عبر مشروعه الروائي، يواصل الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي اكتشاف مساحات جديدة في الفضاء اليومي، المعيش، وهو يخوض تجربته السردية بانحياز واضح إلى التجريب والتأمل الفلسفي. تنهل أعماله من الذاكرة الفلسطينية ومن سرديات الاحتلال والمقاومة، لكنها في جوهرها تحتفي بالحياة ذاتها كفعل مضاد للموت والخراب.
حاز جبعيتي مؤخراً جائزة «كتارا للرواية العربية» عن عمله «الطاهي الذي التهم قلبه» الصادر عن منشورات المتوسط (ميلانو)، بعد أن قدّم للقارئ عدداً من الأعمال، منها: «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»، و«رجل واحد لأكثر من موت»، و«المهزلة - وجوه رام الله الغريبة»، و«عالم 9»، و«لا بريد إلى غزة».
في هذا الحوار، يتحدث عن روايته الفائزة بالجائزة، ورؤيته للرواية الفلسطينية المعاصرة:
> تبدو رواية «الطاهي الذي التهم قلبه» نسيجاً تتداخل فيه مشاهد الاحتلال الإسرائيلي ورهافة الحواس والروائح، وكأنها تجعل من الإحساس فعل مقاومة في ذاته، كيف تأسس لديك هذا العالم؟
- لم أنطلق من رغبة في قول الأشياء الكبيرة، وإنما من تفاصيل شخصية وذكريات صغيرة تستبطن المعنى. الاحتلال آلة جبّارة لمحو الذاكرة ومحاربة الإحساس بالحياة. من هنا انبثق سؤالي: ماذا يعني الطعام في حياة شعبٍ يعيش تحت القهر؟ وجدت في الطهي فعل مقاومة، فالإحساس يصبح ذاكرة، والذاكرة تتحوّل إلى صمود. أردت أن أكتب عن إنسان يصرّ على الحياة، حتى وإن وجد نفسه محاصراً بالفقد والغياب.

> في الرواية، يخترع البطل قاموساً شمّياً خاصاً به، يضع فيه روائح جدته في المقدمة، كيف طوّرت من الروائح عالماً موازياً لفهم السردية الفلسطينية؟
- الرائحة في الرواية تتجاوز كونها عنصراً حسّياً فقط، حتى إنها باتت لغة موازية للسرد، تحمل ما تعجز اللغة المنطوقة عن قوله. حين يخترع البطل قاموسه الشمّي، فهو يحاول أن يستعيد ذاكرته من خلال الحواس، لا الكلمات. رائحة الجدة تمثّل الذاكرة الأولى التي لم تُلوَّث بالاحتلال والنسيان. سعيت في الرواية لأن تكون الروائح خيطاً يربط الفرد بالجماعة، والماضي بالحاضر.
> البطل يصف فقدانه القدرة على ممارسة مهنة الطهي بأنه «فقد أجمل جزء من حياته»، هل كنت تكتب عن العجز كجوهر لتجربة الإنسان الفلسطيني؟
- العجز في الرواية تجلٍّ لفقدان المعنى تحت وطأة الاحتلال. حين يفقد البطل قدرته على ممارسة مهنة الطهي، فهذا يفقده أيضاً وسيلته في التواصل مع العالم، ومع ذاكرته، ومع ذاته. كتبت عن العجز بوصفه تجربة إنسانية تتجاوز الفلسطيني لتلامس جوهر الوجود نفسه: كيف نصمد حين تُسلب منّا أدوات الحياة؟ في سياق الاحتلال، يصبح العجز مرآة لمدى عمق ما يُسلب من الإنسان. ومع ذلك، يظل في داخله توقٌ خفيّ للحياة وتحقيق أحلامه.
> هل تأثرت بالكاتب الألماني باتريك زوسكند وروايته الأشهر «العطر» في روايتك، خصوصاً في حضور الرائحة كمفاتيح للمعرفة والهُوية؟
- لا يمكن إنكار أن رواية «العطر» تركت أثراً فيّ، كما تركت في أجيال من الكتّاب، لكنها لم تكن مرجعاً مباشراً بقدر ما كانت مثالاً على إمكانية تحويل الحاسّة إلى أداة سردية. في روايتي، الرائحة ليست بحثاً عن المعرفة، وإنما عودة إلى الجذور، وحفاظ على هويةٍ مهددة بالطمس. إذا كان زوسكند جعل الرائحة مدخلاً إلى الهوس بالقتل، فقد جعلتها أنا طريقاً إلى الذاكرة والحياة.
> في «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» يبدو البطل وهو يتراوح بين اليوميات والخيال في حالة بحث نهمة عن حكاية. حدثنا عن مفارقات البطل ولماذا شوبنهاور تحديداً؟
- بطل «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» يعيش في مفارقة دائمة بين البساطة الظاهرة والعُمق. إنه عامل يوميّ يبحث عن المعنى وسط رتابة الحياة، فيغدو غسل الصحون فعلَ تأمل، والمطبخ مساحة للفلسفة. شوبنهاور بالنسبة له صوت الإنسان الذي رأى في الألم جوهر الوجود. حاولت في هذا النص أن أهبط بالفكر والفلسفة إلى أكثر الأماكن هامشية.
> بطل «لا بريد إلى غزة» في المقابل يعلو بأحلامه، ويجد نفسه محكوماً بمصير العمل كحفّار للقبور، من أين تستمد ملامح أبطالك؟
- أبطال رواياتي يولدون من تقاطع الذاتي بالجمعي، ومن تفاصيل الحياة اليومية الفلسطينية. بطل «لا بريد إلى غزة» يعلو بأحلامه، إلا أنه يصطدم بواقعٍ قاسٍ يفرضه الاحتلال، فيصبح عمله حفّار قبور رمزاً للموت المستمر الذي يحيط به. أستلهم ملامح شخصياتي من وجوه الناس العاديين وحركاتهم وأحلامهم الصغيرة التي تتشبث بالحياة رغم كل شيء. في فلسطين، يتحوّل الصمود إلى فعل إنساني يومي، حتى في أحلك اللحظات.
> المخزون التراثي دائماً ركيزة أساسية في الرواية الفلسطينية، هل تشغلك فكرة تقديم أبطالك بعيداً عن الصورة النمطية المطروحة عن البطل الفلسطيني؟
- يشغلني تقديم شخصيات فلسطينية تنبض بالحياة والإنسانية قبل أي شعور بالبطولة أو التضحية. أرغب في إظهار أبعاد الفلسطيني الكاملة: ضحكه وحزنه، أحلامه وخيباته، بعيداً عن الصور النمطية التقليدية. إن المخزون التراثي خيط يربط الماضي بالحاضر، لكنه ليس أداة لتجميل الواقع، وإنما نافذة لفهم التجربة الإنسانية الفلسطينية. يواجه أبطالي الحياة بما فيها من عبث وأمل، ليكونوا صادقين قبل أن يكونوا رموزاً. بهذا، يتحول العمل الروائي إلى مساحة للتأمل والاعتراف بالتعقيد الإنساني.
> تبرز الرواية الفلسطينية بشكل متنامٍ على قوائم الجوائز العربية... كيف تفسّر هذا الحضور؟
- الحضور المتزايد للرواية الفلسطينية على قوائم الجوائز العربية يعكس اهتمام القرّاء والنقاد بالعمق الإنساني والتجربة الخاصة التي تحملها، وليس فقط بالبعد السياسي. هناك انفتاح متنامٍ على الرؤى الجمالية، إذ بدأ النقد العربي يقدّر التجريب السردي والتنوع الأسلوبي والقدرة على الجمع بين الحكاية الفردية والجماعية. الرواية الفلسطينية اليوم تُقرأ بوصفها مساحة للتأمل في الإنسان والحياة، بعيداً عن مجرد التعاطف مع الضحية. هذا الاهتمام يعزز الثقة في قدرة الأدب على تقديم صوت نابض بالحياة، متجاوزاً الصور النمطية.
> بماذا يلهمك تتويجك أخيراً بجائزة «كتارا»، وهل أنت بصدد العمل على رواية جديدة في الوقت الراهن؟
- تتويجي بجائزة كتارا مصدر فخر شخصي، لكنه أيضاً مسؤولية كبيرة تجاه الأدب الفلسطيني. تؤكد الجائزة أن التجربة الفلسطينية قادرة على الوصول بعيداً عن الحدود السياسية، وأن صدى أصواتنا الأدبية حاضر عالمياً. أعمل حالياً على مشروع روائي جديد، أحاول من خلاله استكشاف أبعاد جديدة للحياة اليومية الفلسطينية، مع الاستمرار في اللعب بالزمن والذاكرة والحواس. الكتابة بالنسبة إليّ دائماً رحلة للتجريب والتأمل، وفرصة لإعادة صياغة العالم من منظور إنساني.
