لم يكن وصول جاك بريل إلى باريس عام 1953 قادماً من مسقط رأسه بروكسل حدثاً ذا أهمية، فقدومه جاء بناء على دعوة جاك كانتي، أحد أبرز الوجوه المتخصصة في اكتشاف المواهب الغنائية وإطلاقها، فبفضله عُرف واشتهر مغنون وموسيقيون كبار مثل إيديث بياف وجورج بروسن وسيرج غينزبورغ. وكان بريل قد أرسل إليه تسجيلاً خاصاً لبعض أغانيه التي نظمها ولحنها وغناها أثناء عمله في مصنع صناديق الورق المقوى الذي قضى فيه حتى لحظة مغادرته إلى باريس خمس سنوات.
ولم يكن هناك ما يشير إلى أن نجاحاً خارقاً بانتظار الشاب بريل ابن الرابعة والعشرين، الذي تزوج وهو في سن العشرين ولديه طفلتان، والذي عاش حياة بورجوازية محافظة وأرسِل منذ صغره إلى مدارس كاثوليكية.
غير أن الشيء الذي ميزه عن غيره هو فشله في الدراسة، رغم براعته في كتابة القصص القصيرة والشعر منذ سن مبكرة وحبه الشديد للمطالعة، حيث تعرف على شعراء فرنسا الكبار في سن مبكرة مثل فيرلين وبودلير ورامبو وفلاسفة معاصرين مثل كامو وسارتر.
مع فشله للمرة الثالثة في أداء امتحانات البكالوريا طردته المدرسة نهائياً، فما كان من أبيه إلا أن يعرض عليه العمل في مصنعه، وربما تهيئة له لامتلاكه المصنع مستقبلاً. لكن جاك بريل كان رافضاً لأن يلعب دور المدير الآمر لعماله فبدلاً عن ذلك كان يشاركهم في لعب كرة القدم ويغني أمامهم وهو يعزف على الغيتار الذي تعلمه وهو في سن الخامسة عشرة.
وخلال سنوات عمله المملة تلك في مصنع أبيه انضم بريل لمنظمة خيرية في بروكسل تساعد المعوزين في دور الأيتام والمستشفيات ودور كبار السن، ولعل هذه التجربة جعلته على تماس مع معاناة ساكني هذه المؤسسات وعكسها لاحقاً في بعض قصائده.
أمام قراره بالسفر إلى باريس حذره الأب من أنه في حالة فشله هناك لن يمنحه فرصة للعودة إلى عمله السابق في المصنع. وكأن مدينة النور التي كانت تضج بالفنون والأفكار اليسارية والأدب والمسرح والحب في ذلك العقد سرّعت من تجاوزه لنمط الأغاني التي كان يؤلفها ليندمج في القضايا المصيرية السائدة آنذاك. فمع بلوغ حرب التحرير الجزائرية ذروتها عام 1956 جاءت أغنيته «عندما يكون لدينا الحب فقط» وأداؤه لها في العديد من المسارح لحظة تألق تجاوزت حدود فرنسا، لتصبح هذه الأغنية أشبه بإعلان عالمي مناصر لمعاناة الجزائريين من نير الاستعمار الفرنسي، وضد الحرب في فيتنام لاحقاً.
ما بين عامي 1956 و1959 أصدر بريل أربعة ألبومات، وجاء الأخير الذي ضم أغنيتي «لا تتركيني» و«أمستردام» ليوسع دائرة محبيه ومقلديه ففي العالم الأنجلو-ساكسوني أدى عدد كبير من المغنين «لا تتركيني» بكلمات إنجليزية، ووصل عدد النسخ المختلفة منها إلى 270 أداء. فمن بين من أداها فرانك سيناترا وشيرلي باسي وبربارة سترايسند ونينا سيمون. وكان جاك بريل مصدر إلهام كبير للأميركي بوب ديلان والكندي ليونارد كوهين، فبفضله انفتحت الأغنية لديهما لتتجاوز موضوعات الحب إلى مواضيع تعنى بالتجربة الإنسانية بما فيها الموت والندم والأمل واليأس وغيرها.
وإذا كان العديد من النقاد الأدبيين وجمهوره الواسع اعتبروا أغانيه قصائد فإنه من جانبه ظل يرفض اعتبارها شعراً لأن القصيدة كما يراها ذات تأثير أعمق وأقل مباشَرةً في حين أن الأغنية تمس المتلقي مباشرة.
يُعتبَر عقد الستينيات بالنسبة لبريل أكثر فترات حياته غنى وتنوعاً فخلاله قدم ما يقرب من 80 أغنية وساهم في عدة مناسبات كبرى نظمتها حركات شبابية يسارية في أوروبا بضمنها تلك المعادية للتسلح النووي.
في أوج نجاحه وانتشار أغانيه في العالمين الفرانكفوني والأنجلو- ساكسوني قرر جاك بريل عام 1967 التوقف عن تقديم حفلاته على خشبات المسرح، والتفرغ للسينما حيث مثل في أكثر من عشرة أفلام بما فيها فيلمان من إخراجه رشحا لجائزة السعفة الذهبية. ومع حلول عام 1971 قرر التوقف عن كل النشاطات الفنية والتفرغ للسفر بقاربه حول العام لكن المرض لم يمهله طويلاً، إذا شُخِّص لديه سرطان الرئة عام 1973 وفي يوم 9 أكتوبر 1978 توفي بريل في جزيرة نائية جميلة هي هيفا أوا، في بولينزيا الفرنسية، حيث دفن في مقبرة أتونا على بعد أمتار قليلة من ضريح الرسام الفرنسي بول غوغان.
هنا ترجمة لثلاث قصائد مغناة:
أغنية العشاق القدامى
بالتأكيد، كانت لنا عواصف
عشرون سنة حب، هذا هو الحب المجنون
ألف مرة تأخذين حقائبك
وألف مرة أرحل
وكل قطعة أثاث تتذكر
في هذه الغرفة الخالية من مهد
شظايا أعاصير قديمة
لا شيء يشبه غيره
أنتِ فقدتِ طعم الماء
وأنا الانتصار
لكن حبيبتي
حلوتي، رقيقتي، حبي المذهل
من الفجر حتى نهاية النهار
أحبكِ مرة أخرى، أنت تعرفين، أني أحبك
أنا، أعرف كل تعاويذك
أنتِ تعرفين كل شعوذاتي
أنت حميتني من فخ إلى فخ
وأنا أضعتك بين الحين والآخر
بالتأكيد، أنتِ اتخذتِ لك بعض العشاق
يجب على المرء أن يمرر الوقت
ويجب على الجسد أن يبتهج
لكن في نهاية المطاف، في نهاية المطاف،
يجب أن تكون لنا موهبة
كي نكون عجوزين من دون أن نكون راشدين
حبيبتي
جميلتي، رقيقتي، حبي المذهل
من الفجر الصافي حتى نهاية النهار
أحبك مرة أخرى، أنت تعلمين، أنا أحبك
كلما مضى الزمن في موكبه،
زاد فينا العذاب الذي لا يرحم،
أليس أسوأ الأفخاخ جميعها
أن يعيش العاشقان في سلام؟
صحيح أنك تبكين أقل من قبل،
وأنا يمزقني الألم متأخراً أكثر،
صرنا نحمي أسرارنا أقلّ،
ونترك للصدفة حرية أقل
نرتاب من جريان الماء
لكنها تظل دائماً الحرب الحنون
آه، يا حبي.
القلوب الرقيقة
هناك من له قلب كبير جداً
نستطيع دخوله دون أن نطرق على بابه
هناك من له قلب كبير جداً
إلى الحد الذي لا نرى إلا نصفه
هناك من له قلب جد هش
نستطيع تحطيمه بإصبع واحد
هناك من له قلب هش أكثر مما ينبغي
كي يعيش مثلي ومثلك
لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار
عيون فيها لمسة خوف
خوف من تفويت القطار
المتجه صوب باريس
هناك من له قلب رقيق جداً
إلى الحد الذي يستريح عليه طائر القرقف الأزرق
هناك من له قلب رقيق أكثر مما ينبغي
نصفه بشري ونصفه ملائكي
هناك من له قلب واسع جداً
يجعله في سفر دائم
هناك من له قلب واسع أكثر مما ينبغي
كي يعيش من دون سراب
لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار
عيون فيها لمسة خوف
خوف من تفويت القطار
المتجه صوب باريس
هناك من له قلب خارج صدره
ولا يستطيع إلا أن يقدمه للآخرين
قلب تماماً في الخارج
كي يكون في خدمتهم
ذلك الذي قلبه في الخارج
يكون هشاً ورقيقاً أكثر مما ينبغي
بحيث تكون الأشجار الميتة اللعينة
غير قادرة على سماعه
لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار
عيون فيها لمسة خوف
خوف من تفويت القطار
المتجه صوب باريس
النهر المتجمد
أن ترى النهر متجمداً
فترغب في أن يكون الفصل ربيعاً
أن ترى الأرض محترقة
فتزرع حبة وأنت تغني
أن ترى أنّ عمرك عشرون سنة
فتريد استنفاده
أن ترى فلاحاً عابراً
فيستثيرك كي تحبه
أن ترى متراساً
فتريد الدفاع عنه
أن ترى الكمين مخرباً
وبعد ذلك لا يعود إلى الظهور
أن ترى اللون الرمادي في الضواحي
فتريد أن تكون رينوار
أن ترى عدوك الدائم
فتبادر إلى إغلاق ذكراه
أن ترى بأنك قادم على الشيخوخة
فتريد أن تبدأ من جديد
أن ترى حباً يزدهر
فتريده أن يحترق
أن ترى الخوف غير مجدٍ
فتتركه للضفادع
أن ترى بأنك هش
فتغني من جديد
ذلك ما أراه
ذلك ما أريده
