بطلات شكسبير يتحدثن عن أنفسهن

يشكون من أن الشاعر لا يمنحهن اهتماماً كافياً مثل الرجال

هاريت والتر
هاريت والتر
TT

بطلات شكسبير يتحدثن عن أنفسهن

هاريت والتر
هاريت والتر

إذا ذكر اسم شاعر الإنجليزية الأكبر وليم شكسبير (1564 - 1616) ترد على الذهن لأول وهلة أسماء أبطاله من أمثال هاملت وماكبث وعطيل ولير ويوليوس قيصر، أو أشراره من أمثال المرابي شايلوك الذي أراد أن يقتطع رطلاً من لحم المدين، أو ياجو الذي سمم ذهن عطيل وجعله يشك في عفاف زوجته البريئة دزدمونة. ولكننا قلما نفكر في بطلاته من النساء، أو نحن على الأقل لا نفكر فيهن إلا من حيث هن توابع - في حبكة المسرحية - للرجال، ولسن كائنات لها وجودها الإنساني المستقل وأفكارها ومشاعرها وخيرها وشرها. وهكذا فإننا لا نذكر أوفيليا إلا من حيث علاقتها بهاملت، ولا جوليت إلا لأنها محبوبة روميو، ولا كورديليا إلا لأنها ابنة الملك لير.

ظل الحال كذلك في أغلب النقد المكتوب عن شكسبير في القرن التاسع عشر إلى أن بدأ أنصار الحركة النسوية يوجهون النظر إلى هذا الخلل الفادح في قراءتنا لأعماله، وبدأت تظهر كتب كاملة عن النساء في مسرحه، أحدثها الكتاب الذي أقدمه هنا: كتاب عنوانه «إنها تتحدث! ما كانت نساء شكسبير خليقات أن يقلنه»

She Speaks! What Shakespeare›s Women might have Said

من تأليف الناقدة هاريت والتر Harriet Walter التي سبق أن أصدرت كتاباً عنوانه «بروتس وبطلات أخريات» (2016). والمفارقة المقصودة في العنوان واضحة، فبروتس (في مسرحية «يوليوس قيصر») رجل وليس امرأة.

والكتاب صادر عن دار النشر الإنجليزية «فيراجو» Virago وهي دار متخصصة في نشر الأدب النسائي إبداعاً ونقداً. يقع في 238 صفحة، وتحليه رسوم بريشة الرسامة كاي بلجفاد Kay Blegvad.

الكتاب ناطق بلسان بطلات شكسبير؛ إذ يتحدثن من منظور أنثوي شاكيات من أن الشاعر لا يمنحهن في مسرحياته اهتماماً كافياً كالاهتمام الذي يوليه لأبطاله من الرجال رغم أهمية الدور الذي يلعبنه. فليدي ماكبث، مثلاً، هي التي حضت زوجها على قتل الملك دنكان واعتلاء العرش مكانه، وعقوق الابنتين ريجان وجونريل (على العكس من وفاء شقيقتهما الصغرى كورديليا) هو ما دفع بالأب العجوز لير إلى حافة الجنون، وهكذا.

تقدم المؤلفة لكل بطلة من بطلات شكسبير بمقدمة وجيزة تشرح شخصيتها ودوافعها وتصرفاتها. وفي عرض للكتاب في «ملحق التايمز الأدبي» (28 مارس/ آذار 2025) تلاحظ الناقدة لوي بوتر Louis Potter أن شكسبير حرص على تنويع اللغة والأعاريض التي تتكلم بها الشخصية: فميراندا (في مسرحية «العاصفة») تتحدث بشعر حر متحرر من بحر الأيامب الخماسي الذي تتحدث به سائر الشخصيات (بحر الأيامب مكون من خمس تفاعيل كل منها يتضمن مقطعين أولهما غير منبور والثاني منبور). والأميرة كاثرين الفرنسية (في إحدى مسرحيات شكسبير التاريخية) تتحدث بخليط من الإنجليزية والفرنسية.

تقدم المؤلفة لكل بطلة من بطلات شكسبير بمقدمة وجيزة تشرح شخصيتها ودوافعها وتصرفاتها

وتضم مؤلفة الكتاب كاليبان (وهو مسخ ذكوري شائه في مسرحية «العاصفة» وابن لساحرة تدعى سيكوراكس) إلى زمرة البطلات لأنها تعده - مثل الجني اللطيف آريل في المسرحية نفسها - امرأة مسجونة.

وجرترود أم هاملت تقر بأنها رسمت صورة مثالية جميلة لانتحار أوفيليا غرقاً (للشاعر والكاتب المسرحي الألماني برخت قصيدة يصف فيها موت أوفيليا). ومن ابتكارات المؤلفة (التي لم ترد عند شكسبير) أنها تجعل أوفيليا تقول إنها حذت حذو هاملت فلم تكتفِ فقط بالتظاهر بالجنون وإنما تظاهرت أيضاً بأنها ماتت، وهي ما زالت على قيد الحياة، ثم لجأت إلى دير جمع شمل نساء ينشدن التوبة والمغفرة. وليدي كابيولت، أم جوليت، تعبر عن أسفها لأن صلتها بابنتها جوليت لم تكن صلة وثيقة.

وفي مجال النظم تعيد مؤلفة الكتاب صياغة مونولوج لأوفيليا مستخدمة أنصاف قوافٍ. وفي مواضع أخرى تستخدم مزدوجات (أي أزواجاً من الأبيات) مقفاة، وشعراً حراً، وأغنيات، وسوناتات مكونة من أربعة عشر بيتاً، ومونولوجات نثرية.

ولا أدلّ على أهمية الدور المحوري الذي تلعبه النساء في مسرح شكسبير من أنه يضع على ألسنتهن بعضاً من أخلد الشعر وأعلقه بالذاكرة كأن تقول ليدي ماكبث، مثلاً، وهي تغري زوجها بقتل الملك وقد لمست في الزوج تردداً: «أنا أرضعت من لباني وأدري رقة الحب للوليد الرضيع ـ غير أني لو كنت أقسمت في الأمر يميناً كما عقدت يمينك ورنا الطفل باسماً نحو وجهي لانتزعت الثدي الذي في لثاه الغض حتى أدق عظم دماغه» (من ترجمة محمد فريد أبو حديد للمسرحية شعراً مرسلاً).

كلمات مخيفة لو صدرت عن رجل لراعتنا، فما بالك وهي تصدر عن امرأة يفترض أن صدرها - الذي عرف الأمومة - يدر بالحنان والرحمة!

ومن تمام عبقرية شكسبير، وعمق فهمه لتعقيدات الطبيعة البشرية، أنه لا يجعل من قائلة هذه الكلمات شراً خالصاً؛ فهي، من نواحٍ أخرى، زوجة فاضلة مخلصة لزوجها تريد له أن يرقى إلى أعلى المراتب وإن أخطأت تبيُّن السبيل.

ثم هي لا تلبث - بعد الخوض في بحر الدماء - أن يتولاها الشعور بالذنب فتختل قواها العقلية، وتسير في نومها وهي تهذي قبل أن تموت. هكذا يرسم شكسبير الشخصية بكل أبعادها من خير وشر. أو كما تقول الشاعرة آجنس لي Agnes Lee في قصيدة لها عن شكسبير (لندع الكلمة الأخيرة للنساء):

لأنه مغني عصر، تغنى

بعواطف العصور.

كانت الإنسانية ذاتها هي التي وثبت

إلى الحياة على صفحاته.

لم يرو حكاية كائن واحد ـ إنما تنبض

كل الكائنات على قلمه.

وعندما كان يجعل رجلاً يسير في الشارع

كان مليون رجل يسيرون من ذلك الحين فصاعداً.


مقالات ذات صلة

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

ثقافة وفنون عائشة الأصفر

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

برز اسم عائشة الأصفر في المشهد السردي الليبي، عبر مجموعة من الروايات التي توالى إصدارها على مدار سنوات طويلة، بدأتها برواية «اللي قتلوا الكلب»،

عمر شهريار
ثقافة وفنون حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

صدر عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت وعمّان، كتاب «رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة» للكاتب السوري حسام الدين محمد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

قف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها،

طالب عبد الأمير
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب

«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
TT

إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب

«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»

أعلن مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، الأربعاء، نتائج الدورة الثانية عشرة لـ«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»، في ثلاثة فروع هي: فرع الثقافة (المؤسسات الثقافية الخاصة)، وفرع الفنون (النحت)، وفرع الآداب (السيرة الذاتية).

وخُصصت جائزة هذا العام للعمانيين والعرب، في مجالات المؤسسات الثقافية الخاصة، والنحت، والسيرة الذاتية.

ففي فرع الثقافة (المؤسسات الثقافية الخاصة)، فازت «مؤسسة منتدى أصيلة» (من المغرب)، وتُعد المؤسسة منصة ثقافية دولية تهدف إلى تعزيز الحوار الحضاري، وتنمية مدينة أصيلة المغربية، عبر تنظيم مهرجانات، وأنشطة فنية وأدبية وتعليمية، إضافة إلى مشاريع تنموية وإنسانية تسهم في دعم الشباب والمجتمع المحلي.

وفي فرع الفنون (النحت)، فاز عصام محمد سيد درويش (من مصر)، مواليد 1970، ويعمل أستاذاً للنحت بكلية التربية الفنية بجامعة حلوان، وشغل العديد من المناصب، منها رئيس مجلس أمناء «مؤسسة آدم حنين للفنون»، وأنجز العديد من الأعمال النحتية الميدانية داخل مصر وخارجها، من بينها: تمثال صالح سليم بالنادي الأهلي (2007)، وتمثال فاتن حمامة بدار الأوبرا المصرية (2018)، وتمثال الشيخ زايد بمدينة الشيخ زايد (2015)، وتماثيل توفيق الحكيم وأحمد شوقي وطه حسين بمكتبة الإسكندرية (2015).

وفي فرع الآداب (السيرة الذاتية)، فازت حكمت المجذوب الصباغ (من لبنان)، وهي حاصلة على شهادة الليسانس في الأدب العربي عام 1957، والدكتوراه في الأدب العربي من جامعة السوربون عام 1977، وعملت أستاذة في الجامعة اللبنانية، وشغلت منصب أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية، ونالت عدة جوائز مرموقة، منها جائزة مؤسسة العويس الثقافية، واختيرت شخصية العام في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2019، وصُنفت ضمن مائة مبدعة عربية أثرت العالم عام 2024.

وتهدف «جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب» إلى دعم المجالات الثقافية والفنية والأدبية؛ باعتبارها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني، والإسهام في حركة التطور العلمي، والإثراء الفكري، وترسيخ عملية التراكم المعرفي، وغرس قيم الأصالة والتجديد لدى الأجيال الصاعدة؛ من خلال توفير بيئة خصبة قائمة على التنافس المعرفي والفكري.

وتسعى الجائزة إلى فتح أبواب التنافس في مجالات العلوم والمعرفة القائمة على البحث والتجديد، وتكريم المثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر، والارتقاء بالوجدان الإنساني؛ تأكيداً على المساهمة العُمانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.


«جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تمنح محمد بن راشد جائزة الإنجاز

منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
TT

«جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تمنح محمد بن راشد جائزة الإنجاز

منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)

أعلنت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تكريم ومنح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «جائزة الإنجاز الثقافية» ضمن دورتها التاسعة عشرة، تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم.

وجاء في البيان الصادر عن مجلس أمناء الجائزة: «حيث يُكرَّم الفكر لا الاسم، والمسيرة لا المنصب، وقف مجلس الأمناء أمام تجربة لا تشبه إلا ذاتها، وبعد تأمل عميق في أثر هذه التجربة وما تركته من بصمات في الثقافة والتنمية والإنسان». وأضاف: تقرّر منح «جائزة الإنجاز» للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «تقديراً لمسيرة استثنائية جعلت من العطاء أسلوب حياة، ومن التنمية رسالة، ومن الإنسان محوراً، ومن المستقبل هدفاً سامياً».

وأكد بيان الجائزة أن مسيرة الشيخ محمد بن راشد، «الممتدة عبر العقود، لم تكن مجرد إنجازات، بل كانت رؤية تحوّل الإنسان إلى محور كل تقدم، والمعرفة إلى أداة للتغيير، والسلام إلى نهج عالمي، والعطاء إلى إرث خالد، وأن كل مشروع، وكل مؤسسة، وكل جائزة أطلقها، كانت شعلة أمل، ومصدر إلهام، ومنارة للعطاء والتميز».

وأضاف المجلس، في بيانه، أن «جائزة الإنجاز» تُمنح للشيخ محمد بن راشد، «اعترافاً بمسيرة استثنائية، وبصمات لا تُمحى، وقيادة صنعت نموذجاً فريداً لنهضة شاملة، تجمع بين الإنسانية، والمعرفة، والثقافة، والاقتصاد، والسلام، وتعيد تعريف مفهوم الإنجاز».

وتطرق البيان إلى جوانب عديدة من إسهامات حاكم دبي والجهود التي قادها وفكره الريادي والمبادرات والمؤسسات النوعية التي أسسها وأطلقها في المجالات المختلفة، مضيفاً أن الشيخ محمد بن راشد لم يقتصر دوره «على الحكم والقيادة السياسية والتنمية الاقتصادية، بل جعل من الثقافة والمعرفة والعلوم والابتكار ركيزة أساسية للنمو المستدام، لتحويل العطاء الإنساني إلى منظومة متكاملة ومستدامة، تدعم المجتمعات، وتمكّن الأفراد، وتفتح أبواب الأمل دون تمييز بين دين أو عرق، عبر محاور رئيسية تعكس فلسفته في التنمية الإنسانية».

ومن بين العديد من المشروعات التي توقف عندها بيان مجلس أمناء الجائزة، إطلاق مبادرة «تحدي القراءة العربي»، بوصفها أكبر تظاهرة قرائية من نوعها باللغة العربية على مستوى العالم، ومسهماً رئيسياً في إحداث تأثير نوعي في مشهد الثقافة العربية، على جميع الصعد من حيث اتساع دائرة المشاركة، وترسيخ ثقافة القراءة في نفوس الأجيال الجديدة، والاهتمام باللغة العربية.

واستطاعت هذه المبادرة الملهمة التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في عام 2015، استقطاب أكثر من 163 مليون طالب وطالبة للمشاركة في منافساتها. كما انتزعت تقديراً كبيراً على المستويين الشعبي والرسمي في الوطن العربي، مرسخة رؤيته الملهمة بأن القراءة هي حجر الأساس لكل نهضة فكرية وتنموية.

كما تضم مبادراته «نوابغ العرب»، وهي جائزة سنوية أُطلقت عام 2022م، وتهدف إلى اكتشاف النوابغ، وتقديرهم، وتمكينهم، وتعظيم أثر عملهم في العالم العربي، وتكريم المتميزين في العالم العربي وتسليط الضوء على أدوارهم الداعمة لاستئناف إسهام المنطقة العربية في الحضارة الإنسانية.

كما أشار البيان إلى تأسيس مكتبة محمد بن راشد، تحت مظلة مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، لدعم وتعزيز استراتيجية الدولة الشاملة في القطاع الثقافي والمعرفي، والإسهام في تعزيز وإثراء المشهد الفكري والإبداعي والمعرفي في العالم العربي، وتكريس أهمية تحقيق مكتسبات ثقافية ومعرفية بين أفراد المجتمع بوصف الثقافة والمعرفة من عوامل بناء حياة أرقى ومستقبل أفضل للمجتمعات البشرية كافّة.

وتطرّق كذلك إلى إطلاق «المدرسة الرقمية»، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 ضمن مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، أول مدرسة رقمية متكاملة من نوعها، ودورها في تمكين الطلاب بخيارات التعلم الرقمي في المناطق التي لا تتوفر فيها الظروف أو المقومات التي يحتاج إليها الطلاب لمتابعة تعليمهم، وتوفيرها خياراً نوعياً للتعلم المدمج والتعلم عن بُعد، بطريقة ذكية ومرنة، مستهدفة الفئات المجتمعية الأقل حظاً.

كما أشار بيان مجلس أمناء الجائزة إلى إطلاق «جائزة محمد بن راشد للغة العربية»، التي تعكس فِكر الشيخ محمد الاستشرافي وجهوده في تعزيز مكانتها بين لغات العالم، ومواكبة التطورات التكنولوجية والتقنية والمعرفية، وتُسهم في زيادة التقدير العالمي لها ورفع الوعي بجماليات لغة الضاد، مرسخة مكانتها بعد تسع دورات من إطلاقها، منصة عالمية للإبداع والابتكار في خدمة اللغة العربية، بالإضافة إلى مبادرة إصدار معجم للمصطلحات العربية المستحدثة في الجوانب التقنية والعلمية.

كما توقف مجلس أمناء الجائزة عند النتاج الشعري والأدبي الغزير للشيخ محمد بن راشد، وإسهاماته المتنوعة في العديد من المؤلفات والكتب في مجالات عدة التي شكلت إضافة نوعية للمكتبة الوطنية والعربية، ورصيداً وبصمة مميزة للثقافة والإبداع والفكر والمعرفة الإنسانية، ومنها كتب: «علمتني الحياة»، و«رؤيتي»، و«قصتي»، و«ومضات من فكر»، و«تأملات في السعادة والإيجابية»، و«ديوان زايد»، و«ومضات من شعر»، و«40 قصيدة من الصحراء»، و«قصائدي في حب الخيل»، و«القائدان البطلان»، و«عالمي الصغير»، بالإضافة إلى «من الصحراء إلى الفضاء»، و«ومضات من حكمة»، و«أقوال محمد بن راشد آل مكتوم».

كما أشار البيان إلى جانب من الجوائز التي أطلقها في مجالات الثقافة والفنون والأدب والعلوم وتشجيع حفظ وتلاوة القرآن الكريم، ومنها جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وجائزة «نوابغ العرب في الهندسة والتكنولوجيا، والطب، والاقتصاد، والعلوم الطبيعية، والأدب»، لتؤكد الريادة الإماراتية في الفنون والثقافة على المستويين المحلي والعالمي.


نقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

نقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة

خرجت من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، منها ثلاث قطع منمنمة صُنعت من صدف عرق اللؤلؤ، تزيّنها نقوش تصويرية، تبدو فريدة من نوعها في هذا الميدان. تتشابه قطعتان بشكل شبه كامل، وتُمثّل كل منهما رأس أسد كما يبدو، فيما تمثّل القطعة الثالثة رأس رجل ملتحٍ. تظهر هذه الرؤوس الثلاثة في وضعية جانبية، وتتبع طرازاً فنياً جامعاً يعكس أثر التقليد الفني الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف.

تقع مليحة في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وأبرز معالمها مجموعة من المقابر كشفت عنها سلسلة متواصلة من حملات المسح والتنقيب. انطلقت أولى هذه الحملات خلال عام 1973، وأشرفت عليها يومذاك بعثة عراقية، تبعتها بعثة فرنسية عملت في هذا الموقع من عام 1984 إلى عام 1994. في المقابل، دخلت بعثة محلية تابعة لـ«هيئة الشارقة للآثار» في هذا الحقل تحت إدارة الأستاذ صباح عبود جاسم، وكشفت عن مدفن كبير حوى 26 قبراً، منها 12 قبراً مخصّصة للجمال، ضمّ قبران منها حصانين. دُفنت هذه البهائم كما يبدو على مقربة من أصحابها الذين احتلوا 14 قبراً، وأظهرت الأبحاث اللاحقة أن رفاتها يعود إلى جِمال في سن اليُفُوع، منها 9 جمال عربية أصيلة و3 جمال هجينة.

تحوّلت هذه المقبرة الغريبة التي تُعرف باسم «البلية» إلى موقع سياحي بعد أن أعيد بناؤها وفقاً للمقاييس العلمية المتبعة عالمياً، ودخلت أبرز اللقى الأثرية التي خرجت منها إلى «مركز مليحة للآثار» الذي شُيّد على مقربة من قبر دائري ضخم يعود إلى العصر البرونزي، يُعرف باسم ضريح أمّ النار، وتمّ افتتاح هذا المركز في مطلع عام 2016. حوت مقبرة «البلية» مجموعات متنوعة من اللقى تشابه تلك التي خرجت من المقابر الأثرية التي تمّ استكشافها في إقليم عُمان، ومنها مجموعة من الأواني المصنوعة من الفخار والزجاج والرخام والبرونز، ومجموعة من الرماح ورؤوس السهام، ومجموعة من الحلى وقطع الزينة الفردية، إضافة إلى مجموعة مميزة تتمثل بفخاخ وأقراص ذهبية وحلقات برونزية، تشكّل جزءاً من الزينة الخاصة بالخيول.

إلى جانب هذه المجموعة المميزة، تحضر ثلاث قطع منمنمة مزيّنة بنقوش تصويرية، صُنعت ممّا يُعرف في قاموس علم الآثار بـ«أمّ اللؤلؤ»، أي من الطبقة الداخلية اللامعة الخاصة بصدفة الرخويات التي يتكوّن منها اللؤلؤ، وتُعرف هذه المادة الصدفية كذلك بعرق اللؤلؤ، وهو المصطلح الأكثر شيوعاً. عُثر على هذه القطع المنمنمة في ركن ضمّ قبرين من قبور مقبرة «البلية»، وهما القبران اللذان حملا الرقم 5 والرقم 6 في التقرير الخاص باستكشاف هذا الموقع، وهي على شكل ثلاثة رؤوس في وضعية جانبية، صُوّرت ملامحها بأسلوب فنيّ واحد.

تُمثّل قطعة من هذه القطع المنمنمة رأساً آدمياً، يرتفع فوق كتفين تشكّلان قاعدة له، وهو رأس رجل ملتحٍ، يعلو جبينه رباط ينعقد فوق شعر كثيف، تتطاير خصلاته الطويلة من الخلف، وتشكّل شبكة من الخطوط الملتوية المتجانسة. تحتل العين المساحة الكبرى من هذا الوجه، وهي على شكل لوزة ضخمة مجرّدة، يحدّها جفن مقوّس عريض، يعلوه حاجب مشابه. وتحضر في وسط هذا المحجر الضخم دائرة صغيرة تمثّل البؤبؤ. الأنف كبير وبارز، وهو على شكل مثلث تتصل قمّته مباشرة بخط الجبين المستقيم. الفم مطبق، ويتمثّل بخط أفقي يفصل بين شفتين تغيبان خلف خصل لحية طويلة، تحتلّ الجزء الأسفل من هذا الوجه.

في موازاة هذا الرأس الآدمي، يحضر رأس بهيمي تتكرّر ملامحه بشكل شبه مطابق على القطعتين المقابلتين. يأتي هذا التكرار بشكل معاكس؛ إذ يظهر رأس محدّقاً في اتجاه اليمين، ويظهر الرأس الآخر محدّقاً في اتجاه اليسار. يبدو هذا الرأس البهيمي من الفصيلة السنورية، ويمثّل على الأرجح رأس أسد مزمجر يكشر عن أنيابه. تماثل عين هذا الأسد في تكوينها عين الإنسان الملتحي، ويشهد هذا التماثل لوحدة الأسلوب المتبع في النقش. الأنف مقوّس، وتعلوه شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية تمثل الوبر، مع دائرة صغيرة في الجزء الأسفل تمثّل المنخر. الفك العلوي مقوّس، والفك الأسفل مستقيم، والشدق مفتوح في وسطهما، وقوامه صف من الأنياب المتراصة. الأذن كتلة بيضاوية مجرّدة، واللبدة ظاهرة في الجزء الخلفي من الرأس، وخصلها أشبه بالحراشف.

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في المقابر الأثرية الخاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة عن مجموعة كبيرة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، تمثّل تقليداً فنياً محلياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تخرج قطع مقبرة «البلية» الثلاث عن هذه المجموعة بشكل جليّ؛ إذ تعتمد أسلوباً فنياً مغايراً، واللافت أن هذا الأسلوب الخاص يشبه إلى حد كبير التقليد الفني العريق الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف، وأشهرها تلك التي خرجت من مدينة أور في جنوب العراق، وتلك التي خرجت من مملكة ماري على الضفة الغربية لنهر الفرات، في طرف الجهة الشرقية من سوريا.

نشأت مستوطنة مليحة في القرن الثالث قبل الميلاد، وازدهرت على مدى ستة قرون من الزمن، والأرجح أن هذه النقوش المصنوعة من عرق اللؤلؤ جاءت من الخارج، كما توحي فرادة أسلوبها في محيطها. صُنعت هذه القطع الفنية على الأرجح في ناحية من نواحي الشرق الأوسط الأوسع، شكّلت فنونها التصويرية استمرارية خلّاقة للتقاليد التي تأسست قديماً في زمن السومريين. وتحديد هويّة هذه الناحية يظلّ افتراضياً، نظراً لتعدّد القراءات والاحتمالات التي تواجه الباحث في هذا الميدان الشائك.