول الرشاوى وغض الطرف عن السرقة أو الجرائم المماثلة، كما تكرر على نحو ملحوظ إدانة كثيرين منهم بالفساد. ولا عجب أنهم كانوا قليلي الفائدة كشخصيات معروفة أو حتى أبطال خياليين، ولم يتغير هذا إلا في العصر الرومانسي عندما بدأ الناس يهتمون بشكل متزايد بالجانب المظلم من النفس البشرية والشخصيات الهامشية في المجتمع.
